عرض مشاركة واحدة
  #443  
قديم 10-07-2024, 07:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,968
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْكَهْفِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4073 الى صـ 4090
الحلقة (443)




القول في تأويل قوله تعالى:

[59] وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا .

وتلك القرى أي: قرى عاد وثمود وأضرابهم: أهلكناهم لما ظلموا [ ص: 4076 ] بالكفر والطغيان: وجعلنا لمهلكهم موعدا أي: وقتا معينا لا محيد لهم عنه. وهذا استشهاد على ما فعل بقريش من تعيين الموعد، ليتنبهوا لذلك، ولا يغتروا بتأخر العذاب. ثم أشار تعالى إلى نبأ موسى مع الخضر عليهما السلام، ذلك النبأ الذي تضمن من الفوائد والحكم وأعلام النبوة، ما لا يخفى على متبصر. كما ستقف على شذرات من ذلك. فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[60] وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا .

وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا أي: اذكر وقت قول موسى لفتاه، لا أبرح، أي: لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين. أي: المكان الذي فيه ملتقى البحرين. فأجد فيه الخضر. أو أسير زمانا طويلا إن لم أجده ثمة، فأتيقن فوات المطلب.

قال المهايمي : أي: اذكر للذين إن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا، لتكبرهم عليك، إنكم لستم بأعلم من موسى ولا أرشد منه. ولست أقل من الخضر في الهداية بل أعظم. لأنها هداية في الظاهر والباطن. وهداية الخضر إنما هي في الباطن. ولا تحتاجون في تحصيله إلى تحمل المشاق، واحتاج إليه موسى . و(الفتى) الشاب. قال الشهاب : العرب تسمي الخادم فتى، لأن الغالب استخدام من هو في سن الفتوة، وكان يوشع خادم موسى عليه السلام ومحبا له، وذا غيرة على كرامته. ولذلك اختصه موسى رفيقا له وخادما. وصار خليفة من بعده على بني إسرائيل. وفتح عليه تعالى بيت المقدس ونصره على الجبارين.
وقوله تعالى:

[ ص: 4077 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[61] فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا .

فلما بلغا مجمع بينهما أي: البحرين: نسيا حوتهما أي: خبر حوتهما، وتفقد أمره، وكانا تزوداه.

فاتخذ سبيله أي: طريقه: في البحر سربا أي: مثل السرب في الأرض، واضح المسلك، معجزة جعلت علامة للمطلوب.
القول في تأويل قوله تعالى:

[62] فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا .

فلما جاوزا أي: مجمع بينهما، وهو المكان الذي نسيا فيه الحوت: قال لفتاه آتنا غداءنا أي: ما نتغدى به: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا أي: تعبا ومشقة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[63] قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا .

قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت أي: خبر الحوت. وإسناد النسيان إليهما، أولا، إما بمعنى نسيان طلبه، والذهول عن تفقده، لعدم الحاجة إليه. وإما للتغليب، بناء على أن الناسي إنما كان يوشع وحده. فإنه نسي أن يخبر موسى بشأنه العجيب، فيكون كقوله تعالى: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وإنما يخرج من المالح: وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره أي: لك. و(أن أذكره) بدل من الهاء في (أنسانيه) أي: وما أنساني ذكره إلا الشيطان. وقد قرأ حفص بضم الهاء من غير صلة وصلا، [ ص: 4078 ] والباقون بكسرها: واتخذ سبيله في البحر عجبا أي: أمرا عجيبا، إذ صار الماء عليه سربا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[64] قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا .

قال أي: موسى: ذلك أي: المكان الذي اتخذ فيه سبيله هربا: ما كنا نبغ أي: نطلب فيه الخضر. لأنه أمارة المطلوب. وقرئ في السبع بإثبات الياء بعد الغين، وصلا لا وقفا. وبإثباتها في الحالين. وبحذفها كذلك: فارتدا على آثارهما أي: رجعا ماشيين على آثار أقدامهما يتبعانها: قصصا أي: اتباعا لئلا يفوتهما الموضع ثانيا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[65] فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما .

فوجدا أي: فأتيا الموضع المنسي فيه الحوت، فوجدا: عبدا من عبادنا التنكير للتفخيم، والإضافة فيه للتشريف. والجمهور على أنه الخضر . وسنتكلم على جملة من نبئه، بعونه تعالى، بعد تمام القصة: آتيناه رحمة من عندنا أي: آتيناه رحمة لدنية، اختصصناه بها: وعلمناه من لدنا علما أي: علما جليلا آثرناه. وهو علم لدني يكون بتأييد رباني. وسنذكر إن شاء الله تعالى العلم اللدني في آخر هذا النبأ.
القول في تأويل قوله تعالى:

[66] قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا .

قال له موسى هل أتبعك أي: أصحبك: على أن تعلمني مما علمت أي: من لدن ربك: رشدا أي: علما ذا رشد. أي: هدى وإصابة خير.

قال القاضي: وقد راعى في ذلك غاية التواضع والأدب. فاستجهل نفسه، واستأذن [ ص: 4079 ] أن يكون تابعا له، وسأل منه أن يرشده وينعم عليه، بتعليم بعض ما أنعم الله عليه. أي: وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[67 - 68] قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا .

قال إنك لن تستطيع معي صبرا أي: بوجه من الوجوه. ثم علل معتذرا بقوله وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا أي: من أمور ستراها. إن صحبتني، ظواهرها مناكير وبواطنها لم يحط بها خبرك.
القول في تأويل قوله تعالى:

[69] قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا .

قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا أي: لا أخالفك في شيء.

قال الزمخشري : رجا موسى عليه السلام، لحرصه على العلم وازدياده، أن يستطيع معه صبرا، بعد إفصاح الخضر عن حقيقة الأمر. فوعده بالصبر معلقا بمشيئة الله. علما منه بشدة الأمر وصعوبته، وإن الحمية التي تأخذ المصلح عند مشاهدة الفساد شيء لا يطاق. هذا مع علمه أن النبي المعصوم، الذي أمره الله بالمسافرة إليه واتباعه واقتباسه العلم منه، بريء من أن يباشر ما فيه غميزة في الدين. وأنه لا بد، لما يستسمج ظاهره، من باطن حسن جميل. فكيف إذا لم يعلم؟ انتهى.
[ ص: 4080 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[70] قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا .

قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا أي: لا تفاتحني بالسؤال عن شيء أنكرته مني، ولم تعلم وجه صحته، حتى أبتدئك ببيانه. وهذا من آداب المتعلم مع العالم والمتبوع مع التابع.
القول في تأويل قوله تعالى:

[71] فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا .

فانطلقا أي: على ساحل البحر يطلبان سفينة: حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا أي: عظيما من إتلاف السفينة وقتل الجماعة الكثيرة بغير ذنب، وكفران نعمة الحمل بغير نول.
القول في تأويل قوله تعالى:

[72] قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا .

قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا ذكره الخضر بما تقدم من الشرط.

يعني هذا الصنيع فعلته قصدا. وهو من الأمور التي اشترطت معك أن لا تنكر علي فيها. لأنك لم تحط بها خبرا إذ لها سر لا تعلمه أنت.
القول في تأويل قوله تعالى:

[73] قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا .

قال أي: موسى : لا تؤاخذني بما نسيت من الشرط. فإن المؤاخذة به تفضي [ ص: 4081 ] إلى العسر. والمراد التماس عدم المؤاخذة لقيام المانع وهو النسيان: ولا ترهقني من أمري عسرا أي: لا تحمل علي من أمري، في تحصيل العلم منك، عسرا، لئلا يلجئني إلى تركه. أي: لا تعسر علي متابعتك، بل يسرها علي، بالإغضاء وترك المناقشة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[74] فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا .

فانطلقا أي: بعد أن خرجا من السفينة إلى الساحل: حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس أي: أنها لم تقتل نفسا فتقتل. بل هي زكية طاهرة من موجبات القتل: لقد جئت شيئا نكرا أي: منكرا. أو أنكر من الأول. لأن ذلك كان خرقا يمكن تداركه بالسد، وهذا لا سبيل إلى تداركه بوجه ما.
القول في تأويل قوله تعالى:

[75] قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا .

قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا تأكيد في التذكار بالشرط الأول. ونكتة زيادة: لك هو -كما قال الزمخشري : زيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصية، والوسم بقلة الصبر عند الكرة الثانية. كما لو أتى إنسان بما نهيته عنه، فلمته وعنفته، ثم أتى به مرة أخرى فإنك تزيد في تعنيفه. قال في (المثل السائر): وهذا موضع تدق عن العثور عليه مبادرة النظر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[76] قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا .

قال أي: موسى : إن سألتك عن شيء بعدها أي: بعد هذه المرة: فلا تصاحبني [ ص: 4082 ] قد بلغت من لدني عذرا أي وجدت من جهتي عذرا. إذ أعذرت إلي مرة بعد مرة، فخالفتك ثلاث مرات، بمقتضى طبع الاستعجال.
القول في تأويل قوله تعالى:

[77] فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا .

فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية اختلف في تسميتها.

قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): الخلاف فيها كالخلاف في مجمع البحرين. ولا يوثق بشيء منه: استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما أي: امتنعوا من أن يطعموهما الطعام الذي هو حق ضيافتهما عليهم. وقرئ: ((يضيفوهما)) من الإضافة. يقال: ضافه إذا نزل به، وأضافه وضيفه: أنزله ليطعمه في منزله، على وجه الإكرام: فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض أي: ينهدم بقرب. من (انقض الطائر) إذا أسرع سقوطه. والإرادة مستعارة للمداناة والمشارفة. لما فيهما من الميل. استعارة تصريحية أو مكنية وتخييلية، أو هي مجاز لغوي مرسل بعلاقة سبب الإرادة، لقرب الوقوع.

وقد أوسع الزمخشري ، عليه الرحمة من الشواهد على مثل هذا المجاز. فانظره: فأقامه أي: عمره وأصلحه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا أي: لو طلبت على عملك جعلا حتى تنتعش به. ففيه لوم على ترك الأجرة، مع مسيس الحاجة إليها .
القول في تأويل قوله تعالى:

[78] قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا .

قال هذا فراق بيني وبينك الإشارة إلى الفراق الموعود بقوله: فلا تصاحبني أو إلى الاعتراض الثالث. أو إلى الوقت الحاضر سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه [ ص: 4083 ] صبرا أي: بمآل ما لم تصبر على ظاهره، وبعاقبته. وهو خلاص السفينة من اليد العادية، وخلاص أبوي الغلام من شره، مع الفوز بالبدل الأحسن، واستخراج اليتيمين للكنز. قال أبو السعود : وفي جعل صلة الموصول. عدم استطاعة موسى عليه الصلاة والسلام للصبر، دون أن يقال (بتأويل ما فعلت) أو (بتأويل ما رأيت) ونحوهما، نوع تعريض به عليه السلام وعتاب. ثم أخذ الخضر في تفسير ما أشكل أمره على موسى ، وما كان أنكر ظاهره. وقد أظهر الله الخضر ، عليه السلام، على باطنه. فقال:
القول في تأويل قوله تعالى:

[79] أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا .

أما السفينة أي: التي خرقتها: فكانت لمساكين يعملون في البحر أي: لفقراء يحترفون العمل في البحر، لنقل الناس من ساحل إلى آخر: فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا أي: إنما خرقتها لأعيبها. لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة، يأخذ كل سفينة سليمة جيدة، غصبا. فأردت أن أعيبها لأرده عنها، لعيبها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[80] وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا [81] فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما .

وأما الغلام أي: الذي قتلته: فكان أبواه مؤمنين فخشينا أي: لو تركناه: أن يرهقهما طغيانا وكفرا أي: ينزل بهما طغيانه وكفره ويلحقه بهما. لكونه طبع على ذلك. فيخشى أن يعديهما بدائه.

فأردنا أي: بقتله: أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة أي: طهارة عن الكفر والطغيان: وأقرب رحما أي: رحمة بأبويه، وبرا.
[ ص: 4084 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[82] وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنـز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنـزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا .

وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنـز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما أي: قوتهما بالعقل وكمال الرأي: ويستخرجا كنـزهما ليتصرفا فيه: رحمة من ربك أي: تفضل بها عليهما.

و(رحمة) مفعول له. أو مصدر مؤكد لــ(أراد) فإن إرادة الخير رحمة: وما فعلته أي ما رأيت مني: عن أمري أي: عن اجتهادي ورأيي، وإنما فعلته بأمر الله تعالى: ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا أي: من الأمور التي رأيتها. أي: مآله وعاقبته. قال أبو السعود : (ذلك) إشارة إلى العواقب المنظومة في سلك البيان. وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتها في الفخامة. و: تسطع مخفف (تستطع) بحذف التاء.

تنبيهات:

في بعض ما اشتمل عليه هذا النبأ من الأحكام واللطائف والفوائد الساميات:

الأول: قال السيوطي في (الإكليل): في هذه الآيات أنه لا بأس بالاستخدام واتخاذ الرفيق والخادم في السفر . واستحباب الرحلة في طلب العلم. واستزادة العالم من العلم واتخاذ الزاد للسفر، وأنه لا ينافي التوكل . ونسبة النسيان، ونحوه من الأمور المكروهة، إلى الشيطان ، مجازا وتأدبا عن نسبتهما إلى الله تعالى. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة . واعتذار العالم إلى من يريد الأخذ عنه في عدم تعليمه مما لا يحتمله طبعه . وتقديم المشيئة في الأمر ، واشتراط المتبوع على التابع . وأنه يلزم الوفاء بالشروط. وأن النسيان غير مؤاخذ به . [ ص: 4085 ] وأن (للثلاث) اعتبارا في التكرار ونحوه. وأنه لا بأس بطلب الغريب الطعام والضيافة . وأن صنع الجميل لا يترك ولو مع اللئام. وجواز أخذ الأجر على الأعمال . وأن المسكين لا يخرج عن المسكنة بكونه له سفينة أو آلة يكتسب بها، أو شيء لا يكفيه . وأن الغصب حرام . وأنه يجوز إتلاف بعض مال الغير، أو تعييبه، لوقاية باقيه ، كمال المودع واليتيم. وإذا تعارض مفسدتان ارتكب الأخف . وأن الولد يحفظ بصلاح أبيه . وأنه تجب عمارة ما يخاف منه، ويحرم إهمالها إلى أن تخرب . وأنه يجوز دفن المال في الأرض . انتهى.

وقال البيضاوي: ومن فوائد هذه القصة أن لا يعجب المرء بعلمه. ولا يبادر إنكار ما لم يستحسنه ، فلعل فيه سرا لا يعرفه. وأن يداوم على التعلم، ويتذلل للمعلم، ويراعي الأدب في المقال. وأن ينبه المجرم على جرمه، ويعفو عنه حتى يتحقق إصراره، ثم يهاجر عنه. انتهى.

ومن فوائد الآية -كما في (فتح الباري)- استحباب الحرص على لقاء العلماء وتجشم المشاق في ذلك . وإطلاق (الفتى) على التابع واستخدام الحر. وطواعية الخادم لمخدومه. وعذر الناسي. وجواز الإخبار بالتعب، ويلحق به الألم من مرض ونحوه. ومحل ذلك إذا كان على غير سخط من المقدور. ومنها أن المتوجه إلى ربه يعان فلا يسرع إليه النصب. وفيها جواز طلب القوت . وطلب الضيافة. وقيام العذر بالمرة الواحدة، وقيام الحجة بالثانية.

وفيها حسن الأدب مع الله وأن لا يضاف إليه ما يستهجن لفظه ، وإن كان الكل بتقديره وخلقه، لقول الخضر عن السفينة: فأردت أن أعيبها وعن الجدار: فأراد ربك ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: « والخير بيديك والشر ليس إليك » . انتهى.

ومن فوائدها إطلاق (القرية) على (المدينة) لقوله: أهل قرية ثم قوله: لغلامين يتيمين في المدينة

[ ص: 4086 ] الثاني: ذكر الناصر في (الانتصاف): شذرات من لطائف بعض الآي المذكورة فنأثرها عنه.

قال عليه الرحمة: ورد في الحديث أن موسى عليه السلام لم ينصب، ولم يقل: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا إلا منذ جاوز الموضع الذي حده الله تعالى له. فلعل الحكمة في إنساء يوشع أن يتيقظ موسى عليه السلام، لمنة الله تعالى على المسافر في طاعة وطلب علم، بالتيسير عليه وحمل الأعباء عنه. وتلك سنة الله الجارية في حق من صحت له نية في عبادة من العبادات، أن ييسرها، ويحمل عنه مؤنتها، ويتكفل به ما دام على تلك الحالة. وموضع الإيقاظ أنه وجد بين حالة سفره للموعد وحالة مجاوزته، بونا بينا، والله أعلم وإن كان موسى عليه السلام متيقظا لذلك، فالمطلوب إيقاظ غيره من أمته، بل من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، إذا قص عليهم القصة. فما أورد الله تعالى قصص أنبيائه ليسمر بها الناس، ولكن ليشمر الخلق لتدبرها واقتباس أنوارها ومنافعها، عاجلا وآجلا. والله أعلم.

ثم قال عليه الرحمة: ومما يدل على أن موسى عليه السلام إنما حمله على المبادرة بالإنكار، الالتهاب والحمية للحق، أنه قال حين خرق السفينة: أخرقتها لتغرق أهلها ولم يقل: (لتغرقنا) فنسي نفسه واشتغل بغيره، في الحالة التي كل أحد فيها يقول: نفسي نفسي، لا يلوي على مال ولا ولد. وتلك حالة الغرق. فسبحان من جبل أنبياءه وأصفياءه على نصح الخلق والشفقة عليهم والرأفة بهم. صلوات الله عليهم أجمعين وسلامه.

ثم قال عليه الرحمة على قوله الزمخشري : فإن قلت قوله: فأردت أن أعيبها مسبب عن خوف الغصب عليها، فكان حقه أن يتأخر عن السبب، فلم قدم عليه؟ قلت: النية به التأخير. وإنما قدم للعناية. ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده، ولكن مع كونها للمساكين. فكان بمنزلة قولك: (زيد ظني مقيم).

فقال عليه الرحمة: كأنه جعل السبب في إعابتها كونها لمساكين. ثم بين مناسبة هذا [ ص: 4087 ] السبب للمسبب، بذكر عادة الملك في غصب السفن. وهذا هو حد الترتيب في التعليل أن يرتب الحكم على السبب، ثم يوضح المناسبة فيما بعد. فلا يحتاج إلى جعله مقدما، والنية تأخيره. والله أعلم.

ثم قال: ولقد تأملت من فصاحة هذه الآي، والمخالفة بينها في الأسلوب عجبا. ألا تراه في الأولى أسند الفعل إلى ضميره خاصة بقوله: فأردت أن أعيبها وأسنده في الثانية إلى ضمير الجماعة والمعظم نفسه في قوله: " فأردنا أن يبدلهما ربهما " فخشينا أن يرهقهما " ولعل إسناد الأول إلى نفسه خاصة من باب الأدب مع الله تعالى، لأن المراد (ثم عبت) فتأدب بأن نسب الإعابة إلى نفسه. وأما إسناد الثاني إلى الضمير المذكور فالظاهر أنه من باب قول خواص الملك: (أمرنا بكذا أو دبرنا كذا) وإنما يعنون: (أمر الملك ودبر) ويدل على ذلك قوله في الثالثة: فأراد ربك أن يبلغا أشدهما فانظر كيف تغايرت هذه الأساليب، ولم تأت على نمط واحد مكرر، يمجها السمع وينبو عنها، ثم انطوت هذه المخالفة على رعاية الأسرار المذكورة. فسبحان اللطيف الخبير.

الثالث: قال الخفاجي: في إعادة لفظ (الأهل) هنا، يعني في قوله تعالى: استطعما أهلها إثر قوله: أتيا أهل قرية سؤال مشهور. وقد نظمه الصلاح الصفدي سائلا عنه السبكي في قصيدة منها:


رأيت كتاب الله أعظم معجز لأفضل من يهدى به الثقلان ومن جملة الإعجاز كون اختصاره
بإيجاز ألفاظ وبسط معاني ولكنني في (الكهف) أبصرت آية
بها الفكر، في طول الزمان عناني وما هي إلا (استطعما أهلها) فقد
نرى (استطعماهم) مثله ببيان فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر
مكان ضمير؟ إن ذاك لشان


يعني أنه عدل عن الظاهر بإعادة لفظ (أهل) ولم يقل استطعماها لأنه صفة القرية. [ ص: 4088 ] أو (استطعماهم) لأنه صفة (أهل) فلا بد من وجه. وقد أجابوا عنه بأجوبة مطولة نظما ونثرا. والذي تحرر فيه أنه ذكر (الأهل) أولا ولم يحذف إيجازا، سواء قدر أو تجوز في القرية، كقوله: واسأل القرية لأن الإتيان ينسب للمكان. نحو (أتيت عرفات) ولمن فيه نحو (أتيت بغداد) فلو لم يذكر كان فيه التباس مخل. فليس ما هنا نظير تلك الآية لامتناع سؤال نفس القرية، فلا يستعمل استعمالها. وأما الأهل الثاني فأعيد لأنه غير الأول. وليست كل معرفة أعيدت عينا كما بينوه. لأن المراد به بعضهم. إذ سؤالهم فردا فردا مستبعد. فلو لم يذكر، فهم غير المراد. أما لو قيل: (استطعماهم) فظاهر. وأما لو قيل (استطعماها) فإن النسبة إلى المحل تفيد الاستيعاب، كما أثبتوه في محله. وأما إتيان جميع القرية فهو حقيقة في الوصول إلى بعض منها. كما يقال: (زيد في البلد) أو (في الدار) وقيل: إن الأهل أعيد للتأكيد كقوله:


ليت الغراب غداة ينعب بيننا كان الغراب مقطع الأوداج


أو لكراهة اجتماع ضميرين متصلين، لبشاعته واستطالته، وثمة أجوبة أخرى.

الرابع: أبدى بعضهم سرا للتعبير أولا (بتستطع) ثم أخيرا (بتسطع) بحذف التاء قال: لما أن فسر الخضر لموسى ، وبين له تأويل ما لم يصبر معه، ووضحه وأزال المشكل، قال (تسطع) بحذف التاء. وقيل ذلك كان الإشكال قويا ثقيلا. فقال: سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا فقابل الأثقل بالأثقل والأخف بالأخف. كما قال: فما اسطاعوا أن يظهروه وهو الصعود إلى أعلاه وما استطاعوا له نقبا وهو أشق من ذلك. [ ص: 4089 ] فقابل كلا بما يناسبه لفظا ومعنى. انتهى.

وقال الشهاب: وإنما خص هذا بالتخفيف لأنه لما تكرر في القصة ناسب تخفيف الأخير منه. وأما كونه للإشارة إلى أنه خف على موسى صلى الله عليه وسلم ما لقيه ببيان سببه- فيبعد أنه في الحكاية، لا المحكي. انتهى.

وما ألطف قول الشهاب في مثله: هذه زهرة لا تحتمل هذا الفرك.

الخامس: قال الإمام السبكي رحمه الله: ما فعله الخضر عليه الصلاة والسلام من قتل الغلام لكونه طبع كافرا، مخصوص به. لأنه أوحي إليه أن يعمل بالباطن، وخلاف الظاهر الموافق للحكمة. فلا إشكال فيه. وإن علم من الشريعة أنه لا يجوز قتل صغير لا سيما بين أبوين مؤمنين . ولو فرضنا أن الله أطلع بعض أوليائه، كما أطلع الخضر عليه السلام، لم يجز له ذلك، وما ورد عن ابن عباس (لما كتب إليه نجدة الحروري: كيف قتله وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان؟ فكتب إليه: إن كنت علمت من حال الولدان، ما علمه عالم موسى، فلك أن تقتل (فإنما قصد به ابن عباس المحاجة والإحالة على ما لم يمكن قطعا، لطمعه في الاحتجاج بقصة الخضر عليه الصلاة والسلام. وليس مقصوده أنه إن حصل ذلك يجوز. لأنه لا تقتضيه الشريعة. وكيف يقتل بسبب لم يحصل؟ والمولود لا يوصف بكفر حقيقي ولا إيمان حقيقي . وقصة الخضر تحمل على أنه كان شرعا مستقلا به. وهو نبي. وليس في شريعة موسى أيضا، ولذا أنكره. انتهى.

وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح): وأما من استدل به على جواز دفع أغلظ الضررين بأخفهما ، فصحيح. لكن فيما لا يعارض منصوص الشرع. فلا يسوغ الإقدام على قتل النفس ممن يتوقع منه أن يقتل أنفسا كثيرة ، قبل أن يتعاطى شيئا من ذلك. وإنما فعل الخضر ذلك لإطلاع الله تعالى عليه.

[ ص: 4090 ] وقال ابن بطال : قول الخضر: (وأما الغلام فكان كافرا) هو باعتبار ما يؤول إليه أمره أن لو عاش حتى يبلغ. واستحباب مثل هذا القتل لا يعلمه إلا الله. ولله أن يحكم في خلقه بما يشاء قبل البلوغ وبعده.

أقول: مفاد الآية، أن إنكار موسى لقتل الغلام لكونه جناية بغير موجب. ولذا قال: (بغير نفس)، لا لكونه صغيرا لم يبلغ الحنث. لأن الآية لا تفيده. وقد يكون كبيرا. فقد قال اللغويون: الغلام الطار الشاب، أو من حين يولد إلى أن يشب، والكهل أيضا. ومن الأخير قول موسى في قصة الإسراء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أبكي لأن غلاما بعث بعدي. إلخ، نعم ربما يشعر بصغره حديث البخاري : وجد غلمانا يلعبون فأخذ غلاما فذبحه قال موسى : أقتلت نفسا لم تعمل بالحنث. ولكن لا نص فيه، فتأمل.

السادس: أكثر العلماء على أن موسى المذكور في الآية، هو موسى بن عمران صاحب الآيات الشهيرة وصاحب التوراة. وذهب نوف البكالي -تابعي صدوق ابن امرأة كعب الأحبار أو ابن أخيه- إلى أنه ليس بموسى بن عمران كما في البخاري . ووقع في رواية ابن إسحاق عن سعيد بن جبير ، عند (النسائي) قال: كنت عند ابن عباس وعنده قوم من أهل الكتاب، فقال بعضهم: يا أبا عباس! إن نوفا يزعم عن كعب الأحبار أن موسى الذي طلب العلم إنما هو موسى بن منسا. أي: ابن إفراثيم بن يوسف عليه السلام. فقال ابن عباس: أسمعت ذلك منه يا سعيد؟ قلت: نعم. قال: كذب نوف. وفي رواية البخاري: كذب عدو الله. وإنما قال ذلك مبالغة في الإنكار والتنفير من تصديق مقالته.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 48.38 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 47.76 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.30%)]