عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 10-07-2024, 07:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,984
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْكَهْفِ
المجلد الحادى عشر
صـ 4061 الى صـ 4075
الحلقة (442)






وقوله تعالى:

[ ص: 4061 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[39] ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا [40] فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا [41] أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا .

ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله أي: هلا قلت عند دخولها ذلك. قال الزمخشري : يجوز أن تكون ما موصولة مرفوعة المحل، على أنها خبر مبتدأ محذوف. تقديره (الأمر ما شاء الله) أو شرطية منصوبة الموضع والجزاء محذوف بمعنى (أي شيء شاء الله كان) ونظيرها في حذف الجواب (لو) في قوله: ولو أن قرآنا سيرت به الجبال والمعنى: هلا قلت عند دخولها، والنظر إلى ما رزقك الله منها، الأمر ما شاء الله، اعترافا بأنها وكل خير فيها، إنما حصل بمشيئة الله وفضله. وأن أمرها بيده. إن شاء تركها عامرة، وإن شاء خربها. وقلت: لا قوة إلا بالله إقرارا بأن ما قويت به على عمامتها وتدبير أمرها، إنما هو بمعونته وتأييده. إذ لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده، إلا بالله تعالى. والقصد من الجملتين التبرؤ من الحول والقوة، وإسناد ما أوتيه إلى مشيئة الله وقوته وحده. ثم أشار له صاحبه بأن تعييره إياه بالفقر، لا يبعد أن ينعكس فيه الأمر، بقوله: إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتيني أي: في الدنيا أيضا: خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا أي: مقدارا قدره الله وحسبه، وهو الحكم بتدميرها من صواعق وآفات علوية: من السماء فتصبح صعيدا زلقا أي: ترابا أملس لا تثبت فيها قدم، لملاستها [ ص: 4062 ] أو يهلكها بآفة سفلية من جهة الأرض بأن: يصبح ماؤها غورا أي: غائرا في الأرض: فلن تستطيع له طلبا أي: حيلة تدركه بها، بالحفر أو بغيره.

تنبيه:

كل من قوله تعالى: إن ترن وقوله: أن يؤتيني رسم بدون ياء. لأنها من ياءات الزوائد. وأما في النطق، فبعض السبعة يثبتها وبعضهم يحذفها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[42] وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا

وأحيط بثمره أي: بإهلاكه فلم يبق له فيها ثمرة. قال الزمخشري : أحيط به عبارة عن إهلاكه. وأصله من (من أحاط به العدو) لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه. ثم استعمل في كل إهلاك ومنه قوله تعالى: إلا أن يحاط بكم

ومثله قولهم: أتى عليه إذا أهلكه. من أتى عليهم العدو إذا جاءهم مستعليا عليهم. يعني أنه استعارة تمثيلية. شبه إهلاك جنتيه بما فيهما، بإهلاك قوم بجيش عدو أحاط بهم وأوقع بهم بحيث لم ينج أحد منهم. كما أن (أتى عليهم) بمعنى أهلكهم، استعارة أيضا، من إتيان عدو غالب مستعل عليهم بالقهر: فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها أي: فعير نفسه أكثر من تعييره صاحبه وتعيير صاحبه إياه. قال الزمخشري : تقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر . لأن النادم يقلب كفيه ظهرا لبطن. كما كني عن ذلك بعض الكف، والسقوط في اليد. ولأنه في معنى الندم، عدي تعديته بــ(على) كأنه قيل فأصبح يندم على ما أنفق فيها، أي: في عمارتها. فيكون ظرفا لغوا. ويجوز كونه ظرفا مستقرا متعلقه خاص، وهو حال. أي: متحسرا. والتحسر الحزن. وهو أخص من الندم. لأنه [ ص: 4063 ] -كما قال الراغب- الغم على ما فات: وهي خاوية على عروشها أي: ساقطة عليها. و(العروش) جمع عرش وهو ما يصنع ليوضع عليه الشيء. فإذا سقط سقط ما عليه. يعني أن كرومها المعروشة، سقطت عروشها على الأرض وسقطت فوقها الكروم، بحيث قاربت أن تصير صعيدا زلقا: ويقول عطف على (يقلب): يا ليتني لم أشرك بربي أحدا أي: من الأوثان. وذلك أنه تذكر موعظة أخيه فعلم أنه أتي من جهة شركه وطغيانه. فتمنى لو لم يكن مشركا حتى لا يهلك الله بستانه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[43] ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا .

ولم تكن له فئة أي: منعة وقوم: ينصرونه من دون الله أي: يقدرون على نصرته من دون الله، كما افتخر بهم واستعز على صاحبه: وما كان منتصرا أي: ممتنعا بنفسه وقوته عن انتقام الله.
القول في تأويل قوله تعالى:

[44] هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا .

هنالك الولاية لله الحق أي: قي ذلك المقام وتلك الحالة التي وقع فيها الإهلاك. (الولاية) بفتح الواو أي: النصرة لله وحده، لا يقدر عليها أحد غيره. فالجملة مقررة ومؤكدة لقوله: ولم تكن له فئة ينصرونه لأنها بمعناها. أو ينصر فيها أولياءه المؤمنين على المشركين وينتقم لهم ويشفي صدورهم من أعدائهم، كما نصر على الكافر صاحبه المؤمن، وصدق قوله: فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء ويعضده قوله تعالى: هو خير ثوابا وخير عقبا أي: لأوليائه. فلا ينقص لمؤمن درجة، في الدنيا، ولا يترك لكافر عقوبة لشرفه، بل يعاقبه بذنبه ويظهر فضل المؤمن عليه. وقرئ ((الولاية)) بكسر الواو بمعنى السلطان والملك. أي: هنالك [ ص: 4064 ] السلطان له والملك. لا يغلب ولا يمتنع منه. أو في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطر. يعني أن: يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ، كلمة ألجئ إليها فقالها، جزعا مما دهاه من شؤم كفره. ولولا ذلك لم يقلها. كقوله تعالى: فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين

وكقوله إخبارا عن فرعون: حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين أو (هنالك) إشارة إلى الآخرة. أي: في تلك الدار الولاية لله. كقوله: لمن الملك اليوم ويناسبه قوله: هو خير ثوابا وخير عقبا و(هنالك) على الأوجه المتقدمة، خبر مقدم و(الولاية) مبتدأ مؤخر. والوقف على (منتصرا). وجوز بعضهم كون هنالك معمولا لــ (منتصرا) وإن الوقف عليه. أي: على (هنالك) وإن (الولاية لله) جملة من مبتدأ وخبر مستأنفة. أي: وما كان منتصرا في ذلك الوطن الذي حل به عذاب الله. فلم يكن منقذ له منه.

وأقول: هذا الثاني ركيك جدا، مفكك لرؤوس الآي في السورة. فإنها قطعت كلها بالاسم المنصوب. وشبهة قائله جوازه عربية. وما كل جائز عربية رقيق الحواشي بلاغة. ولذلك لم يعول عليه الزمخشري ومن تابعه. و(الحق) قرئ بالرفع صفة (للولاية) وبالنصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة المنصوب بعامل مقدر. وبالجر صفة للفظ الجلالة. (عقبا) قرئ بسكون القاف وضمها. وهما العاقبة كالعشر والعشر.

تنبيه:

يذكر كثير من المفسرين هنا وجها في هذا المثل. وهو أن الرجلين المذكورين فيه [ ص: 4065 ] كانا موجودين ولهما قصة. ولا دليل في ذلك ولا اتجاه. فإن التمثيل بشيء لا يقتضي وجوده. وجوز في هذا المثل أن يكون من باب الاستعارة التمثيلية والتشبيه. وأن يكون المثل مستعارا للحال الغريبة، بتقدير (اضرب) مثلا، مثل رجلين، من غير تشبيه واستعارة. وقد عني بأن الرجلين في التمثيل، مشركو مكة ، وما كانوا عليه من الفخر بأموالهم والبذخ بخولهم، وغمط المستضعفين من المؤمنين. وما آل إليه أمر الفريقين، مما طابق المثل الممثل، مطابقة طبقت الآفاق. مصداقا لوعده تعالى، سيكون الأمر في الآخرة أعلى: وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا

ثم أشار تعالى إلى سرعة فناء ما يتمتعون به من الدنيا، ويختالون به بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[45] واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنـزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا .

واضرب لهم مثل الحياة الدنيا أي: اذكر لهم ما تشبهه في زهرتها وسرعة زوالها: كماء أنـزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض أي: فالتف بسببه وتكاثف، حتى خالط بعضه بعضا، فشب وحسن وعلاه الزهر والنور والنضرة: فأصبح أي: بعد ذلك الزهو: هشيما أي: جافا يابسا مكسورا: تذروه الرياح أي: تفرقه وتنسفه ذات اليمين وذات الشمال كأن لم يكن، وهكذا حال الدنيا وحال مجرميها، فإن ما نالهم من شرف الحياة كالذي حصل للنبات من شرف النمو. ثم يزولون زوال النبات: وكان الله على كل شيء مقتدرا أي: على كل من الإنشاء والإفناء كامل القدرة. ولما كان هذا المثل للحياة الدنيا من أبهج المثل وأبدعها، ضرب كثيرا في التنزيل، كقوله تعالى في سورة [ ص: 4066 ] يونس: إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنـزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام وفي الزمر: ألم تر أن الله أنـزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه الآية. وفي الحديد: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته الآية.
ثم بين تعالى شأن ما كانوا يفتخرون من محسنات الدنيا، بقوله:

القول في تأويل قوله تعالى:

[46] المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا

المال والبنون زينة الحياة الدنيا وذلك لإعانتهما فيها، ووجود الشرف بهما ثم أشار إلى أنهما ليسا من أسباب الشرف الأخروي، إذ لا يحتاج فيها إليهما، بقوله: والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا أي: والأعمال التي تبقى ثمراتها الأخروية، من الاعتقادات والأخلاق والعبادات الكاملات، خير عند ربك من المال والبنين، في الجزاء والفائدة وخير مما يتعلق بهما من الأمل. فإن ما ينال بهما من الآمال الدنيوية، أمرها إلى الزوال. وما ينال بالباقيات الصالحات من منازل القرب الرباني والنعيم الأبدي، لا يزول ولا يحول.

لطائف:

1 - تقديم (المال) على (البنين) لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمداد. ولكون الحاجة إليه أمس. ولأنه زينة بدونهم، من غير عكس.

[ ص: 4067 ] 2 - إفراد (الزينة) مع أنها مسندة إلى الاثنين، لما أنها مصدر في الأصل. أطلق على المفعول مبالغة. كأنها نفس الزينة. وإضافتها إلى الحياة اختصاصية، لأن زينتها مختصة بها.

3 - إخراج بقاء الأعمال وصلاحها، مخرج الصفات المفروغ عنها، مع أن حقهما أن يكونا مقصودي الإفادة، لا سيما في مقابلة إثبات الفناء لما يقابلهما من المال والبنين على طريقة: ما عندكم ينفد وما عند الله باق للإيذان بأن بقاءها أمر محقق لا حاجة إلى بيانه. بل لفظ (الباقيات) اسم لها لا وصف. ولذلك لم يذكر الموصوف. وإنما الذي يحتاج إلى التعرض له خيريتها.

4 - تكرير (خير) للإشعار باختلاف حيثيتي الخيرية والمبالغة.كذا يستفاد من أبي السعود ، مع زيادة.

5 - وقع في كلام السلف تفسير (الباقيات الصالحات) بالصلوات وأعمال الحج والصدقات والصوم والجهاد والعتق، وقوله (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) والكلام الطيب، وبغيرهما، مما روي مرفوعا وموقوفا. والمرفوع من ذلك كله لم يخرج في الصحيحين. وكله على طريق التمثيل. وإن اللفظ الكريم يتناولها لكونها من أفراده.

ثم أشار تعالى إلى تحذير المشركين من أهوال القيامة، التي هي الوعد الحق والفيصل الصدق، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[47] ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا .

ويوم نسير الجبال أي: اذكر يوم نقلعها من أماكنها ونسيرها في الجو. كما [ ص: 4068 ] ينبئ عنه قوله تعالى: وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب أو نسير أجزاءها بعد أن نجعلها هباء منبثا: وترى الأرض بارزة لبروز ما تحت الجبال، أي: ظهوره، بنسفها وبروز ما عداه بزوال الجبال والكثب. حتى تبدو للعيان سطحا مستويا، لا بناء ولا شجر ولا معلم ولا ما سوى ذلك: وحشرناهم أي: جمعناهم إلى موقف الحساب: فلم نغادر أي: نترك: منهم أحدا أي: لا صغيرا ولا كبيرا. كما قال: قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم وقال: ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود
القول في تأويل قوله تعالى:

[48] وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا .

وعرضوا على ربك صفا أي: مصطفين مترتبين في المواقف، لا يحجب بعضهم بعضا كل في رتبته، قاله القاشاني .

وقال أبو السعود : (صفا) أي: غير متفرقين ولا مختلطين. فلا تعرض فيه لوحدة الصف وتعدده.

قال الزمخشري : شبهت حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان، مصطفين ظاهرين. يرى جماعتهم كما يرى كل واحد. لا يحجب أحد أحدا: لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة أي: بلا مال ولا بنين. أو لقد بعثناكم كما أنشأناكم. والكلام على إضمار القول. أي: وقلنا. تقريعا للمنكرين للمعاد، وتوبيخا لهم على رؤوس الأشهاد: بل زعمتم أي: بإنكاركم البعث: ألن نجعل لكم موعدا أي: وقتا لإنجاز ما وعدناكم من البعث [ ص: 4069 ] والنشور والحساب والجزاء. فلم يعملوا لذلك أصلا، بل عملوا ما يزدادون به افتضاحا. و(بل) للخروج من قصة إلى أخرى. فالإضراب انتقالي، لا إبطالي.
القول في تأويل قوله تعالى:

[49] ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا .

ووضع الكتاب أي: صحائف الأعمال بين يدي الله بحضرة الخلائق: فترى المجرمين مشفقين أي: خائفين أن يفتضحوا: مما فيه أي: من أعمالهم السيئة المسطرة: ويقولون يا ويلتنا أي: هلكتنا وحسرتنا على ما فرطنا في أعمارنا. قال القاشاني : يدعون الهلكة التي هلكوا بها، من أثر العقيدة الفاسدة والأعمال السيئة: مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها أي: أي شأن حصل له، فلا يترك ذنبا صغيرا ولا كبيرا إلا ضبطه وحفظه. والاستفهام مجاز عن التعجب في إحصائه كل المعاصي، وعده مقاديرها وأوصافها، وعدم تسامحه في شيء منها.

قال البقاعي عليه الرحمة إن لام الجر رسمت مفصولة (يعني: في الرسم العثماني)، إشارة إلى أنهم لشدة الكرب يقفون على بعض الكلمة. وهذا من لطائفه رحمه الله ووجدوا ما عملوا حاضرا أي: مكتوبا في الصحف تفصيلا، من خير وشر. كما قال تعالى: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا الآية. وقال: ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر

ولا يظلم ربك أحدا أي: فيكتب عليه ما لم يعمله، أو يزيد في عقابه. ثم أشار [ ص: 4070 ] تعالى إلى أن الكفر والعصيان مصدره طاعة الشيطان ، وإيثاره على الرحمن. والشيطان أعدى الأعداء وأفسق الفساق. فلا يتولاه إلا من سفه نفسه، وحاد عن جادة الصواب، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[50] وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا .

وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن أي: العتاة المردة الشياطين: ففسق عن أمر ربه أي: خرج عن طاعته: أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو أي: فتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتي، وهم لكم عدو يبغون بكم الغوائل ويوردونكم المهالك؟ وهذا تقريع وتوبيخ لمن آثر اتباعه وإطاعته. ولهذا قال تعالى: بئس للظالمين أي: الواضعين الشيء في غير موضعه: بدلا بئس البدل من الله إبليس، لمن استبدله فأطاعه بدل طاعته. قال ابن كثير : وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين، السعداء والأشقياء، في سورة يس: وامتازوا اليوم أيها المجرمون إلى قوله: أفلم تكونوا تعقلون وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[51] ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا .

ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض استئناف مسوق لبيان عدم استحقاق [ ص: 4071 ] إبليس وذريته، للاتخاذ المذكور في أنفسهم، بعد بيان الصوارف عن ذلك، من خباثة المحتد والفسق والعداوة. أي: ما أحضرت إبليس وذريته خلق السماوات والأرض، حين خلقتهما: ولا خلق أنفسهم أي: وما أشهدت بعضهم أيضا خلق بعض منهم. ونفي الإشهاد كناية عن نفي الاعتضاد بهم والاستعانة على خلق ما ذكر- أبلغ. إذ من لم يشهد فأنى يستعان به؟ فأنى يصح جعله شريكا؟ ولذلك قال سبحانه: وما كنت متخذ المضلين عضدا أي: وما كنت متخذهم أعوانا لخلق ما ذكر، بل تفردت بخلق جميع ذلك بغير معين ولا ظهير أي: وإذا لم يكونوا عضدا في الخلق، فما لكم تتخذونهم شركاء في العبادة؟ واستحقاق العبادة من توابع الخالقية. والاشتراك فيه يستلزم الاشتراك فيها. والخالقية منفية عن غيره تعالى، فينتفي لازمها وهو استحقاق عبادة ذلك الغير، وهم المضلون، فلا يكونون أربابا. إنما وضع (المضلين) موضع الضمير، ذما لهم وتسجيلا عليهم بالإضلال، وتأكيدا لما سبق من إنكار اتخاذهم أولياء. ونحو هذه الآية قوله تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[52] ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا .

ويوم يقول أي: الحق تعالى: نادوا شركائي الذين زعمتم أي: في دار الدنيا، أنهم شركاء لينقذوكم مما أنتم فيه. يقال لهم ذلك على رؤوس الأشهاد تقريعا وتوبيخا لهم: فدعوهم أي: فنادوهم للإعانة، لبقاء اعتقاد شركهم: فلم يستجيبوا لهم أي: فلم [ ص: 4072 ] يعينوهم، لعجزهم عن الجواب، فضلا عن الإعانة. وفي إيراده، مع ظهوره، تهكم بهم وإيذان بأنهم في الحماقة بحيث لا يفهمونه إلا بالتصريح به: وجعلنا بينهم أي: بين الكفار وآلهتهم: موبقا أي: مهلكا يشتركون فيه، وهو النار. أو عداوة هي في الشدة نفس الهلاك. كقول عمر رضي الله عنه: (لا يكن حبك كلفا، ولا بغضك تلفا) ، ويؤيد هذا قوله تعالى: واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا قال ابن كثير : وأما إن جعل الضمير في قوله: " بينهم " عائدا إلى المؤمنين والكافرين كما قال عبد الله بن عمرو: إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به، فهو كقوله تعالى: ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون وقال: يومئذ يصدعون وقال تعالى: وامتازوا اليوم أيها المجرمون وقال تعالى: ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم إلى قوله: وضل عنهم ما كانوا يفترون
القول في تأويل قوله تعالى:

[53] ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا .

ورأى المجرمون النار أي: جهنم المحيطة بأنواع الهلاك ووضع المظهر مقام المضمر تصريحا بإجرامهم، وذما لهم بذلك: فظنوا أنهم مواقعوها أي: أيقنوا بأنهم واقعون فيها: ولم يجدوا عنها مصرفا أي: معدلا ينصرفون إليه. إشارة إلى ما يعاجلهم من الهم والحزن، فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه، عذاب ناجز.
[ ص: 4073 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[54] ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا .

ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل أي: نوعنا في هذا القرآن الجامع للمهمات وأنواع السعادات، لمصلحة الناس ومنفعتهم، من كل مثل، ينبه على مراقي السعادات ومهاوي الضلالات لينذروا به: وكان الإنسان أكثر شيء جدلا أي: مجادلة ومخاصمة ومعارضة للحق بالباطل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[55] وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا .

وما منع الناس أي: أهل مكة الذين حكيت أباطيلهم وكل من شاكلهم: أن يؤمنوا أي: من أن يؤمنوا بالله تعالى ويتركوا الشرك: إذ جاءهم الهدى أي: القرآن والحق الواضح النير: ويستغفروا ربهم أي: عن المعاصي السالفة: إلا أن تأتيهم سنة الأولين أي: طلب إتيانها، أو انتظار إتيانها، وهي عذاب الاستئصال: أو يأتيهم العذاب قبلا أي: يرونه عيانا ومواجهة، وهو عذاب الآخرة. أو أعم. والقبل بضمتين بمعنى العيان كما في قراءة (قبلا) بكسر القاف وفتح الباء. أو (قبلا) بمعنى: أنواعا متنوعة جمع (قبيل) وقرئ بفتحتين أي: مستقبلا. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[56] وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا [ ص: 4074 ] بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا .

وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين أي: وما نرسلهم، قبل إنزال العذاب، إلا لتبشر من آمن بالزلفى والكرامة، وإنذار من كفر بأن تأتيه سنة من مضى: ويجادل الذين كفروا بالباطل كاقتراح الآيات: ليدحضوا به الحق أي: ليزيلوا بالجدال، الحق الثابت عن مقره. وليس ذلك بحاصل لهم. وأصل الإدحاض: إزلاق القدم وإزالتها عن موطئها. فاستعير من زلل القدم المحسوس، لإزالة الحق المعقول.

قال الشهاب ولك أن تقول: فيه تشبيه كلامهم بالوحل المستكره. ثم أنشد لنفسه:


أتانا بوحل لإنكاره ليزلق أقدام هذي الحجج


واتخذوا آياتي وما أنذروا أي: وإنذارهم. أو والذي أنذروا به من العقاب: هزوا أي: استهزاء وسخرية وهو أشد التكذيب. وصف بالمصدر مبالغة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[57] ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا .

ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها كناية عن عدم تدبرها والاتعاظ بها، بأبلغ أسلوب: ونسي ما قدمت يداه أي: ما عمله من الكفر والمعاصي، وصرف ما أنعم به، إلى غير ما خلقت له، فلم يتفكر في عاقبة ذلك: إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه أي: جعلنا عليها حجبا وأغطية كثيرة، كراهة أن يفقهوه، أي: يقفوا على كنه ما خلقت النعم من أجله: وفي آذانهم وقرا أي: وجعلنا فيها ثقلا يمنعهم من [ ص: 4075 ] استماعه. والجملة تعليل لإعراضهم ونسيانهم، بأنهم مطبوع على قلوبهم. وذلك لإيثارهم الضلال على الهدى كما قال تعالى: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم

وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا أي: فلا يكون منهم اهتداء البتة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[58] وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا .

وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا الآيات في هذا المعنى كثيرة. كقوله تعالى: ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة وقوله: وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم و: " ربك " مبتدأ و: الغفور خبره وتقديم الوصف بالمغفرة على الرحمة، لأنه أهم بحسب الحال. إذ المقام مقام بيان تأخير العقوبة عنهم، بعد استيجابهم لها. كما يعرب عنه قوله عز وجل: لو يؤاخذهم بما كسبوا والموعد المذكور هو يوم بدر . أو الفتح المشار إليه في كثير من الآيات. أو يوم القيامة. والكل لاحق بهم. و(الموئل) الملجأ والمنجى. أي: ليس لهم عنه محيص ولا مفر. وقوله تعالى:


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.61 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 45.99 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.35%)]