
منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية
أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحنبلي الدمشقي
المجلد الثانى
الحلقة (162)
صـ 573 إلى صـ 579
وكذلك عبد الرحمن بن كيسان وأمثاله لا ينكر أن يكون للثمرة طعما ولونا وريحا، وهذا من المراد بالأعراض في اصطلاح النظار، فكيف يقال: إنهم أنكروا الأعراض؟
بل إذا قالوا: إن الأعراض ليست صفات (1) زائدة على الجسم بمعنى أن الجسم اسم للذات التي قامت بها الأعراض، فالعرض داخل في مسمى الجسم، وهذا مما يمكن أن يقوله هؤلاء وأمثالهم.
ثم رأيت أبا الحسين (2) البصري - وهو أحذق متأخري المعتزلة - قد ذكر (في) " تصفيح الأدلة والأجوبة " (3) هذا المعنى، وذكر أن مرادهم هو
_________
(1) في الأصل: صفاتا، وهو خطأ.
(2) في الأصل: أبا الحسن.
(3) في الأصل: قد ذكر تصفيح الأدلة والأجوبة، وزدت (في) ليستقيم الكلام وسبقت ترجمة أبي الحسين البصري 1/397. وانظر فضل الاعتزال، ص 387 ; سزكين م [0 - 9] ، ج [0 - 9] ، ص [0 - 9] 6 - 87. وذكر الكتاب ابن المرتضى في كتابه المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل ص 70، د. حيدر آباد، 1316 ; معجم المؤلفين 11/20
====================================
هذا المعنى، وذكر من كلامهم ما يبين ذلك، فاختار هو هذا، وأثبت الأحوال التي يسميها (1) غيره أعراضا زائدة، وعاد جمهور النزاع إلى أمور لفظية.
وإذا كان كذلك فمن المعلوم أنا نحن نميز بين الطعم واللون والريح بحواسنا، فنجد الطعم بالفم، ونرى اللون بالعين، ونشم الرائحة بالأنف، كما نسمع الصوت بالأذن، فهنا الآلات التي تحس بها هذه الأعراض مختلفة فينا، يظهر اختلافها في أنفسها لاختلاف الآلات التي تدركها، بخلاف ما يقوم بأنفسنا من علم وإرادة وحب، فإنا لا نميز بين هذا وهذا بحواس مختلفة، وإن كان أدلة العلم بذلك مختلفة، فالأدلة قد تكون أمورا منفصلة عن المستدل.
فهذا مما يقع به الفرق بين الصفات المدركة بالحس والصفات المعلومة بالعقل، وإلا فمعلوم أن اتصاف الأترجة والتفاحة بصفاتها المتنوعة هو أمر ثابت في نفسه سواء وجدنا ذلك أو لم نجده. ومعلوم أن طعمها نفسه ليس هو لونها، ولونها ليس هو ريحها، وهذه كلها صفات قائمة بها متنوعة بحقائقها، وإن كان محلها الموصوف بها واحدا.
ثم الصفات نوعان: نوع لا يشترط فيه الحياة: كالطعم واللون والريح، ونوع يشترط فيه الحياة: كالعلم والإرادة والسمع والبصر.
فأما الأول فحكمه لا يتعدى محله، فلا يتصف باللون والريح والطعم إلا ما قام به ذلك.
_________
(1) في الأصل: ينفيها، وصوبت في الهامش بكلمة لم يظهر منها إلا (ميها) ورجحت أن تكون كما أثبت
=================================
وأما هذا الثاني فقد تنازع فيه النظار لما رأوا أن الإنسان يوصف بأنه عالم قادر مريد، والعلم والإرادة لم تقم بعقبه ولا بظهره، وإنما هو قائم بقلبه.
فمنهم من قال: الأعراض المشروطة بالحياة يتعدى حكمها محلها، فإذا قامت بجزء من الجملة وصف بها سائر الجملة، كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة وغيرهم.
ومنهم من يقول: بل الموصوف بذلك جزء منفرد في القلب.
ومنهم من يقول: بل حكمها لا يتعدى محلها، وإنه بكل جزء من أجزاء البدن حياة وعلم وقدرة.
ومن هؤلاء من يقول: لا يشترط في قيام هذه الأعراض بالجوهر الفرد البنية المخصوصة، كما يقوله: الأشعري ومن اتبعه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهؤلاء بنوا هذا على ثبوت الجوهر الفرد، وهو أساس ضعيف، فإن القول به باطل، كما قد بسط في موضعه.
ثم من المتفلسفة المشائين من ادعى أن محل العلم من الإنسان ما لا ينقسم، ومعنى ذلك عندهم أن النفس الناطقة لا يتميز منها شيء عن شيء، ولا يتحرك ولا يسكن، ولا يصعد ولا ينزل، ولا يدخل في البدن ولا غيره من العالم ولا يخرج منه، ولا يقرب من شيء ولا يبعد منه.
ثم منهم من يدعي أنها لا تعلم الجزئيات وإنما تعلم الكليات، كما يذكر ذلك عن ابن سينا وغيره. وكان أعظم ما اعتمدوا عليه من المعلومات ما لا ينقسم، فالعلم به لا ينقسم، لأن العلم مطابق للمعلوم
=====================================
فمحل العلم لا ينقسم، لأن ما ينقسم لا يحل في منقسم. (1) \ 1975. وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبين بعض ما في هذا الكلام من الغلط، مع أن هذا عندهم هو البرهان القاطع الذي لا يمكن نقضه. وقواهم على ذلك أن بعض من عارضهم كأبي حامد والرازي لم يجيبوا عنه بجواب شاف، بل أبو حامد قد يوافقهم على ذلك.
ومنشأ النزاع إثبات ما لا ينقسم بالمعنى الذي أرادوه في الوجود الخارجي.
فيقال لهم: لا نسلم أن في الوجود ما لا يتميز منه شيء عن شيء. فإذا قالوا: النقطة؟ قيل لهم: النقطة والخط والسطح الواحد والاثنان والثلاثة: قد يراد بها هذه المقادير مجردة عن موصوفاتها، وقد يراد بها ما اتصف بها (من) (2) المقدرات في الخارج.
فإذا أريد الأول فلا وجود لها إلا في الأذهان لا في الأعيان، فليس في الخارج عدد مجرد عن المعدود، ولا مقدار مجرد عن المقدر (3) : لا نقطة ولا خط ولا سطح ولا واحد ولا اثنان ولا ثلاثة بل الموجودات
_________
(1) انظر كتاب الشفاء لابن سينا، الفن السادس من الطبيعيات 1 وما بعدها، ط براغ، تشيكوسلوفاكيا، 1956 ص [0 - 9] 87 وما بعدها، ط. الهيئة العامة للكتاب، تحقيق جورج قنواتي، سعيد زايد، القاهرة، 1395
(2) (من) : ليست في الأصل وزدتها ليستقيم الكلام.
(3) في الأصل: مقدرا مجردا عن المقدر، ولعل الصواب ما أثبته
=======================================
المعدودات كالدرهم والحبة والإنسان، والمقدرات كالأرض التي لها طول وعرض وعمق، فما من سطح إلا وله حقيقة يتميز بها عن غيره من السطوح، كما يتميز التراب عن الماء، وكما يتميز سطوح كل جسم عن سطوح الآخر.
وإن قالوا: ما لا ينقسم هي العقول المجردة التي تثبتها الفلاسفة.
كان دون إثبات هذه خرط القتاد (1) ، فلا يتحقق منها إلا ما يقدر في الأذهان، لا ما يوجد في الأعيان.
والملائكة التي وصفتها الرسل وأمروا بالإيمان بها، بينها وبين هذه المجردات من أنواع الفرقان، ما لا يخفى إلا على العميان، كما قد بسط في غير هذا المكان.
وإن أرادوا بما لا ينقسم واجب الوجود، وقالوا: إنه واحد لا ينقسم ولا يتجزأ.
قيل: إن أردتم بذلك نفي صفاته، وأنه ليس لله حياة وعلم وقدرة تقوم به، فقد علم أن جمهور المسلمين وسائر أهل الملل، بل وسائر عقلاء بني آدم من جميع الطوائف يخالفونكم في هذا.
وهذا أول المسألة، وأنتم - وكل عاقل - قد يعلم بعض صفاته دون بعض، والمعلوم هو غير ما ليس بمعلوم، فكيف ينكر أن يكون له معان متعددة؟
وأدلة إثبات الصانع كثيرة، ليس هذا موضعها، فلم قلتم بإمكان وجود مثل هذا في الخارج، فضلا عن تحقيق وجوده؟
_________
(1) في الأصل: حرظ العتاد
==================================
وقد عرف فساد حجتكم على نفي الصفات، وإن سميتم ذلك توحيدا، فحينئذ الواحد الذي لا يتميز منه شيء عن شيء لم يعلم ثبوته في الخارج حتى يحتج على أن العلم به كذلك، والعالم به كذلك.
وقد احتج بعضهم على وجود ما لا ينقسم - بالمعنى الذي أرادوه - بأن قالوا: الوجود في الخارج: إما بسيط وإما مركب، والمركب لا بد له من بسيط.
وهذا ممنوع، فلا نسلم أن في الوجود ما هو مركب من هذا البسيط الذي أثبتموه، وإنما الموجود الأجسام البسيطة، وهو ما يشبه بعضه بعضا، كالماء والنار والهواء ونحو ذلك.
وأما ما لا يتميز منه شيء عن شيء، فلا نسلم أن في الوجود ما هو مركب منه، بل لا موجود إلا ما يتميز منه شيء عن شيء.
وإذا قالوا: فذلك الشيء هو البسيط.
قيل لهم: وذلك إنما يكون بعضا من غيره، لا يعلم مفردا ألبتة، كما لا يوجد مفردا ألبتة.
ثم يقال: من المعلوم أن بدن الإنسان ينقسم بالمعنى الذي يذكرونه ويتميز منه شيء عن شيء، والحياة والحس سار في بدنه، فما المانع أن تقوم الحياة والعلم بالروح، كما قامت الحياة والحس بالبدن، وإن كان البدن منقسما عندكم؟
وإن قلتم: الحياة والحس منقسم عندكم؟
قيل: إن أردتم بذلك أنه يمكن كون البعض حيا حساسا مع مفارقة البعض
=======================================
قيل: هذا لا يطرد، بل قد يذهب بعضه وتبقى الحياة والحس في بعضه، وقد تذهب الحياة والحس عن بعضه بذهاب ذلك عن البعض، كما في القلب.
وعلى التقديرين فالحياة والحس يتسع باتساع محله، والأرواح متنوعة، وما يقوم بها من العلم والإرادة وغير ذلك يتنوع بتنوعها، فما عظم من الموصوفات عظمت صفاتها، وما كان دونها كانت صفاته دونه.
وأيضا، فالوهم عندهم قوة جسمانية قائمة بالجسم، مع أنها تدرك في المحسوس ما ليس بمحسوس، كالصداقة والعداوة، وذلك المعنى مما لا ينقسم بانقسام محله عندهم.
وأيضا، فقوة الإبصار التي في العين قائمة بجسم ينقسم عندهم، مع أنها لا تنقسم بانقسام محلها، بل الاتصال شرط فيها، فلو فسد بعض محلها فسدت، ولا يبقى بعضها مع فساد أي بعض كان، فما كان المانع أن يكون قيام الحياة والعلم والقدرة والإرادة ببعض الروح - إذا قيل: يتميز بعضها عن بعض - مشروطا بقيامه بالبعض الآخر، بحيث يكون الاتصال شرطا في هذا الاتصاف؟ (1) كما يوجد ذلك في الحياة والحس في بعض البدن، لا تقوم به الحياة والحس إلا إذا كان متصلا نوعا من الاتصال.
وبسط الكلام في (كثير من) (2) هذه الأمور يتعلق بالكلام على روح الإنسان، التي تسمى النفس الناطقة، وعلى اتصافها بصفاتها، فبهذا
_________
(1) في الأصل: في هذه الاتصاف.
(2) بعد حرف (في) توجد إشارة إلى الهامش، ولم تظهر الكلمات الساقطة في المصورة، ورجحت أن تكون هي ما أثبته
==================================