عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 09-07-2024, 10:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أسباب الفلاح ووسائله في ظلال سورة المؤمنون

لأنهم في الدنيا استكبروا، حتى بعد إجابة دعائهم ونجاتهم من الكرب يعودون مرة أخرى لمحاربة دين الله: {﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ﴾} [المؤمنون: 64 - 67]، وهكذا يستكبر عن الدعاء الغافلون الفجرة؛ قال تعالى: {﴿ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ﴾} [المؤمنون: 75، 76]، ولتوضيح حال أولئك الخاسرين؛ يقول الشيخ السعدي رحمه الله: "هذا بيان لشدة تمردهم وعنادهم، وأنهم إذا أصابهم الضر أو ابتلاهم بذلك ليرجعوا إليه، دعَوا الله أن يكشف عنهم ليؤمنوا، فإذا كشف الضر عنهم لجُّوا؛ أي: استمروا في طغيانهم يعمهون؛ أي: يجولون في كفرهم، حائرين مترددين، كما ذكر الله حالهم عند ركوب الفلك، وأنهم يدعون مخلصين له الدين، وينسَون ما يشركون به، فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بالشرك وغيره".

ويدعو الإنسان ربَّه عندما يعرف الغاية من وجوده في الدنيا؛ ألَا وهي عبادة الله تعالى، بهذا أرسل الله جميع الرسل والنبيين، ولأجل هذا أنزل جميع الكتب:
{﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ } [المؤمنون: 31، 32]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: {﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ﴾} [غافر: 60]))؛ [رواه البخاري في الأدب المفرد].
ومن أعظم العبادات: الحرص على أكل الحلال؛ فهو من أسباب إجابة الدعاء.
{﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾} [المؤمنون: 51]؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى {: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ﴾} [المؤمنون: 51]، وقال تعالى: { ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ } [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يُطيل السفر، أشعثَ أغبرَ، يمدُّ يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمُهُ حرام، ومَشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام، فأنَّى يُستجاب له؟))؛ [رواه مسلم].

فما عقبات الاستقامة؟ ومن هم قطاع الطريق دونها؟
1- عمى القلب عن المواعظ.
2- الهوى يؤدي لتكذيب القرآن، بهجره اتباعًا وتدبرًا، وتلاوة واستماعًا.
3- الاستكبار، ولو بالمقدسات وعمارتها؛ فالعبرة بالاتباع للمنهج وتعظيم من أنزله.
4- الدنيا وزينتها، فلا ينحرف عن الاستقامة والطاعة إلا من كفر باليوم الآخر، فالإيمان بالله واليوم الآخر صمام أمان.
5- الشيطان وهمزاته؛ ولهذا جاء الحث على الاستعاذة بالله: { ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ﴾} [المؤمنون: 97].
6- النفس الأمارة بالسوء حتى تجعل صاحبها شقيًّا.

قال تعالى: {﴿ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ * حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ } [المؤمنون: 63 - 73]، فصَّلتِ الآيات أسبابَ الضلال، ومعوقات الوصول إلى الله، لكي نحذر منها:
عمى القلب عن المواعظ، وإهمال تزكيته يؤدي لمرضه ثم موته عياذًا بالله تعالى: {﴿ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾} [المؤمنون: 63]، لهم أعمال من الذنوب والمعاصي، وسوف يندم هؤلاء حين يكشف عنهم الغطاء.

اتباع الهوى الذي يؤدي لتكذيب القرآن، بهجره اتباعًا وتدبرًا، وتلاوة واستماعًا، فكأنه قيل: ما السبب الذي أوصلهم إلى هذا الحال؟ قال: { ﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾} [المؤمنون: 66]، لتؤمنوا بها وتقبلوا عليها، فلم تفعلوا ذلك، بل ﴿ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ ﴾؛ أي: راجعين القهقرى إلى الخلف؛ وذلك لأن باتباعهم القرآن يتقدمون، وبالإعراض عنه يستأخرون وينزلون إلى أسفل سافلين؛ [تفسير الشيخ السعدي].

وأعظم سبب لهجر القرآن والإعراض عن الحق: اتباع الهوى.

ما سبب الطعن في الدين؟
يجيب عن هذا ابن القيم رحمه الله فيقول: "فيظن الجاهل أن ذلك لِسَعَةِ علمه، وإنما ذلك من عدم علمه ويقينه، والقلب يتوارده جيشان من الباطل: جيش شهوات الغَيِّ، وجيش شُبُهات الباطل؛ فأيما قلب أصغى إليها وركن إليها تشرَّبها وامتلأ بها، فينضح لسانه وجوارحه بموجبها، فإن أُشرب شبهات الباطل، تفجرت على لسانه الشكوك والشبهات والإيرادات، فيظن الجاهل أن ذلك لسعة علمه، وإنما ذلك من عدم علمه ويقينه: {﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ﴾} [المؤمنون: 71]".

الاستكبار، ولو بالمقدسات وعمارتها، فالعبرة بالاتباع للمنهج وتعظيم من أنزله؛ قال تعالى: {﴿ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾} [المؤمنون: 67، 68]، فهناك من يستكبر بمنصبه عن اتباع الحق كما هو حال فرعون: { ﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ﴾} [المؤمنون: 45 - 48]، وهناك من يستكبر بماله كما هو حال قارون، وهناك من يستكبر بماله وأولاده؛ قال تعالى: {﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾} [المؤمنون: 55، 56]، وهناك استكبار من نوع عجيب، يمنع صاحبه من اتباع الحق، ألَا وهو الاستكبار بالأنساب الشريفة، أو بعمارة المقدسات، كما هو حال كفار قريش، ولن ينفعهم ذلك في شيء إن لم يتبعوا الحق: { ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾} [المؤمنون: 101 - 103]، ومن الاستكبار بعمارة المقدسات الغرورُ بأنهم خدمتها وسَدَنتُها، فاغتروا بأن الله جعل لهم حرمًا آمنًا من دون الناس: {﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ﴾} [المؤمنون: 66، 67]، قد كانت آياتى تتلى عليكم - أيها المستغيثون من العذاب - فكنتم تعرضون عنها، ولم تكتفوا بهذا الإعراض، بل كنتم مستكبرين على المسلمين بالبيت الحرام، وكنتم تتسامرون بالليل حوله، فتستهزئون بالقرآن، وبالرسول صلى الله عليه وسلم، وبتعاليم الإسلام، وتنطقون خلال سمركم بالقول الباطل، الذى يدل على مرض قلوبكم، وفساد عقولكم، وسوء أدبكم"؛ [الوسيط].

القرآن يصحح المفاهيم، من المفاهيم الخاطئة: الظن بأن العطاء علامة على رضوان الله على العبد، وهذا خطأ؛ ((لأن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب))؛ كما في الحديث الصحيح، وهكذا تختلف مقاييس أهل الدنيا عن مقاييس الآخرة والدين؛ قال تعالى: {﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾} [المؤمنون: 55، 56]؛ يعني: أيظُنُّ هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا؟ كلا ليس الأمر كما يزعمون في قولهم: {﴿ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾} [سبأ: 35]، لقد أخطؤوا في ذلك وخاب رجاؤهم، بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجًا وإنظارًا وإملاءً؛ ولهذا قال: {﴿ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾} ، كما قال تعالى: { ﴿ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾} [التوبة: 55]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ﴾ [آل عمران: 178]، وقال تعالى: {﴿ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾} [القلم: 44، 45]، وقال: { ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا ﴾ } [المدثر: 11 - 16]، وقال تعالى: {﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾} [سبأ: 37]، والآيات في هذا كثيرة.

قال قتادة في قوله: { ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾} [المؤمنون: 55، 56]؛ قال: "مُكر والله بالقوم في أموالهم وأولادهم، يا ابن آدم، فلا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم، ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح"؛ [تفسير ابن كثير].

وانظر كيف قابل أولئك المترفون دعوة الحق: {﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴾} [المؤمنون: 33].

الدنيا وزينتها، فلا ينحرف عن الاستقامة والطاعة إلا من كفر باليوم الآخر، فالإيمان بالله واليوم الآخر صمام أمان: { ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ﴾} [المؤمنون: 74]، { ﴿ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ ﴾} [المؤمنون: 75]؛ يقول تعالى: ولو رحمنا هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة، ورفعنا عنهم ما بهم من القحط والجدب وضرِّ الجوع والهُزال: {﴿ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ ﴾} ؛ يعني في عُتوِّهم وجرأتهم على ربهم: ﴿ يَعْمَهُونَ ﴾: يعني: يترددون؛ [تفسير الإمام الطبري].

وقد أحسن القائل حين نظم تلك العقبات شعرًا، فقال:
إني بُليتُ بأربعٍ ما سُلِّطوا
إلا لأجل شقاوتي وعنائي
إبليس والدنيا ونفسي والهوى
كيف الخلاص وكلهم أعدائي
إبليس يسلك بي طريق مهالكي
والنفس تأمرني بكل بلائي
وأرى الهوى تدعو إليه خواطري
في ظلمة الشبهات والآراءِ
وزخارف الدنيا تقول أمَا ترى
حُسْني وفخر ملابسي وبهائي

ما وسائل الاستقامة على دين الله؟
وقد أعطى الله الإنسان آلات الإدراك التي تجعله يعرف الحق من الباطل، فميزه بالعقل الذي هو مناط التكليف ووسيلة لفعل الحسن وترك القبيح، وتفضَّل عليه بالسمع والبصر والفؤاد حتى يتعرف على ربه ويشكره: {﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾} [المؤمنون: 78 - 80]، وانظر لهذا الحوار الذي يخاطب العقول، ويستثيرها للتفكر في عظمة الله وقيوميته على كل شيء، وأنه سبحانه قادر على بَعْثِ مَن في القبور للحساب والجزاء: { ﴿ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾} [المؤمنون: 81 - 90]، وتستمر الآيات في مخاطبة العقول وبيان المقدمات، واستخراج النتائج الحتمية التي لا تختلف عليها العقول المنصفة، والفطر الطاهرة المتطهرة من لوثات الهوى والشهوة، وزيغ القلب، ووساوس الشيطان؛ فيقول تعالى: { ﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾} [المؤمنون: 91، 92]، فإتقان هذا الكون دليل على وحدانية الخالق جلَّ وعلا.

ومن العبادات التي تعصم الإنسان من الفتن: الاعتصام بحبل الله: {﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ﴾} [المؤمنون: 52 - 54].

خُتمت السورة ببيان وإجمال لكل ما سبق، فالدعاء هنا ينفع، والعبادة هنا تنفع، والندم والاعتراف هنا ينفع، أما في الآخرة فلا دعاءَ ينفع، ولا عمل ولا صديق يشفع، ولا فدية تُقبل، ولا ندم ولا اعتراف ينفع، بل ولا صوت يُسمع:
{﴿ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ } [المؤمنون: 106 - 111].

كما افتُتحت السورة ببيان أسباب الفلاح وتبشيرهم بالفردوس، خُتمت كذلك بالثناء عليهم بأنهم صبروا على مخالفة الهوى والدنيا وشهواتها، وجاهدوا أنفسهم فبشرهم بالفوز، وخصهم بالرضوان: {﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾} [المؤمنون: 111]، ثم جاء هذا المشهد ليعلم كل حيٍّ الآن أن صبره وطاعته لله في دار الاختبار سهلة يسيرة؛ وذلك لأن زمن الدنيا في حساب الله يوم أو بعض يوم، ألَا نصبر تلك الساعات للفوز بنعيم أبدي، وخلود لا موت بعده، ونعيم لا بؤس معه: {﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾} [المؤمنون: 112 - 118].



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.50 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.87 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.06%)]