عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 01-07-2024, 09:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,332
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (328)

صـــــ(1) إلى صــ(22)





شرح زاد المستقنع -‌‌ باب الصلح [1]
الصلح معاقدة توجب رفع الخلاف ودفعه، وقد شرعه الله سبحانه وتعالى في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء على مشروعيته.
وإذا كان الأمر كذلك فإن على من يريد الإصلاح بين الناس أن يراعي حسن القصد، والعمل على تحري العدل وعدم المحاباة، وأن يتجنب وسائل الإحراج والميل ونحو ذلك
‌‌تعريف الصلح
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الصلح] الصلح في لغة العرب: قطع النزاع ورفع الخلاف.
يُقال: صالح الرجل الرجل، يُصالحه مصالحة، إذا وقع بينهم الاتفاق على رفع الخصومة، ولذلك لا يختلف تعريفه الاصطلاحي عند الفقهاء والعلماء عن المعنى اللغوي.
ومن هنا قال بعض العلماء في تعريفه: الصلح: معاقدة توجب رفع النزاع.
وقولهم: (معاقدة)؛ لأنها تكون بالاتفاق بين الطرفين، وهما المدّعِي والمدَّعَى عليه، وتكون بين مالك الشيء والأجنبي.
وقولهم: (توجب رفع الخلاف): الخلاف: النزاع والخصومات، فيختصم الرجلان في المال، يقول أحدهما: هذا لي، فيقول الآخر: بل هو لي، أو يختلفان في جزئه، كأن يكون شطر أرضٍ، فيقول أحدهم: الأرض كاملة لي، فيقول الآخر بل نصفها لي، ونحو ذلك من الخصومات، فإذا وقع الصلح بين الطرفين، وتراضى الطرفان؛ فإن معنى ذلك أن يرتفع الخلاف والنزاع، وتنقطع الخصومة، ومن هنا قال العلماء رحمهم الله في هذا التعريف: (معاقدة توجب رفع الخلاف).
وبعض العلماء يقول: معاقدة توجب رفع الخلاف ودفعه، وهناك فرق بين الرفع والدفع، كما نبه عليه السيوطي في قواعد الفقه، وكذلك ابن نجيم في الأشباه والنظائر، وهو أن الرفع يكون لما وقع، والدفع يكون لشيءٍ لم يقع.
فإن الصلح تارةً يُقصد منه رفع الخلاف بين الطرفين، كرجلٍ خاصم رجلاً ووقع النزاع بينهما، فجاء رجلٌ ثالث وأصلح بينهما، فإن الخصومة قد وقعت، ولكنها بالصلح ارتفعت، فيقال: رفع خلاف.
وتارةً يكون الصلح قبل النزاع، فإذا جاء رجل إلى رجل، وقال له: هذه الأرض لي، فقال الآخر: بل لي، وقبل أن يقع بينهما الشجار توسّط ثالثٌ فقسمها بينهما، فحينئذٍ يكون دفعاً للخلاف، أي أن الصلح وقع في مرحلة سابقة للخصومة والنزاع.
وأياً ما كان فالصلح يقع قبل الخصومة، أي: قبل وقوع النزاع والخلاف والشجار والآثار المترتبة، وقد يقع بعد ذلك، ولكن الله سبحانه وتعالى يدفع بهذا الصلح النزاع، ويدفع أيضاً عن عباده أثر وضرر العداوات والشحناء، وما يكون مترتباً على النزاع بينهم
‌‌الأدلة على مشروعية الصلح
وقد شرع الله عز وجل الصلح بكتابه، وبسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية الصلح بين المتخاصمين
‌‌الأدلة من الكتاب
أما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]، فأمر الله عز وجل أن نصلح ذات بين المسلمين، لما في ذلك من خير الدنيا والدين، فندب عباده وحثّهم على ذلك، وقال سبحانه وتعالى مبيِّناً فضل هذا الأمر وعاقبته الحميدة: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128]، فشهد من فوق سبع سماوات أن جمع القلوب وائتلاف الأرواح بالصلح فيه خير، ثم لما قال سبحانه: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128]، جاءت كلمة (خير) نكرة.
فمن هنا قال بعض أئمة التفسير: إنه لعظم الخير المترتب على الصلح، جاءت بهذه الصيغة؛ لأن النكرة تفيد العموم والكثرة، أي: فيه خير الدين والدنيا والآخرة.
وكذلك ندب الله عز وجل إلى الصلح بين الزوجين فقال: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35]، فأخبر سبحانه وتعالى أنه معينٌ وظهير لمن سلك هذا المسلك المحمود، وهو الصلح بين الناس، فإن الله يعينه ويوفِّقه ويسدِّده، فيعينه على عناء الخصومة، فتجده ينتقل من هذا إلى هذا، فيسهر ليله ويتعب في نهاره، ويكثر الخصوم بين يديه اللغط واللجاج والصياح، وهو مع ذلك صابر مصطبر لعلمه بعظيم الثواب عند الله، فيعينه الله، ثم إذا جاء يتكلم بين المتخاصمين سدّد الله قوله، وقوّم لسانه، لأن المصلح يدعو إلى ما دعا الله إليه من ائتلاف القلوب، فهو محصِّلٌ لمقصود الشرع، وهو داعي الله.
وأما من كان مفسداً والعياذ بالله فإنه يدعو بدعوة الشيطان ولذلك يبوء بالخيبة والخذلان، فإذا نظرت إلى أهل الصلح وجدت عندهم من الصبر والتحمل، وبعد النظر، وسداد القول، والرشد، وحسن العاقبة، ما لا تجده عند غيرهم، ولا يزال الناس بخير ما بقي فيهم أمثال هؤلاء.
وقد شهد الله من فوق سبع سماوات أن من فضل المجالس أن تُعمر بالصلح بين المتخاصمين، فقال سبحانه وتعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، فأخبر سبحانه وتعالى أن المجالس إذا عُمرت بالصلح بين الناس، وبالدعوة إلى جمع القلوب، وائتلاف الأرواح؛ فإنها مجالس خير وبر، وأخبر سبحانه وتعالى أنه متكفِّلٌ بثواب أهل الصلح، فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [النساء:114]، ولكن بشرط: {ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [النساء:114]، أي: طلباً لرضوان الله عز وجل، قال بعض العلماء: فيه دليل على أن الصلح طريقٌ لرضوان الله عن العبد، وهذا أمر لا يُشك فيه، فإنك إن وجدت الرجل معروفاً بجمع القلوب، ويُحبِّب الناس بعضهم إلى بعض، ووجدته يسعى في جمع المفترقين، ولم شمل المتخاصمين، وجدته على خير الأحوال وأفضلها وأصلحها، فالله عز وجل يقول: {مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، وعظيماً من الله ليست بالهينة، فالله إذا قال للشيء إنه عظيم فهو عظيم، فلا أعظم من شيءٍ وصفه الله عز وجل بالعظمة، والكبير من الله ليس بالهين، أي: سوف نؤتيه أجراً موصوفاً بالعظم.
ولذلك تجد أهل الصلح في القديم، وكذا من يعاصرك من إخوانك ممن عُرف بالصلح ومحبّة جمع القلوب، تجده في عاجل خير الله له من هذا الأجر العظيم.
فتجده محبوباً بين الناس، مقبول الشفاعة، مرفوع المكانة، حتى إن أقواماً ماتوا من عشرات السنين، بل من مئات السنين ولا يزال الناس في ذكرهم الحميد بما خلَّفوا من المآثر الكريمة من الصلح بين الناس.
فهذه آيات الكتاب كلها تدل على فضل الصلح بين الناس، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]، فجعلهم كالجسد الواحد، لا يرضى المسلم لإخوانه أن يتفرّقوا، وأن يتقطعوا، وأن يتمزَّقوا، فيتكلَّم هذا في هذا، ويعادي هذا هذا، إلى غير ذلك من المفاسد المترتبة على الخصومة والنزاع
‌‌الأدلة من السنة
ودل دليل السنة أيضاً على مشروعية الصلح، فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يندب إلى الصلح، ويفعل الصلح، بل قد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في حديث عوف بن مالك رضي الله عنه: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً)، وهذا الحديث رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وحسّنه غير واحد من العلماء، وإن كان الإمام الحافظ أبو عيسى الترمذي قد جزم بصحّته، وأُخذ عليه ذلك، لكن العمل عند المحققين أنه حسن لغيره؛ لتعدد الطرق، وكثرة الشواهد، وهو حديث ثابت.
فهذه سنة قولية تدل على مشروعية الصلح وقطع الخصومات والنزاعات بالصلح بين الناس، وتقريب قلوب بعضهم إلى بعض.
وجاءت السنة الفعلية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمشروعية الصلح، ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه تأخر عن الصلاة بقباء ليصلِح بين حيين من بني عوف) وكان بنو عوف من الأنصار قبلي المدينة، جهة قباء، وكان بينهم شيءٌ من الشحناء والخصومات، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يسمع بخصومة بينهم إلا سعى للجمع والصلح، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان معتكفاً في المسجد، وأُري ليلة القدر، فتلاحى رجلان، فكشف عليه الصلاة والسلام الستار عن قبته، ثم أشار لصاحب الدين أن يضع شطر الدين، فأصلح بينهما وهو في معتكفه عليه الصلاة والسلام.
فالسنة القولية والفعلية دالة على مشروعية الصلح
‌‌دليل الإجماع على مشروعية الصلح
وأجمع العلماء وأئمة الإسلام عليهم رحمة الله عز وجل على مشروعية الصلح وفضله، وأن من أعظم وأجل الطاعات وأحبها إلى الله سبحان وتعالى إصلاح ذات البين، وأن فعلها مندوب إليه ومرغَّبٌ فيه، وقد يجب على المسلم في بعض الأحيان أن يُصلِح إذا كان مقبول القول ومأمون الفتنة بالدخول في الصلح، وإذا لم يُصلِح ترتب على عدم صلحه قطيعة الأرحام، أو حصول ضررٍ عظيم كسفك الدماء وانتهاك الأعراض، واغتصاب الأموال، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ فإذا غلب على ظنه أنه لو دخل في هذه الخصومة أن الله يصلح ذات بين المسلمين، وأن الله يدفع هذه الشرور وهذه الفتن، وليس ثم ضرر عليه بالدخول؛ فإنه يتعين عليه أن يسعى، ويتعين عليه أن يصلح بين المسلمين
‌‌أنواع الصلح وصوره
والصلح أنواع، ويقع على صور، فهناك صلح بين المسلمين والكفار، وهناك صلحٌ بين الفئة العادلة والفئة الباغية، وهو صلحٌ بين المسلمين، وهناك صلحٌ بين الزوجين، وهناك صلحٌ على القصاص والدماء والاعتداءات على الأجساد والأرواح، وهناك صلحٌ بين المسلمين في أمور الأموال، فهذه خمسة أنواع للصلح.
فأما الصلح الذي يقع بين المسلمين وبين الكفار؛ فهذا يتكلم العلماء عليه في باب الهدنة، وقد تقدّم في باب الجهاد في سبيل الله وبيّنا فيه أحكامه وما يترتب عليه من مسائل.
وأما الصلح بين الفئة العادلة والفئة الباغية، وهم البغاة الذين يخرجون على والي المسلمين وجماعتهم، فيُصلح بينهم وبينه، فهذا يتكلم العلماء عليه وعلى مسائله في باب أحكام البغاة.
وأما الصلح في الشقاق والخلاف الذي يقع بين الزوجين، فغالباً ما يُنبّه على جُمَلٍ من أحكامه في مسائل العشرة الزوجية، ومسائل النشوز، ويعتني المفسرون ببيانه في تفسير آية النساء السابق ذكرها.
وكذلك أيضاً بالنسبة للصلح الذي يقع على الحقوق المالية، وهذا هو الذي يعتني العلماء بذكره في هذا الموضع، فإذا قال الفقهاء: باب الصلح، أو قال المحدثون: باب الصلح، فغالباً ما يركزون على الصلح في الحقوق المالية كالنزاع في الأراضي والبيوت والدور والمساكن، والنزاع في الحقوق العامة التي تقع في الأموال، فهذا غالباً ما يُعتنى به في باب الصلح، أو كتاب الصلح، فيذكرون فيه مسائله وأحكامه.
وأما الصلح عن الدم والقصاص ومسائله والديات؛ فهذه يُنبَّه على جملة من أحكامها غالباً في باب القصاص وباب الديات
‌‌مناسبة ذكر باب الصلح بعد باب الحوالة
وقول المصنف رحمه الله: (باب الصلح) بعد باب الحوالة يورد سؤالاً: لماذا ذكر المصنف باب الحوالة، ثم أتبعه بباب الصلح؟ وما هي مناسبة باب الصلح لباب الحوالة؟

‌‌الجواب
أن باب الصلح فيه شبه من الحوالة؛ لأن الحوالة أن تحيل صاحب الدين على شخص آخر لك عليه حق، كما تقدم بيانه في باب الحوالة، فكأنك صالحت صاحب الحق عن حقه عندك، فحينئذٍ تكون الحوالة فيها شيءٌ من الصلح، ومن عادة العلماء أن يُلحقوا الشبيه بشبيهه، والنظير بنظيره، والمسائل المتقاربة، والأبواب المتجانسة والمتفقة في بعض المعاني، بعضها ببعض، فألحقوا باب الصلح بباب الحوالة، وإن كان بعض أئمة الشافعية رحمة الله عليهم يسلكون مسلكاً آخر، لكن للمصنف رحمه الله عذره من هذا الوجه
‌‌الحث على الصلح
والصلح إذا وقع فإنه يقوم على طرفين متنازعين، وطرفٍ ثالث يصلح بين الطرفين، وهذا الطرف الثالث تارةً يكون من القضاة والحكام الذين يفصلون في القضايا، وتارةً يكون من غيرهم من عامة الناس.
فأما بالنسبة للقاضي، فالقاضي موقفة في الأصل حيادي، ولا ينبغي للقاضي أن يميل لأحد الخصمين دون الآخر، والصلح غالباً يكون فيه شيء من الإضرار بأحد الطرفين، ولذلك كان على القاضي ألا يتدخل إلا بالحكم والفصل في الخصومة، فيعطي كل ذي حق حقه على وفق حكم الشرع؛ لأنه لو كان القاضي يُغرق ويبالغ في مسائل الصلح؛ فإن هذا يُذهب هيبة القضاء، ويُنزِع الثقة من القاضي؛ لأن الناس لا يصلون إلى القاضي غالباً إلا وقد تقرَّح قلب المظلوم من الظلم، فهو يحتاج إلى من ينصره ويعينه، فإذا جاء إلى القاضي فوجد القاضي يهوِّن من دعواه، أو يحاول أن يحط من حقه الذي عند خصمه؛ فإن هذا يُحدث عند الناس شيئاً من ردة الفعل الذي لا تحمد عقباها.
ومن هنا فالأصل أن القاضي لا يتدخل بين الطرفين إلا في الفصل، فمثلاً: لو ارتفع الخصمان إلى القاضي فردّهما، أي: ردّ الخصمين، وقال: اذهبا فاصطلحا وامتنع من القضاء، وجاء المظلوم في شدة وفي حال، فإن هذا كما ذكرنا قد يُحدث ضرراً فيجعل المظلوم إذا وصل إلى القاضي ولم ينصف أن يتجه إلى وسائل أخرى للوصول إلى حقه، ومن هنا قال العلماء: الصلح من القضاء يُضَيَّق قدره في حدود.
ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كتاب القضاء المشهور، والذي شرحه الإمام المبارك ابن القيم شرحاً مسهباً يعد من أنفس ما كتب في شرح هذا الكتاب الذي اعتنى العلماء بذكره، وهو كتاب القضاء، وهو كتاب بيّن فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه منهج القضاء، كتبه لـ أبي موسى؛ لأن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كان قاضيه على الكوفة، ولاه القضاء بالكوفة وناحية الشرق، فكتب له هذا الكتاب الذي يسمى بكتاب القضاء، رواه البيهقي وغيره في السنن.
وفيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أبا موسى برد الخصوم حتى يصطلحوا، فإن الفصل بينهم يورث الضغينة والشحناء، فأمره أن يرد الخصوم إلى الصلح، ولكن كما ذكر العلماء يُرد بقدر، يعني أن القاضي إذا نظر أن الخصوم عندهم سعة، وبالإمكان أن يصلح بينهم؛ دعا إلى الصلح، وردَّهم إلى الصلح، وإن وجد الأمر يحتاج إلى بتٍّ وفصل؛ فإنه يبت ويفصل.
لكن رخصوا للقاضي أن يُصلح بين الخصمين في مواضع: الموضع الأول: أن تستشكل عليه القضية فتصبح غامضة، وأدلتها متشعبة، ولا يستطيع أن يلم هذا الشتات، فحينئذٍ يلتجئ إلى الصلح.
فإذا أشكل عليه الحكم ولم يتبين له وجه الحق، والتبست عليه القضية لكثرة الأقوال فيها وكثرة الأدلة، وحصول شيء من التعارض والتضارب الذي لا يستطيع فيه أن يتبين؛ فإنه يرجع إلى الصلح وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما أنا بشرٌ مثلكم وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض).
فالقاضي بشر، ومهما أُوتي الإنسان من الذكاء والفهم، فإنه قد يوقفه الله عز وجل في بعض القضايا مكتوف اليدين حتى يعلم فضل الله عليه، وأنه تحت رحمة الله، ومهما أوتي القاضي من علم وفطنة؛ فلا بد وأن يقف في بعض المواقف حائراً بقدرة الله عز وجل حتى يستكين ويذل لله عز وجل، وهذا معروف ومشهور في أخبار القضاة وأقضيتهم، ففي هذه الحالة إذا طغت الخصومة وتشعّبت الأدلة، ورأى القاضي من المصلحة أن يجمع بين الخصمين بالصلح، فحينئذٍ يُصلِح.
وأما إذا تبين الحق.
بمعنى: عرفنا أن زيداً له على عمرو ألف ريال، وأصبح الأمر لا لبس فيه، فيجب عليه أن يبت الحكم، إلا إذا خاف أن إمضاء الحق يُحدث فتنة أعظم، كما يقع بين ذوي الأرحام.
فمثلاً: لو أن طرفين اختصما عند القاضي، وتبيّن للقاضي وجه الحق، كأن اختصموا في دم، أو عرض، وتبين للقاضي أن هذه الفئة ظالمة لهذه الفئة ولكن لو أصدر الحكم وبيّن الحق، فستحدث آثار أسوأ وأعظم من المصلحة المترتبة على قضائه، فإن خاف حصول فتنة عظيمة، أو حصول شحناء فحينئذٍ يصلح، وقد أشار بعض العلماء رحمهم الله إلى هذه الاستثناءات بقوله: والصلح يستدعي له إن أشكل حكم وإن تعين الحق فلا ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام (والصلح يستدعي له): يعني: أن القاضي يصير إلى هذا الصلح.
فيستدعي له الطرفين.
(إن أشكل): يعني: غمَض عليه الحكم، (وإن تعين الحق فلا): لأنه إذا تعيّن له الحق، وعُرِف أن فلاناً ظلم فلاناً وتبيّن الحق، فإنه بدخوله في الصلح يوجب الريبة، فكأنه يشفع للظالم، وموقف القضاء دائماً ينبغي أن يكون حيادياً لا يميل فيه القاضي لأحد الخصمين دون الآخر.
وقوله: ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام.
ففي بعض الأحوال يكون القضاء بين أقوام جُهَّال، أو بين أقوام بينهم فتنة عظيمة، وقلوبهم مليئة بالشحناء والبغضاء، ولكن رأى القاضي أن الأفضل أن يقرِّب بين الطرفين، وأن يُصلِح بينهم فيعدل عن الحكم بالقضاء إلى الجمع بين الطرفين بذلك، هذا بالنسبة لمسألة الصلح من القاضي ومن في حكمه.
أما الصلح من عامة الناس، فالصلح يسعى له العلماء، ففي بعض الأحيان يتدخّل العالم بين طرفين، بين زوج وزوجته، بين عامل ومستأجره، وهكذا يدخل العالم ويدخل طالب العلم، ويدخل الرفيع الذي له شأن كشيخ العشيرة، وأمير القبيلة ونحو ذلك ممن لهم فضل ومكانة، وعندهم عقل وحكمة، وقد يدخل أُناس من عامة الناس عندهم شيء من العاطفة ومحبة الخير للناس، فيختلف أنواع الشفعاء
‌‌أمور يجب مراعاتها في الصلح بين الناس
فننبه على مسائل: ينبغي لمن يريد أن يُصلح بين الناس أن يراعيها
‌‌الإخلاص لله
منها: أن يعلم أولاً أنه يتردد بين نيتين إذا دُعي للصلح بين طرفين، فإما أن تكون نيته لله والدار الآخرة، وإما أن تكون للدنيا، فالشخص ينبعث للصلح بين الناس لعلمه بعظيم الثواب عند الله، وهو يستشعر قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، ويستشعر قول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].
فهو يبيع نفسه لمرضاة الله سبحانه وتعالى.
فإذا انبعث بهذه النية الصالحة، فإن الله عز وجل يُعظِم له الأجر، ويجعل جميع ما يقع من العناء والتعب والنصب في ميزان حسناته، وهذا بخير المنازل عند الله عز وجل.
وكذلك -أيضاً- بحسن النية يُوفَّق إلى السداد، وقل أن يُصلح نيته إلا ألهمه الله عز وجل أصلح الأمور، ومن هنا قال بعض العلماء رحمهم الله: (من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس)، فمن أصلح ما بينه وبين الله بالنية الصالحة في الأمور، أصلح الله ما بينه وبين الناس من الشئون والأحوال.
فمن أمثلة ذلك: إذا دخل في الصلح فأصلح ما بينه وبين الله بحسن النية؛ أصلح الله ما بينه وبين الناس، فعصَم لسانه عن الزلل، وعصم فعله عن الخلل، ووجهه وسدده، وكان له المعين والظهير معيناً على الخير، وظهيراً له على الطاعة والبر، وفي ذلك وردت قصة: اختصمت عائلتان لزوج وزوجة، ثم دخل بينهما مصلحان فلم يوفقا للصلح بينهما، وكانت القضية عند أحد قضاة السلف رحمة الله عليهم، وكان يعلم هذا القاضي أن هناك مجالاً للصلح، ولكن الله لم يوفق الحكمين، فلما رجع الحكمان إليه وأخبراه أنهما لم يوفقا، قال رحمه الله: والله لو حسنت نيتكما لوفّقكما الله؛ لأن الله يقول: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35].
أولاً: فالنية هي الأساس والمنبعث الذي ينبعث به الإنسان للصلح.
ثانياً: هذه النية لها عوارض، فمنها حب الشرف، وحب الجاه، فإن الذي يدخل في الصلح ينتزعه الشيطان إلى نية الدنيا؛ لأن الناس يقولون: فلان أصلح بين فلان وفلان، وفلان وجه الخير، وفلان كذا، ينتظر من الخصمين أن لا يجلسا في مجلس فيطرأ ذكر الخصومة إلا قالوا: فلان هو الذي أصلح.
فهذا يطلب الرياء والسمعة، ويطلب المدح والثناء، فحظه من تعبه ونصبه ما أراد من الدنيا، وينادي منادي الله يوم القيامة: من كان عمله لغير الله فليذهب وليأخذ أجره ممن عمل له، فإن يوم القيامة لا ينفع فيه الإنسان إلا صدقه: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119]، فالصدق هو الإخلاص.
فمن صدق مع الله صدق الله معه، فالصلح إذا دخل الإنسان فيه بنية السمعة هلك، وصرفه الله عز وجل، ولذلك تجده يتأثر في حدود السمعة، فلو كان أحد الطرفين قوياً أو له مكانة، مال إليه والعياذ بالله أكثر من الضعيف، وإذا دخل بنية الرياء والسمعة انحرف عن صراط الله، فإذا كان أحد الخصمين ممن ليس له مكانة في قلبه ضغط عليه وأحرجه، وألجأه إلى أمور لا تُحمد عقباها؛ فهذا لا يأمن أن يكون بصلحه مفسداً، فهو يظن أنه مصلح والواقع أنه -والعياذ بالله- مفسد، وسنبين وجه ذلك، وهو الظلم في الصلح
‌‌الحذر من الحمية والعصبية
وكذلك أيضاً: ينبغي لمن يريد أن يصلح بين الناس أن ينتبه للحمية والعصبية، فإنه في غالب الأحوال إذا دخل في الصلح بين القرابة، تنتزعه نوازع الحمية والعصبية، فينبغي أن يحذر منها، وأن لا يجعل العادات والأمور التي هي من شأن الجاهلية محكمة له في صلحه، بل عليه أن يجعل نصب عينيه مرضاة الله، وهذا يستلزم عليه أن يرجع للعلماء، فإذا طرأت قضية بين زوجين، أو طرأت قضية بين متخاصمين، وليس عنده خلفية عن بعض المسائل الشرعية فعليه أن يتصل بالعالم، ويسأل العلماء، ولذلك يقولون: غالباً ما يُوفَّق المصلح إذا سأل العلماء، لأنك إذا سألت العالم -وهذه قاعدة عامة- في الأمور كلها التي تتصل بالعبادات والطاعات والقربات، وما تريده من أمور دينك؛ وفقت، وأنك ما استشرت ولا سألت ولا استفتيت أحداً من أهل العلم وأنت ترجو ما عند الله عز وجل بالرجوع إليه، وعملت بما قال لك إلا بارك الله فيما أتيت، حتى ولو كانت هناك أضرار، فإن الله يدفع عنك أضراراً أكبر منها.
وهذه فائدة الرجوع إلى العلماء، ولذلك قالوا: قل أن يشاور ويستفتي أحدٌ العلماء ويخيب في أمره؛ لأن الله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، ولم يأمر الله بسؤالهم والرجوع إليهم إلا لخير يعلمه سبحانه وتعالى في ذلك الرجوع وذلك السؤال، ولذلك شهد الله أنه لو رُد الأمر إلى أهله لكان خيراً، وكان الصحابة رضوان الله عليهم إذا وقع بينهم شيء رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسار السلف الصالح على ذلك، وكانت الأمة بخير حينما كان الناس إذا طرأت عليهم أمور لا يستبدون بالآراء والأهواء، وإنما يرجعون لأهل العلم، ويقدرون أهل العلم، وعندما كان الناس يحمدون مشورة العلماء ويحبونها كانت البركة، وكان الخير في ذلك

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.01 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.39 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.57%)]