شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (324)
صـــــ(1) إلى صــ(19)
شرح زاد المستقنع - فصل في الكفالة
الكفالة لها تعلق بمسألة إحضار الغريم، وتسمى: كفالة الأبدان، وإحضار الغريم إما لتسليم ما عليه من حقوق، وإما لمثوله أمام مجلس القضاء.
وتكون الكفالة فيما يتعلق بالحدود والقصاص ممن لديه القدرة على إحضار من عليه الحق، كرؤساء العشائر وأشباههم، والكفالة مشروعة كالضمان؛ لما فيها من حفظ الحقوق للناس، وفي مشروعية الكفالة حكم عظيمة وفوائد جليلة، وبها تجلب المصالح وتدفع المفاسد.
وتصح الكفالة في العواري والمغصوبات كما تصح في الأبدان، ولها أحكام عدة تتوقف عليها صحتها كرضا الكفيل وغيرها من الأحكام
الكفالة معناها ومشروعيتها وما يتعلق بها من أحكام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن المصنف رحمه الله تعالى يقول: [فصلٌ: وتصح الكفالة بكل عين مضمونة وببدن من عليه دين] شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان الأحكام المتعلقة بالكفالة، والعلماء رحمهم الله كما تقدم، منهم من جعل الضمان والكفالة والقبالة والزعامة والحمالة بمعنى واحدة، فيقولون: الكفيل والضمين والحميل والصبير والقبيل كلها بمعنى واحد.
وعلى هذا قالوا: لا فرق بين الكفالة والضمان، لكن فقهاء الحنابلة والشافعية رحمهم الله يفرِّقون بين الكفالة والضمان، فيجعلون الضمان للأموال.
ومن كان عليه دين أو لآخر عليه حق فإنه يمكنك أن تضمن عنه وذلك بأن تضيف ذمتك إلى ذمته.
وأما الكفالة، فإنهم في الغالب يجعلونها للحضور، أي: تكون متعلقة بالأبدان والأعيان، وإن كان في بعض الأحوال يُلزَم فيها بالضمان، ولكنهم في الأصل يجعلونها متعلقة بالعين وبالبدن.
والكفالة في لغة العرب تطلق بمعانٍ، يقال: كفل الشيء وتكفَّل بالشيء إذا قام به وضمّه إليه، قال تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:37]، أي: ضمّها زكريا إليه فقام عليها، وقال تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} [القصص:12]، أي يقومون عليه برضاعه وما يتعلق من شأنه.
فالكفالة تطلق بهذا المعنى، كما أنها بالتحريك يقال: كَفَل، الكَفَل هو العَجُز من الإنسان، ويطلق الكِفْل بالكسر على الحظ والأجر والثواب، كما قال تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد:28]، أي: حظاً وأجراً، قيل: مضاعفاً.
وأما بالنسبة للاصطلاح، فالكفالة: هي التزام رشيدٍ بإحضار من عليه الدين لربه، وكذلك بعض العلماء يضيف إليها: التزام رشيد ببدن من عليه الحق لربه بماله أو ببدنه.
ويتعلق بهذا الخلاف المشهور، هل الكفالة تكون فقط في الأموال، أو تشمل الأموال والأبدان، حيث يمكن أن يُضمن أو يتكفَّل بإحضاره للحدود والقصاص؟ كان هذا يقع في القديم، فإذا كان الشخص معتدياً على الغير بحق في عرضه أو في نفسه، فحينئذٍ يجب القصاص، أو يُطالب بحدٍ فيطلب من صاحب الحق أن يذهب إلى أهله أو إلى عشيرته، فيقال: ائتنا بمن يكفل حضورك، فهذا النوع اختلف فيه العلماء والأئمة من السلف رحمهم الله، وسيأتي إن شاء الله الإشارة إليه.
والمصنِّف رحمه الله ذكر أحكام الكفالة بعد الضمان، ويتعلق بها مسألة إحضار الغريم، فإذا كان هناك شخصان لأحدهما على الآخر دين، وقال المدين لصاحب الدين: أمهلني أُسبوعاً أُحضر لك حقك.
وغالباً ما تقع الكفالة فيما لو إذا حصل أو حضر وقت السداد، فيقول صاحب الدين: لا أمهلك فيقول له: آتيك بكفيل يتكفل بإحضاري إن غبت، خاصة إذا كان يريد أن يقاضيه، فإنه يحتاج إلى من يكفله للحضور.
فيقول: ائتني بمن يكفل حضورك، فحينئذٍ يقول الشخص: أنا متكفِّل ببدنه، أي: متكفِّل بإحضاره.
هذه صورة من صور الكفالة، والإحضار إما أن تحضره لصاحب الدين، ويكون عند صاحب الدين قوة يستطيع أن يتوصل بها إلى حقه إذا حضر المدين، وإما أن يطالبك بإحضاره إلى القضاء، فتقول له: أنا متكفِّل إذا لم يسددك الجمعة أن أُحضره يوم السبت إلى مجلس القضاء، فهذه كفالة حضور، فالكفالة كفالة ضمان بالحق، وكفالة حضور، وهذا النوع قال به جماهير السلف رحمهم الله والأئمة والخلف، فيقولون: يشرع أن يتكفل لك الشخص بإحضار من عليه الدين، قالوا: والحاجة داعية إلى ذلك، فإنه ربما احتاج المدين إلى مهلة وإلى وقت، ولا يثق صاحب الدين فيه، ووجود الكفالة فيه يسر على الناس ورحمة وتوسعة، ثم إن المدين قد لا يثق فيه صاحب الدين، وقد تكون الحقوق بين أشخاص ليست بينهم معرفة، فيعطيه كفيلاً أو يحضر له كفيلاً يعرفه، ففي هذا من التوسعة على الناس ما لا يخفى.
وقالوا: إن الكفالة لها أصل من السنة في حديث الرجل الذي استدان المال، فقال له صاحب الدين: ائتني بشهيد، فقال: كفى بالله شهيداً، قال: ائتني بكفيل يكفلك، قال: كفى بالله كفيلاً، فدفع إليه المال -وهذا يظهر لنا صدق الإيمان! وقوة اليقين بالله عز وجل! وصلاح الناس! - فبعض الناس إذا تعامل بالدنيا رماها وراء ظهره، وجعل الآخرة نصب عينيه، فإن قال صدق، وإن وعد وفَّى، فلا يكذب ولا يغش، وإذا أعطى كلمة لا يمكن أن يتراجع فيها، فلما استشهد الله وكفى بالله شهيداً، وجعل الله كفيله، وكفى بالله كفيلاً ووكيلاً سبحانه وتعالى، فمضى ذاك الرجل إلى بلده، ثم لما حضر أو قرب وقت السداد والمطالبة التمس سفينة يركبها فلم يتيسر له ذلك، فلما أعياه الأمر أخذ جذعاً من النخل، ثم احتفره ووضع فيه المال، وكتب فيه اسم صاحبه، ثم وضعها بين ذلك اللوح، ثم ألقاه في البحر، وقال: اللهم! إني قد جعلتك شهيداً وكفيلاً.
ثم رمى به في البحر وسأل الله أن يوصله لصاحبه.
ثم إن صاحب الدين لما استبطأ الرجل خرج يلتمس حضوره، فكان ينتظر أن يأتيه فإذا به يجد ذلك اللوح، فقال: لو أخذته حتى يكون حطباً لأهلي، فلما جاء به إلى بيته وشطره إذا به يجد الكتاب والمال، فقرأ الكتاب وعد المال فإذا هو حقه كاملاً.
ولا شك أن من صدق مع الله صدق الله معه، فما ضر الناس إلا ضعف الإيمان بالله عز وجل، وإلا لو أن القلوب صلحت لله عز وجل، لرأت من تيسيره ومنِّه ووفائه وبره وكرمه سبحانه وتعالى ما لم يخطر لها على بال، ولذلك قال تعالى: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111]، مَن: بمعنى لا، أي: ولا أوفى بعهده من الله.
فأخذ الرجل حقه، ثم لما حضرت السفينة على المدين، وهو يشك في كون المال وصل إلى صاحبه، بناءً على أن ذمته مشغولة، فجاء إلى صاحب الدين، وقال له: اعذرني فإني لم أجد مركباً، وجلس يعتذر إليه، فقال له: قد جاءني حقي، ثم ذكر له الخبر، وذكر له القصة.
فالشاهد في قوله: ائتني بكفيل.
فقال: كفى بالله كفيلاً.
فقوله: ائتني بكفيل، هذا أصل من السنة على مشروعية الكفالة، وأخذ به طائفة من العلماء، وترجم له الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، وهو أصل عند أهل العلم، ولذلك قال جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم بمشروعية الكفالة، وإن كان هناك اختلاف في قول عن الإمام الشافعي رحمه الله في مسألة الكفالة أنها لا تصح، وصحح طائفة من أصحابه قوله بجوازها ومشروعيتها.
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور.
وعلى هذا فإن الكفالة مشروعة كالضمان؛ لأن المقصود من الكفالة ومن الضمان حفظ حقوق الناس، ووجود الكفلاء ووجود من يضمن يعتبر شيئاً من الاستيثاق، وعلى هذا تطمئن لحقك، فإنك قد تثق بزيد الكفيل أكثر من ثقتك بغيره، وفي مشروعية هذا النوع من المعاملات لا شك أن فيه حكماً عظيمة وفوائد جليلة كريمة، فبهذا النوع من المعاملات تتحصل المصالح وتدفع المفاسد.
والمصنف رحمه الله من دقّته ذكر المسائل التالية: المسألة الأولى ذكر فيها ضمان الديون الواجبة، ومثّلنا لذلك وبيّنا دليل مشروعيته والأصل فيه، ثم بعد أن فرغ من بيان الديون الواجبة والمستقرة شرَع في ضمان الديون التي تئول إلى الوجوب، كما ذكرنا في العارية والأمانات إذا تعدى فيها المتعدي، ثم كذلك أشرنا إلى النوع الثالث من الضمان، وهو ضمان الديون المضافة إلى المستقبل، كقولك: أعط فلاناً ما يحتاجه وأنا ضامنٌ لك.
كأن تقول: لصاحب بقالة: إذا أتاك صاحب عائلة، فأعطه ما يحتاج، وأنا أضمن لك نهاية الشهر إن لم يسددك أسددك، فهذا ضمان بما يئول في المستقبل إلى الدين.
فعندنا ثلاثة أنواع من الديون: الديون المستقرة الثابتة، كرجل له على آخر مائة ألف، فتقول: أنا أضمنه أن يسددها، في دين ثابت مستقر، والديون التي تئول إلى الوجوب، وذلك كما في العارية إذا تعدى عليها، وكذلك أيضاً في الأمانات إذا تعدى فيها.
كذلك النوع الثالث: وهو الضمان فيما يئول إلى الدين مستقبلاً، كما مثلنا بصاحب البقالة، فهذا ضمانٌ بدينٍ في المستقبل فليس بحال ولا ثابت.
وعلى هذا بعد أن فرغ من الثلاثة الأنواع شرع في النوع الرابع، وهو مضاف إلى ما قبله، وحقيقته أن تتكفل بضمان الشخص نفسه، أي: تتكفل بإحضار الشخص نفسه لأخذ الحق منه، فإن تكفّلت بإحضاره، فحينئذٍ تكون ملزماً شرعاً بإحضار هذا الخصم أو إحضار هذا المدين لصاحب الحق، على حسب ما وقع الاتفاق بينكما، ومن هنا تكون الكفالة أشبه بالعقد، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، فأنت إذا قلت: أنا كفيل بأن أحضِر لك فلاناً في نهاية الشهر إلى مجلس القضاء أو نحو ذلك، فقد ألزمت نفسك، وحينئذٍ يكون عقد الكفالة عقداً إلزامياً، فلا تملك الخروج من الكفالة إلا بصفة شرعية، أو بإذنٍ شرعي يبيح لك أن تخرج من هذا الالتزام.
والله تعالى أوجب علينا أن نفي بالعقود، فأنت إذا قلت: أنا كفيله أو أنا متكفِّل به، فأنت ملزم به، ثم تقوم الكفالة على كافل، وهو الشخص الذي يتحمّل، وهي اسم فاعل، فالكافل هو الذي يفعل الكفالة ويقوم بها، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) يعني الذي يقوم بكفالة اليتيم، فالكافل هو الشخص نفسه، والمكفول هو الذي عليه الدين وعليه الحق، أو الذي يجب حضوره إلى مجلس القضاء.
وقد يكون المكفول عيناً كما يكون شخصاً، كما تقول: أنا متكفل بإحضار فلان، فقد تتكفل بالعين، والكفالة بالعين مثلما يقع في العواري، كرجلٍ جاء إلى آخر وقال له: أعطني سيارتك أريد أن أذهب بها إلى مكان كذا، فيقول له: أعطيكها ولكن بشرط أن تحضرها لي غداً، فقال له: قبلت، يقول له: أعطني كفيلاً بإحضارك لها غداً، فيأتي الشخص بكفيل ويقول: أنا متكفلٌ بإحضار السيارة لك غداً، فهذه كفالة بعين، فهناك كفالة للشخص وكفالة للعين.
إذا قلت: أنا متكفلٌ بإحضاره، أو متكفلٌ ببدنه، أو متكفلٌ بذاته لا إشكال، لكن الإشكال إذا أضفت الكفالة إلى الجزء، فقلت: أنا كفيل برأسه، أو كفيل بيده، أو ك
حكم الكفالة في الحد والقصاص
كفالة البدن في الحقوق كالقصاص، وهذه كانت تقع في القديم، ويحتاج إليها كثيراً، كرجلٍ اعتدى على رجل، وحكم القاضي بالقصاص، فالتمس من الأولياء الذين لهم الحق أن يذهب إلى أهله، ويبرئ ذمته من الحقوق التي عليه، فقال لهم: أريد مهلة أسبوعاً قبل القصاص، أن أذهب إلى أهلي وأستوفي ما عليَّ من الحقوق، وأفعل وأفعل، فأولياء المقتول، أو صاحب الحق الذي له القصاص، قال: أعطني كفيلاً يقوم ويتكفل بإحضارك، فيقول شخص: أنا كفيله، وأنا متكفل بإحضاره.
وكثيراً ما كانت تقع هذه الكفالات من الوجهاء، كمشايخ العشائر ونحوهم ممن لهم قوة على الإحضار.
هذا النوع اختلف فيه العلماء على وجهين مشهورين: بعض العلماء يقولون: يصح هذا النوع من الكفالة، ومذهب الحنابلة على عدم صحته، فهم يرون أن الكفالة لا تقع إلا في البدن الذي عليه دين، دون الذي عليه حد أو قصاص، لماذا؟ قالوا: لأنه إذا كان كفيلاً ببدن من عليه الدين فإنه يتحمل عنه كالضمان، لكن إذا كان في قصاص فإنه لا يمكننا أن نقتص من هذا الكفيل.
وقد أجاب عنهم من قال بجوازه، وهم طائفة من السلف منهم المالكية، قالوا: إنه لا يكفل إلا من كان قادراً على إحضاره، وفي بعض الأحيان يعجز غيره عن الإحضار، فالناس بحاجة إلى هذا النوع من الكفالة، كما يفعله وجهاء العشائر ونحوهم؛ وذلك لاستطاعتهم، فأنت تريد أن تمهل هذا الخصم، ولكن تريد ما تستوثق به، فإذا وُجِد من يتكفل بإحضاره فلا شك أنه تتحصل بذلك المصالح العظيمة، ثم إننا لا نقتص من الكافل، وإنما نقتص من المكفول، إلا أن فائدة هذا النوع من الكفالة المعونة على إحضاره، والمعونة على الرفق، فإذا رضي أولياء الحق في الحد والقصاص بذلك فلا وجه للمنع.
في هذه الحالة تكون الكفالة في بعض الأحيان بإحضار من عليه قصاص إلى مجلس القضاء.
كأن تقول: أنا كفيل بإحضاره إلى مجلس القضاء، أو إلى موضع القصاص في يوم كذا، ففي هذه الحالة تكون متكفلاً بالإحضار.
هذا بالنسبة لمسألة الكفالة في الحدود والقصاص.
نرجع إلى الكفالة التي اختارها المصنف، وهي الكفالة بالبدن في مالٍ مضمون كالدَّين ونحوه، إذا تكفّل بالبدن فإنه يقول: أنا كفيلٌ بحضور فلان، فإذا أحضره إلى مجلس القضاء برئت ذمته، فتكون متعلِّقة بالبدن.
قال: [لا حد ولا قصاص] قوله: (لا حد ولا قصاص) أي: لا تقع الكفالة في الحد، ولا تقع الكفالة في القصاص؛ لأنه إذا تعذّر في هذه الحالة إحضار المكفول، فإنه لا يمكننا أن نقتص من الكافل، وعلى هذا قالوا: إنه لا تقع الكفالة لا في الحدود ولا في القصاص، ولكن الفائدة عند من قال بمشروعيتها أنه يلزم بحضور المكفول، وفي هذه الحالة يضغط عليه القاضي، وعند المالكية وجه أنه إذا ثبت عند القاضي أنه قادرٌ على إحضاره ولم يحضره، أو تساهل في إحضاره عزَّره، ولربما اضطر إلى الضغط عليه حتى يحضره، وهذا النوع من الكفالة لا شك أن القول بمشروعيته وجوازه فيه قوة.
قوله: لا حد، الحد: هو العقوبة المقدَّرة شرعاً، ويشمل هذا الزنا والعياذ بالله! ففي الزنا عقوبة محددة.
والعقوبات في الشريعة تنقسم إلى: عقوبة محددة، وعقوبة غير محددة، فالعقوبات المحددة يصطلح العلماء على تسميتها بالحدود، وسميت بذلك والمناسبة فيها واضحة، وأما بالنسبة للعقوبات غير المحددة، فهذه هي التعزيرات، وهي ترجع إلى نظر القاضي، إذ ينظر فيها إلى حال الجريمة وحال المجرم، والزمان والمكان والمعتدى عليه.
القصاص أصله من قص الأثر إذا تتبعه، والقصاص يقع في الأنفس ويقع في الأطراف، ومذهب طائفة من العلماء كما ذكرنا: أنه تجوز الكفالة في الحد وتجوز الكفالة في القصاص.
فإذا ضمِن أو تكفّل بإحضاره من أجل أن يقام عليه الحد، أو من أجل أن يقام عليه القصاص فإنه كفيله، وحينئذٍ يحبس مكانه إذا عُلِم أو ثبت عند القاضي تفريطه، أو ثبت عند القاضي تمالؤه مع الخصم على الفرار ونحو ذلك.
وفائدتها أنها تعين على الوصول إلى الحقوق وتساعد على ذلك
عدم صحة الكفالة دون رضا الكفيل لا المكفول
قال رحمه الله: [ويعتبر رضا الكفيل لا مكفولٍ به] قوله رحمه الله: (ويعتبر رضا الكفيل)؛ لأنه يتحمل المسئولية ويدخل على نفسه الضرر، فلابد وأن يكون راضياً بذلك، وعلى هذا فلا تصح الكفالة بالإكراه، فلو هدده وأكرهه على أن يكفله، فإن الكفالة لا تثبت إذا ثبت ذلك عند القاضي، كرجلٍ مثلاً له على رجل مائة ألف، فقال له: أعطني كفيلاً، أو إذا أحضرت فلاناً من الناس يكفلك فأنا أعطيك هذا الدين، فذهب إلى رجل وهدده، وقال له: إذا لم تكفلني فإنني سأقتلك، فكفله مكرهاً.
وإذا ادعى هذا الكفيل عند القاضي أنه أُكرِه على الكفالة، وثبت ذلك عند القاضي فإن الكفالة لا تصح، فالكفالة لا تقع إلا إذا كان الكفيل راضياً بالكفالة؛ لأنه يدخل على نفسه الضرر، فلابد وأن يكون على بينة من أمره.
قوله: (لا مكفول به) الشخص الذي يُكْفَلُ أيضاً لا يشترط رضاه، كالوالد يكفل ابنه، سواءً رضي الابن أو لم يرض، ففي بعض الأحيان لا يرضى الابن بكفالة أبيه؛ لأنه يخشى على أبيه الضرر فيمتنع، فرضاه وعدم رضاه غير معتبر، يقولون: إن الرضا غير معتبر في الكفالة بالنسبة للشخص المكفول، سواءً رضي أو لم يرض، إلا أن بعض العلماء استثنى الكفالة من الأب لابنه، فقالوا: إنه في هذه الحالة يدخل الضرر على والده، ومن حقه أن يمتنع؛ لأن الله يقول: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83]، فلا يكون المكفول سبباً في أذية والده والإضرار به
الحكم إذا مات المكفول أو تلفت العين بآفة سماوية
قال رحمه الله: [فإن مات أو تلفت العين بفعل الله تعالى] قوله: (فإن مات) إذا كنت كفيلاً بإحضار شخصٍ ومات الشخص، فهذا عجز حقيقي، ويستحيل أن تحضره، وحينئذٍ لست مطالباً بهذا الإحضار؛ لأنه يتعذر إحضاره، فتسقط الكفالة وتصبح في هذه الحالة غير مطالبٍ بضمان الدين، وهذا وجه عند بعض العلماء، واختاره المصنف، والمذهب على ذلك، وقال بعض العلماء: بل تتحمل الدين كما لو كان حياً، فموته لا يبرئ ذمّتك، وإنما تبقى الكفالة على السنن المعتبرة حتى يحضر الأجل، ويقام ورثته مقامه وحينئذٍ تتحمّل، ويكون رجوعك إلى ورثته.
فإذا حضر الأجل وضمِنت ودفعت الدين، يكون لك وجه المطالبة على ورثته.
قوله: (أو تلفت العين بفعل الله تعالى) كأن تكون مثلاً السيارة التي ضمنت رجوعها تلفت بآفة سماوية، وليس بفعل آدمي، كأن يأتي سيل ويجتاحها، ويكون الذي أخذها واستعارها غير مفرط، أما لو فرّط كأن أوقفها في مكان السيل، فإنك تضمن؛ لأنك تضمن تعديه، فإذا أوقفها في أماكن هي عرضة فيه للتلف وللآفات فإنه يتحمّل، وحينئذٍ تكون متحملاً معه؛ لأن ذمتك انضافت إلى ذمته في الكفالة.
أما لو أنها تلفت بآفة سماوية، وبشيءٍ لا دخل للآدمي فيه، ولم يكن ثم تفريط، فإنك لا تضمن، وترتفع الكفالة بتعذر إحضار العين
براءة الكفيل بتسليم المكفول عنه نفسه إلى القضاء
قال رحمه الله: [أو سلم نفسه برئ الكفيل] فمثلاً: لو قلت: إذا جاء أول محرم، فإني ألتزم بإحضار المذكور إلى مجلس القضاء، أو ألتزِم بتسليم المذكور إلى صاحب الدين.
فلما حضر الأجل جاء المكفول، وسلّم نفسه، فإنه إذا سلّم نفسه سقطت الكفالة، وعليه فلو سلّم نفسه وفر بعد استلامه لم تكن متحمّلاً لشيء؛ لأنه بتسليمه لنفسه تكون قد سقطت الكفالة، وبرئت أنت من هذه الكفالة؛ لأنه إن فرّ بعد تمكِّن صاحب الحق منه، أو فر بعد حضوره إلى مجلس القضاء، فالتفريط ليس منك، ولست بمتحمل مسئوليته، إنما يتحمل ذلك من فرّط فيه حتى فر.
وعلى هذا فإنه إذا سلم المكفول نفسه برئ الكافل
حكم تسليم المكفول عنه نفسه قبل الأجل
لكن هنا مسألة ذكرها بعض العلماء: وهي فيما لو سلم نفسه، أو قمت بتسليمه قبل الأجل، لو قال: أنا ألتزم بإحضار محمد في أول محرم، فأحضره في شهر ذي القعدة، فبعض العلماء يقول: لا يبرأ الكفيل إلا إذا حل الأجل، وقال بعض العلماء فيه تفصيل: إن كان قد قدمه على الأجل على وجه فيه ضرر على صاحب الدين، فإنه لا وجه لهذا التقديم، وأما إذا لم يكن هناك ضرر على صاحب الدين وأحضره قبل الأجل، فإنه يتحمل المسئولية حينئذٍ، وهذا القول الثاني أوجه وأصح، ويختاره غير واحد من العلماء رحمهم الله.
لقد ذكرنا أن باب الضمان وباب الرهن يجتمعان في مسألة الاستيثاق، والحوالة أيضاً تعين على الوصول إلى الحق، ونظراً لتجانس هذه الأبواب، باب الرهن، وباب الكفالة، وباب الضمان، وباب الحوالة، ذكرها المصنف رحمه الله تباعاً
نصيحة لطلاب العلم بتعلم المسائل المعاصرة
لكن هذه المسائل كثيراً منها ما يقع في القديم وبيّناها وتكلمنا عليها، سواءً مسائل الضمان أو الكفالة، لكن في عصرنا الحاضر، بعض المسائل الموجودة التي خُرِّجت على الكفالة القديمة، وكثيراً ما تقع هذه المسائل في الديونات، وتشتهر في المعاملات الموجودة في المصارف، من ذلك ما يسمى: بالضمان البنكي، وخطاب الضمان، والاعتماد المستندي، و (الكمبيالة)، ونحو ذلك من البطاقات التي تُصدَر للاستيثاق بالديون، ونظراً لوجود الحاجة، وتعلقها بالأبواب التي بحثناها، والمسائل التي تعرضنا لها، فإننا نحتاج لبيان هذه المعاملات المعاصرة؛ لأن هذا أمر متصل بالمسائل التي معنا، ولا يمكن لطالب العلم أن يدرس المسائل القديمة، فيقرأ مثلاً عن البر والشعير والقمح، ثم لما يأتي يعايش الناس، وإذا به يجدهم يتعاملون بأشياء وبمسميات غريبة، وقد يقف حائراً، حتى إنه لربما وقف حائراً في معاملة تتعلق به نفسه، فلا يدري ما حقيقة هذا التعامل الموجود، وما موقف الشريعة الإسلامية منه، ولذلك كان لزاماً على طالب العلم أن يدرس هذه المسائل، وأن يعرف حكم الله عز وجل فيها، حتى يكون على بيِّنة من أمرها فيما يتعلق بنفسه، وفيما يتعلق بالناس إذا سألوه ونحن إن شاء الله سنذكر في الدروس القادمة خطاب الضمان، ونبيِّن حقيقته، وتعريفه، وكذلك أيضاً الاعتماد المستندي، والبطاقات، نبين حقيقتها، ثم بعد ذلك نبيِّن هل هي مخرَّجة على الكفالة؟ وإذا تخرّجت على الكفالة، ما الذي يجوز من صورها؟ وما الذي لا يجوز؟ ونفصل إن شاء الله في تلك المسائل سائلين الله عز وجل أن يلهمنا وإياكم السداد والرشاد! وأن يجعل ما نتعلمه ونعلمه خالصاً لوجهه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم
يتبع