
منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية
أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحنبلي الدمشقي
المجلد الثانى
الحلقة (159)
صـ 552 إلى صـ 558
الوجه (1) الرابع: أنهم لو قصدوا التركيب (2) فإنما قصدوه فيما كان غليظا كثيفا، فدعوى المدعي عليهم أنهم يسمون كل ما يشار إليه جسما، ويقولون مع ذلك: إنه مركب دعوتان باطلتان.
وجمهور المسلمين الذين يقولون: ليس بجسم، يقولون: من قال: إنه جسم وأراد بذلك أنه موجود أو قائم بنفسه (أو نحو ذلك، أو قال: إنه جوهر وأراد بذلك أنه قائم بنفسه) (3) فهو مصيب في المعنى، لكن أخطأ في اللفظ.
وأما إذا أثبت (4) أنه مركب من الجواهر الفردة (5) ونحو ذلك فهو مخطئ في المعنى، وفي تكفيره نزاع بينهم.
ثم القائلون بأن الجسم مركب من الجواهر الفردة (6) قد تنازعوا في مسماه، فقيل: الجوهر الواحد بشرط انضمام غيره إليه يكون جسما وهو قول القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما. (7) وقيل: بل الجوهران فصاعدا. وقيل: بل أربعة فصاعدا. وقيل: بل ستة فصاعدا. وقيل: بل ثمانية فصاعدا. وقيل: بل ستة عشر. وقيل: بل اثنان وثلاثون. وقد ذكر عامة هذه الأقوال الأشعري في كتاب " مقالات الإسلامين ن (8) واختلاف المصلين " (9) .
_________
(1) الوجه في (ع) فقط.
(2) ب: أنهم لو قصدوه ; أ: أنهم قصدوا. والمثبت من (ع) .
(3) ما بين القوسين في (ع) فقط.
(4) ب، أ: ثبت، وهو تحريف.
(5) ع: المنفردة.
(6) ع: المنفردة.
(7) انظر: الباقلاني: التمهيد، ص [0 - 9] 7، 191، 195 ; الإنصاف، ص 15.
(8) أ، ب: المسلمين.
(9) في (ع) المضلين، وهو تحريف وانظر: المقالات 2/4 - 6
===================================
فقد تبين أن في هذا اللفظ من المنازعات اللفظية (1) اللغوية والاصطلاحية والعقلية والشرعية ما يبين أن الواجب على المسلمين الاعتصام بالكتاب والسنة، كما أمرهم الله تعالى بذلك في قوله: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} [سورة آل عمران: 103] ، وقوله تعالى: {المص - كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين - اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون} [سورة الأعراف: 1 - 3] ، وقوله: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [سورة الأنعام: 153] ، وقوله: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [سورة البقرة: 213] ، وقوله: {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا - ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا - وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} [سورة
_________
(1) اللفظية: زيادة في (ع)
=============================
النساء: 59 - 61] ، وقوله: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى - ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى - قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا - قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} [سورة طه: 123 - 126] . قال ابن عباس رضي الله عنهما: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية، ومثل هذا كثير من الكتاب والسنة، وهذا مما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها.
[القاعدة الواجب اتباعها في مسألة الصفات]
فالواجب أن ينظر في هذا الباب، فما أثبته الله ورسوله أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله نفيناه، والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبتته النصوص من الألفاظ والمعاني. وننفي ما نفته (1) النصوص من الألفاظ والمعاني. وأما الألفاظ التي تنازع فيها من ابتدعها من المتأخرين، مثل لفظ " الجسم " و " الجوهر " (2) و " المتحيز " و " الجهة " ونحو ذلك فلا تطلق نفيا ولا إثباتا حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن كان قد أراد بالنفي والإثبات معنى صحيحا موافقا لما أخبر به الرسول صوب المعنى الذي قصده بلفظه، ولكن ينبغي أن يعبر عنه بألفاظ النصوص، لا يعدل (3) إلى هذه الألفاظ المبتدعة المجملة إلا عند الحاجة، مع قرائن تبين المراد بها، والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها، وأما إن أريد (4) بها معنى باطل نفي ذلك المعنى،
_________
(1) ع: تنفيه.
(2) أ، ب: مثل لفظ الجوهر.
(3) ع: نعدل.
(4) ع: إن أراد
==================================
وإن جمع بين حق وباطل، أثبت الحق وأبطل الباطل.
وإذا اتفق شخصان على معنى وتنازعا هل يدل ذلك اللفظ عليه أم لا، عبر عنه بعبارة يتفقان على المراد بها، وكان أقربهما إلى الصواب من وافق اللغة المعروفة، كتنازعهم في لفظ " المركب " هل يدخل فيه الموصوف بصفات تقوم به، وفي لفظ " الجسم " هل مدلوله في اللغة المركب أو الجسد أو نحو ذلك.
وأما لفظ " المتحيز " فهو في اللغة اسم لما يتحيز إلى غيره، كما قال تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة} [سورة الأنفال: 16] ، وهذا لا بد أن يحيط به حيز وجودي، ولا بد أن ينتقل من حيز إلى حيز، ومعلوم أن الخالق جل جلاله لا يحيط به شيء من مخلوقاته، فلا يكون متحيزا بهذا المعنى اللغوي.
وأما أهل الكلام فاصطلاحهم في المتحيز أعم من هذا، فيجعلون كل جسم متحيزا، والجسم عندهم ما يشار إليه، فتكون السماوات والأرض وما بينهما (1) متحيزا على اصطلاحهم، وإن لم يسم ذلك متحيزا في اللغة.
والحيز تارة يريدون به معنى موجودا وتارة يريدون به معنى معدوما، ويفرقون بين مسمى الحيز ومسمى المكان، فيقولون: المكان أمر وجودي (2) ، والحيز تقدير مكان عندهم. فمجموع الأجسام ليست في شيء موجود، فلا تكون في مكان، وهي عندهم متحيزة. ومنهم من
_________
(1) عبارة وما بينهما ": ساقطة من (ع) .
(2) ب، أ: موجود
====================================
يتناقض (1) فيجعل الحيز تارة موجودا وتارة معدوما، كالرازي (2) وغيره، كما (قد) (3) بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.
فمن تكلم باصطلاحهم وقال: إن الله متحيز بمعنى (أنه) (4) أحاط به شيء من الموجودات فهذا مخطئ، فهو سبحانه بائن من خلقه، وما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق. وإذا كان الخالق بائنا عن المخلوق امتنع أن يكون الخالق في المخلوق، وامتنع أن يكون متحيزا بهذا الاعتبار. "
وإن أراد بالحيز أمرا عدميا فالأمر العدمي لا شيء، وهو سبحانه بائن عن (5) خلقه، فإذا سمى العدم الذي فوق العالم حيزا، وقال: يمتنع أن يكون فوق العالم لئلا يكون متحيزا، فهذا معنى باطل لأنه ليس هناك موجود غيره حتى يكون فيه وقد علم بالعقل والشرع أنه بائن عن (6) خلقه، كما قد بسط في غير هذا الموضوع.
وهما مما احتج به سلف الأمة وأئمتها على الجهمية - كما احتج به الإمام أحمد في رده على الجهمية - وعبد العزيز الكناني (7) وعبد الله بن
_________
(1) ب، أ: يناقض.
(2) انظر ما سبق 2/351 وما بعدها، وقد أورد ابن تيمية نص كلام الرازي في كتابه " محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين " (ص [0 - 9] 5) وذكر تعليق الطوسي في تلخيص المحصل ثم علق على كلامهما.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ب) ، (أ) .
(4) ما بين القوسين ساقط من (ب) ، (أ) .
(5) ع: من.
(6) ع: من.
(7) ع: الكتاني، وهو خطأ. وهو عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز بن مسلم الكناني المكي، كان يلقب بالغول لدمامته، سمع من سفيان بن عيينة وكان من تلاميذ الشافعي، وناظر بشرا المريسي أمام المأمون وله كتاب الحيدة، وقد توفي سنة 240. انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 6/363 ; العبر للذهبي 1/334 ; الأعلام 4/154 - 155. وانظر كتاب " الحيدة " له، ص 27 - 28 ط. مطبعة الإمام بالقاهرة بدون تاريخ
===================================
سعيد بن كلاب والحارث المحاسبي وغيرهم، وبينوا (1) أنه سبحانه كان موجودا قبل أن يخلق السماوات والأرض، فلما خلقهما (2) فإما (3) أن يكون قد دخل فيهما (4) أو دخلت فيه، وكلاهما ممتنع، فتعين أنه بائن عنهما (5) وقرروا ذلك بأنه يجب أن يكون مباينا لخلقه أو مداخلا له.
والنفاة يدعون وجود موجود لا يكون مباينا لغيره (6) ولا مداخلا له، (7) وهذا ممتنع في بداية العقول، لكن يدعون أن القول بامتناع ذلك هو من حكم الوهم لا من حكم العقل. ثم إنهم تناقضوا فقالوا: لو كان فوق العرش لكان جسما، لأنه لا بد أن يتميز ما يلي هذا الجانب عما يلي هذا الجانب.
فقال لهم أهل الإثبات: معلوم بضرورة العقل أن إثبات موجود فوق العالم ليس بجسم، أقرب إلى العقل من إثبات موجود قائم بنفسه ليس بمباين للعالم ولا بمداخل له، فإن جاز إثبات الثاني فإثبات الأول أولى.
وإذا قلتم: نفي هذا الثاني من حكم الوهم الباطل؛ قيل لكم: (8) فنفي الأول أولى أن يكون من حكم الوهم الباطل.
_________
(1) ع: ويثبتون.
(2) فلما خلقهما: في (ع) فقط.
(3) ب، أ: إما.
(4) ب، أ: فيها.
(5) ب، أ: عنها.
(6) ب: لا مباين لغيره ; أ: لا مباينا لغيره.
(7) ب (فقط) : ولا مداخل له.
(8) لكم: في (ع) فقط
==============================
وإن قلتم: إن نفي الأول من حكم العقل المقبول ; فنفي الثاني أولى أن يكون من حكم العقل المقبول.
وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع، والمقصود هنا التنبيه.
وكذلك الكلام في لفظ " الجهة " فإن مسمى لفظ الجهة يراد به أمر وجودي (1) كالفلك الأعلى، ويراد به أمر عدمي كما وراء العالم.
فإذا أريد الثاني (أمكن) (2) أن يقال: كل جسم في جهة. وإذا أريد الأول امتنع أن يكون كل جسم في جسم آخر.
فمن قال: الباري في جهة، وأراد بالجهة أمرا موجودا، فكل ما سواه مخلوق له، (ومن قال: إنه) (3) في جهة بهذا التفسير فهو مخطئ.
وإن أراد بالجهة أمرا عدميا، وهو ما فوق العالم، وقال: إن الله فوق العالم، فقد أصاب. وليس فوق العالم موجود غيره، فلا يكون سبحانه في شيء من الموجودات.
وأما إذا فسرت (4) الجهة بالأمر العدمي، فالعدم (5) لا شيء.
وهذا ونحوه من الاستفسار، وبيان ما يراد باللفظ من معنى صحيح وباطل يزيل عامة الشبه.
فإذا قال نافي الرؤية: لو رؤي لكان في جهة، وهذا ممتنع، فالرؤية ممتنعة.
_________
(1) ع: موجود.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ب) ، (أ) .
(3) ما بين القوسين ساقط من (ب) ، (أ) .
(4) ع: وإذا فسرت. . إلخ.
(5) ب (فقط) : فالعدمي
==========================================