أخطاء الواقفين (4-10) الوقـف للإضـرار بالغرمــاء
وذلك أن يقصد الواقف المماطلة في سداد الديون، كالذي يوقف عقاراً على أولاده أو أعمال الخير هروباً من الديون قبل الحجر عليه للإضرار بغرمائه، وهذا لا يصح ولا يلزم عند الكثير من أهل العلم، بل ويحق للدائنين أن يطلبوا بإبطال وقف مدينهم، إن لم يكن محجوراً عليه بسبب الدين.
فالوقف شرع لمقاصد وغايات جليلة، وحكم عظيمة، ومقصوده القربة إلى الله، ونفع الموقوف عليهم، بعيدا عن الإضرار بالدائنين والنكاية بهم. ووفاء الدين أهم من الوقف؛ لأن قضاء الدين واجب والوقف تطوع، وفي ذلك تحايل على أهل الديون. جاء في (الشرح الكبير): «أن من حبس في صحته، ولو على الفقراء فللغريم إبطاله وأخذه في دينه». انظر: الشرح الكبير ج4، ص81. وذلك حفظاً لحقوق الدائنين وحمايتهم من التصرفات التي تنقص من فرص سداد حقوقهم، وحق الدائنين بالقدر الذي يفي بديونهم فقط.
ورأي كذلك بعض الحنفية والشافعية في إبطال وقف المدين إذا قصد به الإضرار بدائنيه. انظر: (أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية)، د.محمد الكبيسي ( 1/330 )، نقلاً عن: (الفواكه العديدة) ج1ص 426. سدا للذريعة في تأخير السداد، والمماطلة والتعسف في استعمال الحق.
وكذلك إذا أوقف الواقف بمرض الموت ومات بعد ذلك، وعليه ديون، فإن كان الدين محيطا بماله ولم يبرئه الدائنون، فإن وقفه ينقض ويباع في الدين. انظر فتح القدير ج 5، ص 44. وجمهور الفقهاء على أن المريض مرض الموت تتعلق بأمواله حقوق الدائنين، وتتعلق بالثلثين حقوق الوارثين.
2- وقف ما لا يملك ( وقف الفضوليّ) :
إذا وقف الواقف ملك غيره على أنه ملكه، فوقفه غير صحيح، أما إذا وقفه على أنه ملك غيره كان الواقف فضولياً، والفضولي في اللغة: من يشتغل بما لا يعنيه، نسبةً إلى الفضول، جمع فضل، وهو الزّيادة. وفي اصطلاح الفقهاء يطلق الفضوليّ على من يتصرّف في حقّ الغير بلا إذن شرعيّ وذلك لكون تصرّفه صادراً عن غير ملك ولا وكالة ولا ولاية (1).
واختلف الفقهاء في حكم وقف الفضوليّ لمال غيره على قولين::أحدهما للمالكيّة على المشهور، والحنابلة، والشّافعيّ في الجديد: وهو أنّ وقف الفضوليّ باطل، سواء أجازه المالك بعد أم لا.
والثّاني للحنفيّة، وهو قول عند المالكيّة، ورواية عن أحمد: وهو أنّ وقف الفضوليّ صحيح، غير أنّه يكون موقوفاً على إجازة المالك، فإن أجازه نفذ، وإن ردّه بطل.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن تصرف الفضولي يكون موقوفاً على الإجازة من المالك، سواءً بالبيع أم بالشراء،خلافاً للمشهور من مذهب الحنابلة. قال رحمه الله: «مع أن القول بوقف العقود مطلقاً هو الأظهر في الحجة، وهو قول الجمهور، وليس ذلك إضراراً أصلاً، بل صلاح بلا فساد؛ فإن الرجل قد يرى أن يشتري لغيره أو يبيع له، أو يستأجر له أو يوجب له، ثم يشاوره فإن رضي وإلا لم يصبه ما يضره»(2).
وخلاصة الأمر: إذا لم يجز المالك وقف الفضولي فلا ينفذ تصرفه بلا خلاف، أما إذا أجازه نفذ، وإن ردّه بطل.
3- عدم تصريح الواقف عن جهة وقفه:
قد يتعجل الواقف ويوقف عقارا أو بستانا، ولم يتبع ذلك بتصريح عن مصرف الوقف الذي أوقفه، هل هو وقف خيري أم ذري أم لأعيان من الناس يخصهم بريع هذا الوقف ؟!
وعليه نص أهل العلم إذا لم يُصرح الواقف عن جهة وقفه، فلا تصرف غلة الموقوف إلا على الفقراء. ولذلك لو وقف شخص أرضه، وسكت عن الجهة التي تُصرف عليه الغلة، فإنها تكون وقفاً على الفقراء. (ترتيب الصنوف في أحكام الوقوف، ص 17).
حيث إن مصرف الوقف هم الفقراء، فتصرف لهم إن لم يحدد الواقف غيرهم، فالفقراء أصل في مصرف الوقف، وكذلك لو انقرض الموقوف عليهم، فتعود الغلة على الفقراء.
لذا فإن عدم تصريح الواقف عن جهة وقفه، قد يدخل الوقف في إشكالات إن ادعى فئة من الناس أنهم المخصوصون بريع ذلك الوقف أو عينه، لا سيما إذا كان ذلك الإدعاء بعد وفاة الواقف، ولم ينص في وثيقة وقفه الفئة المستفيدة من هذا الوقف.
والأنفع للوقف، استشارة الواقف أهل العلم والاختصاص بشأن وقفه قبل أن يوقف، حتى تكون خطواته للوقف صحيحة وافية لأفضل طرق إدارته وسبل مصارفه.
4- الوقف على الأغنياء وحدهم فيما يحتاجه الفقراء:
الوقف يصح على الفقير والغني، وهذا ما أجازه أهل العلم، واستدلوا بفعل عثمان بن عفان رضي الله عنه: «حين أوقف بئر رومة وجعل دلوه مع دلاء المسلمين ليستفيد من ذلك الماء العذب؛ حيث يدخل الأغنياء في هذا الوقف تبعاً للفقراء، واشترطوا لذلك الآتي: مادام الوقف فيه براً ومعروفاً». (أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية، د.محمدة الكبيسي 1/402).
أما أن يوقف للأغنياء فيما لا يحتاجونه ولا ينتفعون به فهو وقف خرج عن مقاصد الوقف في الشريعة الإسلامية، وكذلك وقف الماء على الأغنياء فقط ويحرم منه الفقراء فهذا مما لا يصح.
ومثاله يصح وقف الأدوية على الفقراء والأغنياء، فيدخل الأغنياء في هذا الوقف تبعاً للفقراء، ولكن وقف الأدوية على الأغنياء وحدهم لا يصح(3).
ويشترط الأحناف- في الجهة الموقوف عليها – أن يكون الوقف عليها قربة، أي يكون براً يتقرب به إلى الله ويرجى الثواب عليه، وعلى هذا في مذهب الحنفية: فإن الوقف على الأغنياء وحدهم لا يصح؛ لأنه ليس بقربة. أما إن جعل الوقف على الأغنياء ومن بعدهم الفقراء، أي جعل آخره للفقراء، فإنه يكون قربة في الجملة.
وهنالك أوقاف يستوي فيها الأغنياء والفقراء، كالمساجد والمدارس والمنافع العامة، فتوقف لينتفع منها الجميع.
5- عدم انتفاع الواقف بوقفه:
نص العلماء بجواز انتفاع الواقف بوقفه، مثل ما فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه في وقفه بئراً في المدينة المنورة؛ حيث أوقفها على المسلمين وجعل دلوه كأحد دلاء المسلمين، ووقف أنس رضي الله عنه داراً له في المدينة فكان إذا حج مر بالمدينة فنزل داره. ففي الحديث الموقوف عن ثُمَامة، عن أنس: «أنه وقَفَ دارًا بالمدينة، فكان إذا حج مرَّ بالمدينة، فنزل دارهُ». السنن الكبرى للبيهقي (6/161). وفتح الباري (7/24).
وعقد البخاري في كتاب الوصايا، باباً أسماه: (إذا وقف أرضاً أو بئراً أو اشترط لنفسه مثل دلاء المسلمين) وذكر وقف أنس رضي الله عنه : «ووقف أنس داراً، فكان إذا قدم نزلها» صحيح البخاري، برقم 2778.
وعلق ابن حجر على فعل أنس رضي الله عنه بقوله: «وهو موافق لما تقدم عن المالكية أنه يجوز أن يقف الدار ويستثني لنفسه منها بيتًا». فتح الباري (7/25). وقال أهل العلم بجواز شرط الواقف لنفسه منفعة من وقفه، وقال ابن بطال لا خلاف بين العلماء أن من شرط لنفسه ولورثته نصيبا في وقفه أن ذلك جائز.
فمن وقف مسجداً يكون هو وأولاده من جملة المصلين، ومن وقف معهداً أو مدرسة تحفيظ للقرآن الكريم فيكون أولاده من جملة الدارسين من الطلبة، فمنفعة الوقف ليست قاصرةً على الفقراء وحدهم، بل تتعدَّى ذلك إلى أهدافٍ اجتماعيةٍ واسعةٍ، وأغراضٍ خيّرةٍ شاملةٍ.
الهوامش:
1 -انظر: البحر الرائق: (6/160).
2 - مجموع الفتاوى: (20/580، 578)، (29/249)، (31/386)، الفتاوى الكبرى: (5/140).
3- ترتيب الصنوف في أحكام الوقوف، على أفندي، ص 121.
اعداد: عيسى القدومي