دلالة السياق وأثرها في ترتيب الدليل وبناء الحكم من كتاب إحكام الأحكام
د. فؤاد بن يحيى الهاشمي
المثال الثالث:
البحث الثالث : قوله صلى الله عليه وسلم { صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه }
يتصدى النظر هنا :
هل صلاته في جماعة في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه جماعة ، أو تفضل عليها منفردا ؟
أما الحديث فمقتضاه:
أن صلاته في المسجد جماعة تفضل على صلاته في بيته وسوقه جماعة وفرادى بهذا القدر .
لأن قوله صلى الله عليه وسلم { صلاة الرجل في جماعة } محمول على الصلاة في المسجد.
لأنه قوبل بالصلاة في بيته وسوقه .
ولو جرينا على إطلاق اللفظ:
لم تحصل المقابلة ؛ لأنه يكون قسم الشيء قسما منه .
وهو باطل .
وإذا حمل على صلاته في المسجد:
فقوله صلى الله عليه وسلم " صلاته في بيته وسوقه " عام يتناول الأفراد والجماعة .
وقد أشار بعضهم إلى هذا بالنسبة:
إلى الانفراد في المسجد والسوق من جهة ما ورد أن "الأسواق موضع الشياطين " فتكون الصلاة فيها ناقصة الرتبة ، كالصلاة في المواضع المكروهة لأجل الشياطين ، كالحمام .
وهذا الذي قاله - وإن أمكن في السوق - ليس يطرد في البيت .
فلا ينبغي أن تتساوى فضيلة الصلاة في البيت جماعة مع فضيلة الصلاة في السوق جماعة، في مقدار الفضيلة التي لا توجد إلا بالتوقيف .
فإن الأصل : أن لا يتساوى ما وجد فيه مفسدة معينة مع ما لم توجد فيه تلك المفسدة .
هذا ما يتعلق بمقتضى اللفظ .
ولكن الظاهر مما يقتضيه السياق :
أن المراد تفضيل صلاة الجماعة في المسجد على صلاته في بيته وسوقه منفردا : فكأنه خرج مخرج الغالب في أن من لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفردا .
وبهذا يرتفع الإشكال الذي قدمناه:
من استبعاد تساوي صلاته في البيت مع صلاته في السوق جماعة فيهما ، وذلك ؛ لأن من اعتبر معنى السوق ، مع إقامة الجماعة فيه .
وجعله سببا لنقصان الجماعة فيه عن الجماعة في المسجد .
يلزمه تساوي ما وجدت فيه مفسدة معتبرة مع ما لم توجد فيه تلك المفسدة في مقدار التفاضل .
أما إذا جعلنا التفاضل بين صلاة الجماعة في المسجد وصلاتها في البيت والسوق منفردا ، فوصف " السوق " هاهنا ملغى ، غير معتبر .
فلا يلزم تساوي ما فيه مفسدة مع ما لا مفسدة فيه في مقدار التفاضل .
والذي يؤيد هذا :
أنهم لم يذكروا السوق في الأماكن المكروهة للصلاة .
وبهذا فارق الحمام المستشهد بها .
المثال الرابع:
قوله صلى الله عليه وسلم " أثقل الصلاة " محمول على الصلاة في جماعة، وإن كان غير مذكور في اللفظ .
لدلالة السياق عليه .
وقوله عليه السلام " لأتوهما ولو حبوا " وقوله " ولقد هممت - إلى قوله - لا يشهدون الصلاة " كل ذلك مشعر بأن المقصود : حضورهم إلى جماعة المسجد .
المثال الخامس:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم ، وتسبقون من بعدكم .
ولا يكون أحد أفضل منكم ، إلا من صنع مثل ما صنعتم ؟ قالوا : بلى ، يا رسول الله .
قال : تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة : ثلاثا وثلاثين مرة .)
قوله [صلى الله عليه وسلم] " تدركون به من سبقكم " يحتمل أن يراد به السبق المعنوي.
وهو السبق في الفضيلة .
وقوله " من بعدكم " أي من بعدكم في الفضيلة ممن لا يعمل هذا العمل.
ويحتمل أن يراد القبلية الزمانية ، والبعدية الزمانية .
ولعل الأول أقرب إلى السياق .
فإن سؤالهم كان عن أمر الفضيلة ، وتقدم الأغنياء فيها .
المثال السادس:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ليس فيما دون خمس أواق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة، ولا فيما دون خمسة أوسق صدقة} .
الحديث دليل على الزكاة فيما دون هذه المقادير من هذه الأعيان.
وأبو حنيفة يخالف في زكاة الحرث .
ويعلق الزكاة بكل قليل وكثير منه .
ويستدل له بقوله عليه السلام { فيما سقت السماء العشر ، وفيما سقي بنضح أو دالية ففيه نصف العشر } وهذا عام في القليل والكثير .
وأجيب عن هذا بأن المقصود من الحديث بيان قدر المخرج ، لا بيان المخرج منه .
وهذا فيه قاعدة أصولية:
وهو أن الألفاظ العامة بوضع اللغة على ثلاث مراتب:
أحدها : ما ظهر فيه عدم قصد التعميم ، ومثل بهذا الحديث .
والثانية : ما ظهر فيه قصد التعميم بأن أورد مبتدأ لا على سبب ، لقصد تأسيس القواعد .
والثالثة : ما لم يظهر فيه قرينة زائدة تدل على التعميم، ولا قرينة تدل على عدم التعميم .
وقد وقع تنازع من بعض المتأخرين في القسم الأول في كون المقصود منه عدم التعميم:
فطالب بعضهم بالدليل على ذلك.
وهذا الطريق ليس بجيد ؛ لأن هذا أمر يعرف من سياق الكلام ، ودلالة السياق لا يقام عليها دليل ، وذلك لو فهم المقصود من الكلام ، وطولب بالدليل عليه لعسر، فالناظر يرجع إلى ذوقه ، والمناظر يرجع إلى دينه وإنصافه .