قراءة في تعليل الأحكام الواردة في كتاب ابن دقيق إحكام الأحكام
د. فؤاد بن يحيى الهاشمي
المسألة الأولى:
عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
{ إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا } ولمسلم{ أولاهن بالتراب}وله في حديث عبد الله بن مغفل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال :{ إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبعا وعفروه الثامنة بالتراب }
فيه مسائل:
الأولى : الأمر بالغسل ظاهر في تنجيس الإناء .
وأقوى من هذا الحديث في الدلالة على ذلك : الرواية الصحيحة .
وهي قوله صلى الله عليه وسلم { طهور إناء أحدكم ، إذا ولغ فيه الكلب : أن يغسل سبعا} فإن لفظة " طهور " تستعمل إما عن الحدث ، أو عن الخبث .
ولا حدث على الإناء بالضرورة .
فتعين الخبث .
وحمل مالك هذا الأمر على التعبد ، لاعتقاده طهارة الماء والإناء .
وربما رجحه أصحابه بذكر هذا العدد المخصوص ، وهو السبع ؛ لأنه لو كان للنجاسة : لاكتفى بما دون السبع فإنه لا يكون أغلظ من نجاسة العذرة .
وقد اكتفى فيها بما دون السبع .
والحمل على التنجيس أولى .
لأنه متى دار الحكم بين كونه تعبدا ، أو معقول المعنى ، كان حمله على كونه معقول المعنى أولى .
لندرة التعبد بالنسبة إلى الأحكام المعقولة المعنى .
وأما كونه لا يكون أغلظ من نجاسة العذرة :
فممنوع عند القائل بنجاسته ، نعم ليس بأقذر من العذرة ، ولكن لا يتوقف التغليظ على زيادة الاستقذار .
وأيضا:
فإذا كان أصل المعنى معقولا قلنا به .
وإذا وقع في التفاصيل ما لم يعقل معناه في التفصيل ، لم ينقض لأجله التأصيل .
ولذلك نظائر في الشريعة ، فلو لم تظهر زيادة التغليظ في النجاسة لكنا نقتصر في التعبد على العدد ، ونمشي في أصل المعنى على معقولية المعنى .
إذا ظهر أن الأمر بالغسل للنجاسة : فقد استدل بذلك على نجاسة عين الكلب .
ولهم في ذلك طريقان .
أحدهما : أنه إذا ثبتت نجاسة فمه من نجاسة لعابه ، فإنه جزء من فمه ، وفمه أشرف ما فيه فبقية بدنه أولى .
الثاني : إذا كان لعابه نجسا - وهو عرق فمه - ففمه نجس، والعرق جزء متحلب من البدن، فجميع عرقه نجس، فجميع بدنه نجس ، لما ذكرناه من أن العرق جزء من البدن .
فتبين بهذا :
أن الحديث إنما دل على النجاسة فيما يتعلق بالفم، وأن نجاسة بقية البدن بطريق الاستنباط.
وفيه بحث، وهو أن يقال :
إن الحديث إنما دل على نجاسة الإناء بالولوغ .
وذلك قدر مشترك بين:
1- نجاسة عين اللعاب.
2- وعين الفم.
3- أو تنجسهما باستعمال النجاسة غالبا.
والدال على المشترك لا يدل على أحد الخاصين .
فلا يدل الحديث على نجاسة عين الفم ، أو عين اللعاب .
فلا تستقيم الدلالة على نجاسة عين الكلب كله .
وقد يعترض على هذا بأن يقال:
لو كانت العلة تنجيس الفم أو اللعاب - كما أشرتم إليه - لزم أحد أمرين وهو:
1- إما وقوع التخصيص في العموم.
2- أو ثبوت الحكم بدون علته.
لأنا إذا فرضنا تطهير فم الكلب بماء كثير ، أو بأي وجه كان ، فولغ في الإناء :
1- فإما أن يثبت وجوب غسله.
2- أو لا .
فإن لم يثبت وجب تخصيص العموم .
وإن ثبت لزم ثبوت الحكم بدون علته .
وكلاهما على خلاف الأصل .
والذي يمكن أن يجاب به عن هذا السؤال أن يقال :
الحكم منوط بالغالب وما ذكرتموه من الصور نادر ، لا يلتفت إليه .
وهذا البحث إذا انتهى إلى هنا يقوي قول من يرى أن الغسل لأجل قذارة الكلب.
-=====================================
المسألة الثانية:
قوله " بالتراب " يقتضي تعينه .
وفي مذهب الشافعي قول - أو وجه -:
إن الصابون والأشنان والغسلة الثامنة ، تقوم مقام التراب.
بناء على أن المقصود بالتراب:
زيادة التنظيف ، وأن الصابون والأشنان يقومان مقامه في ذلك .
وهذا عندنا ضعيف:
لأن النص إذا ورد بشيء معين ، واحتمل معنى يختص بذلك الشيء لم يجز إلغاء النص ، واطراح خصوص المعين فيه .
والأمر بالتراب - وإن كان محتملا لما ذكروه ، وهو زيادة التنظيف - فلا نجزم بتعيين ذلك المعنى.
فإنه يزاحمه معنى آخر ، وهو الجمع بين مطهرين ، أعني الماء والتراب ، وهذا المعنى مفقود في الصابون والأشنان .
وأيضا:
فإن هذه المعاني المستنبطة إذا لم يكن فيها سوى مجرد المناسبة ، فليست بذلك الأمر القوي .
فإذا وقعت فيها الاحتمالات ، فالصواب اتباع النص .
وأيضا:
فإن المعنى المستنبط إذا عاد على النص بإبطال أو تخصيص : مردود عند جمع من الأصوليين .
-=====================================
وفي شرح الإلمام:
قال ابنُ دقيق في فوائد حديث أبي هريرة في ولوغ الكلب في الإناء (1):
"ادَّعى بعضُ مَنْ يُعَمِّمُ الحُكْمَ في سائر أعضائه الأوَّلية في الحكم فيها، وذكر وجهين:
أحدهما: أنه لما نُصَّ على الولوغ، وهو أصونُ أعضاءِ الكلب، كان وجوب الغسل بما ليس بمصونٍ منها أولى.
والثاني: أنَّ ولوغه يكثر، وإدخال غير ذلك مِنْ أعضائه يَقِلُّ، فلمّا عَلَّقَ وجوبَ الغَسْل بما يكثر كان وجوبه بما يَقِلُّ أولى؛ لأنَّ النجاسة إذا عَمَّ وجودها خَفَّ حكمُها، وإذا قَلَّ وجودُها تغلَّظ حكمُها.
وهذا إنْ كان مبنيا على القول بالقياس وفرعا له، فلا يصلُح رداً على داود منكر القياس، بل طريقُه: إثباته عليه، ثم ادِّعاء أوْلويَّته،
وإنْ كان ذلك بناءً على ما في نفس الأمر – سواء قلنا بالقياس أم لا – فهذا إنما يكون فيما يقوى فيه الإلحاق، كالضرب مع التأفيف مع القول بأنَّ ذلك ليس بقياس."(2)
-=====================================
وفي شرح الإلمام أيضاً:
: ذَكَرَ ابنُ دقيق أنَّ قوله عليه الصلاة والسلام: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب"(3) لو كان هذا التطهير المذكور في الحديث " لنجاسة طارئة لَزِمَ أحدُ أمرين:
1- إما التخصيص في محل العموم.
2- وإما ثبوت الحكم بدون عِلَّتِه.
وكلاهما على خلاف الأصل.
بيانه:
أنا إذا فرضنا تطهير فم الكلب، أو ولوغ كلب لم يأكل النجاسة قبل الولوغ كجرو صغير، فإما أنْ يقال: لا يلزم غسل الإناء، فيلزم التخصيص ؛ لأنَّ لفظ الكلب عام، وإما أنْ يقال: إنه يلزم أن يغسل منه، فيلزم ثبوت الحكم بدون علته؛ لأنا نتكلم على تقدير عدم تنجيسه باستعمال النجاسة، ولا سبب حينئذ للغسل إلا التنجيس، وقد انتفى.
وقد يقال على هذا:
الحكم مبني على الغالب مِن استعمال الكلاب النجاسة واطِّراح النادر."(4)
==============================
1- وسياقه: عن أبي هريرة t: " أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: « إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات. » أخرجه البخاري (رقم172)، ومسلم (رقم279).
2- شرح الإلمام (2/235، 236).
3- سَبَقَ تخريجه.
4- شرح الإلمام (2/221، 222).