قراءة في كتاب
"سلالة الفوائد الأصولية والشواهد والتطبيقات القرآنية والحديثية للمسائل الأصولية في أضواء البيان"
د. فؤاد بن يحيى الهاشمي
ثم قال السديس:
وإن لم يكن فعله صلى الله عليه وسلم بيانا لمجمل ولم يعلم هل فعله على سبيل الوجوب أو على سبيل الندب فإن الشيخ رحمه الله يرى أنه يحمل على الوجوب.
قال في صدد استدلاله لعدم جواز ذبح دم التمتع والقران قبل يوم النحر بعدم نحر النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه ولا عن أزواجه إلا يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة ما نصه:
" ومما يؤيد ذلك ما اختاره بعض أهل الأصول ، من أن فعله صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن بياناً لمجمل ، ولم يعلم هل فعله على سبيل الوجوب ، أو على سبيل الندب أنه يحمل على الوجوب ، لأنه أحوط وأبعد من لحوق الإثم ، إذ على احتمال الندب ، والإباحة لا يقتضي ترك الفعل إثماً ، وعلى احتمال الوجوب يقتضي الترك الإثم ، وإلى هذا أشار في مراقي السعود في مبحث أفعاله صلى الله عليه وسلم بقوله:
وكل ما الصفة فيه تجهل فللوجوب في الأصح يجعل
قال السديس:
وقال في شرحه "نشر البنود":
يعني أنا ما كان من أفعاله صلى الله عليه وسلم مجهول الصفة أي مجهول الحكم فإنه يحمل على الوجوب.
إلى أن قال:
وكونه للوجوب هو الأصح...
واستدل أهل هذا القول بأدلة:
منها:
قوله تعالى { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر } [ الأحزاب : 21 ]
قالوا : معناه : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فله فيه أسوه أسوة حسنة ، ويستلزم أن من ليس له فيه أسوة حسنة ، فهو لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، وملزوم الحرام حرام ولازم الواجب واجب .
وقالوا أيضاً : وهو مبالغة في التهديد ، على عدم الأسوة فتكون الأسورة واجبة ، ولا شك أن من الأسوة اتباعه في أفعاله .
ومنها : قوله تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ] قالوا : وما فعله فقد آتاناه ، لأنه هو المشرع لنا بأقواله وأفعاله . وتقريره .
ومنها : قوله تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله } [ آل عمران : 31 ] الآية . ومن اتباعه التأسي به في فعله ، قالوا : وصيغة الأمر في قوله { فاتبعوني } للوجوب .
ومنها : أن الصحابة لما اختلفوا ، في وجوب الغسل من الوطء ، بدون إنزال سألوا عائشة ، فأخبرتهم أنها هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم فعلا ذلك ، فاغتسلا فحملوا ذلك الفعل الذي هو الغسل ، من الوطء ، بدون إنزال على الوجوب .
ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم لما خلع نعليه في الصلاة ، خلعوا نعالهم ، فلما سألهم : لم خلعوا نعالهم؟ قالوا : رأيناك خلعت نعليك ، فخلعنا نعالنا ، فحملوا مطلق فعله على الوجوب ، فخلعوا لما خلع ، وأقرهم صلى الله عليه وسلم على ذلك قالوا : فلو كان الفعل الذي لم يعلم حكمه لا يدل على الوجوب ، لبين لهم أنه لا يلزم من خلعه ، أن يخلعوا ، ولكنه أقرهم على خلع نعالهم ، وأخبرهم أن جبريل أخبره : أَن في باطنهما قذراً....
إلى أن قال الشيخ رحمه الله:
ومعلوم أن المخالفين القائلين : بأن الفعل الذي لم يكن بياناً لمجمل ، ولم يعلم حكمه من وجوب لا يحمل على الوجوب ، بل على الندب ، أو الإباحة إلى آخر أقوالهم ناقشوا الأدلة التي ذكرنا مناقشة معروفة في الأصول
قالوا :
قوله { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ } [ الحشر : 7 ] أي ما أمركم به بدليل قوله { وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ } [ الحشر : 7 ] فهي في الأمر ، والنهي لا في مطلق الفعل ، ولا يخفى أن تخصيص : وما آتاكم ، بالأمر تخصيص لا دليل عليه ، وذكر النهي بعده لا يعينه.
وقالوا:
{إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني } [ آل عمران : 31 ] إنما يكون الاتباع واجباً فيما علم أنه واجب ، أما إذا كان فعله مندوباً فالاتباع فيه مندوب ، ولا يتعين أن الفعل واجب ، على الأمة بالاتباع إلا إذا علم أنه صلى الله عليه وسلم ، فعله على سبيل الوجوب . أما لو كان فعله على سبيل الندب وفعلته الأمة على سبيل الوجوب ، فلم يتحقق الاتباع بذلك.
قالوا : وكذلك يقال في قوله تعالى { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب : 21 ] الآية فلا تتحقق الأسوة ، إذا كان هو صلى الله عليه وسلم فعله ، على سبيل الندب ، وفعلته أمته على سبيل الوجوب ، بل لا بد في الأسوة من علم جهة الفعل ، الذي فيه التأسي.
قالوا : وخلعهم نعالهم لا دليل فيه ، لأنه فعل داخل في نفس الصلاة : وإنما أخذوه من قوله صلى الله عليه وسلم « صلوا كما رأيتموني أصلي » لأن خلع النعال كأنه في ذلك الوقت من هيئة أفعال الصلاة .
قالوا : وإنما أخذوا وجوب الغسل من الفعل ، الذي أخبرتهم به عائشة ، لأنه صح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم وجوب الغسل من التقاء الختانين ، أو لأنه فعل مبين لقوله:{ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا } [ المائدة : 6 ] والفعل المبين لإحمال النص ، لا خلاف فيه كما تقدم إيضاحه .
قالوا : والاحتياط في مثل هذا : لا يلزم ، لأن الاحتياط لا يلزم إلا فيما ثبت وجوبه أو كان وجوبه ، هو الأصل كليلة الثلاثين من رمضان ، إن حصل غيم يمنع رؤية الهلال عادة أما غير ذلك ، فلا يلزم فيه الاحتياط ، كما لو حصل الغيم المانع من رؤية هلال رمضان ليلة ثلاثين من شعبان : فلا يجوز صوم يوم الشك ، ولا يحتاط فيه ، لأنه لم يثبت له وجوب ولم يكن وجوبه هو الأصل إلى آخر أدلتهم ومناقشتها . فلم نطل بجميعها الكلام"
ثم قال الشنقيطي:
ولاشك : أن الأدلة التي ذكرها الفريق الأول كقوله { فاتبعوني } [ آل عمران : 31 ] وقوله {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ } [ الحشر : 7 ] الآية وقوله { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] الآية وإن لم تكن مقنعة بنفسها في الموضوع ، فلا تقل عن أن تكون عاضدة لما قدمنا من وجوب الفعل الواقع به البيان
يقول السديس:
واستدل الشيخ رحمه الله بهذه القاعدة :
عند عرضه لأدلة القائلين بوجوب الأضحية مستدلين بأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعلها فدل على وجوبها لعدم العلم بجهة فعله لها هل هي الوجوب أو الندب فتحمل على الوجوب كما سبق بيانه.
وحين بين :
أن التحقيق أنه يجب تقديم الصلوات الفوائت على الصلاة الحاضرة...واستدل لذلك بالحديث المتفق عليه الذي فيه أنه صلى الله عليه وسلم صلى العصر قضاء بعد غروب الشمس وقدمها على المغرب يوم الخندق: ذكر هذه القاعدة في بيان أن فعله يدل على الوجوب واستدل لتقرير القاعدة بخلع الصحابة نعالهم...الحديث وقد سبق
وقال فيه:
وهو فعل مجرد من قرائن الوجوب وغيره - أقرهم على ذلك ولم ينكر عليهم . فدل ذلك على لزوم التأسي به في أفعاله المجردة من القرائن . والحديث وإن ضعفه بعضهم بالإرسال فقد رجح بعضهم وصله.
والأدلة الكثيرة على وجوب التأسي به صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة شاهدة له ...
إلى أن قال:
ونحن نقول: الأظهر أن الأفعال المجردة تقتضي الوجوب كما جزم به صاحب المراقي في البيت المذكور."