عرض مشاركة واحدة
  #517  
قديم 23-06-2024, 07:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,948
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثامن

سُورَةُ الْحَشْرِ
الحلقة (517)
صــ 220 إلى صــ 234





ذكر أهل التفسير أن عابدا من بني إسرائيل كان يقال له: برصيصا تعبد في صومعة له أربعين سنة لا يقدر عليه الشيطان، فجمع إبليس يوما مردة الشياطين، فقال: ألا أحد منكم يكفيني برصيصا، فقال الأبيض، وهو صاحب الأنبياء: أنا أكفيكه، فانطلق على صفة الرهبان، وأتى صومعته، فناداه فلم [ ص: 220 ] يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام، ولا يفطر إلا في كل عشرة أيام، فلما رأى أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته، فلما انفتل برصيصا، اطلع فرآه منتصبا يصلي على هيئة حسنة، فناداه: ما حاجتك؟ فقال: إني أحببت أن أكون معك، أقتبس من عملك، وأتأدب بأدبك، ونجتمع على العبادة، فقال برصيصا: إني لفي شغل عنك، ثم أقبل على صلاته، وأقبل الأبيض يصلي، فلم يقبل إليه برصيصا أربعين يوما، ثم انفتل، فرآه يصلي، فلما رأى شدة اجتهاده، قال: ما حاجتك؟ فأعاد عليه القول، فأذن له، فصعد إليه، فأقام معه حولا لا يفطر إلا كل أربعين يوما، ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يوما، وربما زاد على ذلك، فلما رأى برصيصا اجتهاده، أعجبه شأنه وتقاصرت إليه نفسه، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق عنك، فإن لي صاحبا غيرك ظننت أنك أشد اجتهادا مما أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذي أرى، فاشتد ذلك على برصيصا ، وكره مفارقته، فلما ودعه قال له الأبيض: إن عندي دعوات أعلمكها، يشفي الله بها السقيم، ويعافي بها المبتلى، فقال برصيصا: إني أكره هذه المنزلة، لأن لي في نفسي شغلا، فأخاف أن يعلم الناس بهذا، فيشغلوني عن العبادة، فلم يزل به حتى علمه إياها، ثم انطلق إلى إبليس فقال: قد والله أهلكت الرجل، فانطلق الأبيض، فتعرض لرجل فخنقه، ثم جاءه في صورة رجل متطبب، فقال لأهله: إن بصاحبكم جنونا فأعالجه؟ قالوا: نعم، فقال لهم: إني لا أقوى على جنيه، ولكن سأرشدكم إلى من يدعو له فيعافى، فقالوا له: دلنا، قال: انطلقوا إلى برصيصا العابد، فإن عنده اسم الله الأعظم، فانطلقوا إليه، فدعا بتلك الكلمات، فذهب عنهم الشيطان، وكان الأبيض يفعل بالناس ذلك، ثم يرشدهم إلى برصيصا ، فيعافون، فلما طال ذلك [ ص: 221 ] عليه انطلق إلى جارية من بنات ملوك بني إسرائيل، لها ثلاثة إخوة، فخنقها، ثم جاء إليهم في صورة متطبب، فقال: أعالجها؟ قالوا: نعم . فقال: إن الذي عرض لها مارد لا يطاق، ولكن سأرشدكم إلى رجل تدعونها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها، قالوا، ومن هو؟ قال: برصيصا ، قالوا: فكيف لنا أن يقبلها منا، وهو أعظم شأنا من ذلك؟! قال: إن قبلها، والا فضعوها في صومعته، وقولوا له: هي أمانة عندك، فانطلقوا إليه، فأبى عليهم، فوضعوها عنده . وفي بعض الروايات أنه قال: ضعوها في ذلك الغار، وهو غار إلى جنب صومعته، فوضعوها، فجاء الشيطان فقال: له انزل إليها فامسحها بيدك تعافى، وتنصرف إلى أهلها، فنزل، فلما دنا إلى باب الغار دخل الشيطان فيها، فإذا هي تركض، فسقطت عنها ثيابها، فنظر العابد إلى شيء لم ير مثله حسنا وجمالا، فلم يتمالك أن وقع عليها، وضرب على أذنه، فجعل يختلف إليها إلى أن حملت، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا قد افتضحت، فهل لك أن تقتل هذه وتتوب؟! فإن سألوك عنها فقل: جاء شيطانها، فذهب بها، فلم يزل بها حتى قتلها، ودفنها، ثم رجع إلى صومعته، فأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها يسألون عنها، فقالوا: يا برصيصا! ما فعلت أختنا؟ قال: جاء شيطانها فذهب بها، ولم أطقه، فصدقوه، وانصرفوا . وفي بعض الروايات أنه قال: دعوت لها، فعافاها الله، ورجعت إليكم، فتفرقوا ينظرون لها أثرا، فلما أمسوا جاء الشيطان إلى كبيرهم في منامه، فقال: ويحك: إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا، وإنه دفنها في موضع كذا من جبل كذا، فقال: هذا حلم، و برصيصا خير من ذلك، فتتابع عليه ثلاث ليال، ولا يكترث، فانطلق إلى الأوسط كذلك، ثم إلى الأصغر مثل ذلك، فقال الأصغر لإخوته: لقد رأيت كذا وكذا، فقال [ ص: 222 ] الأوسط: وأنا والله، فقال الأكبر: وأنا والله، فأتوا برصيصا ، فسألوه عنها، فقال: قد أعلمتكم بحالها، فكأنكم اتهمتموني، قالوا: لا والله، واستحيوا، وانصرفوا، فجاءهم الشيطان فقال: ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وكذا، وإن إزارها لخارج من التراب، فانطلقوا، فحفروا عنها، فرأوها، فقالوا: يا عدو الله لم قتلتها؟ اهبط، فهدموا صومعته، ثم أوثقوه، وجعلوا في عنقه حبلا، ثم قادوه إلى الملك فأقر على نفسه، وذلك أن الشيطان عرض له، فقال: تقتلها ثم تكابر، فاعترف، فأمر الملك بقتله وصلبه، فعرض له الأبيض، فقال: أتعرفني؟ قال: لا، قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات، ويحك ما اتقيت الله في أمانة خنت أهلها، أما استحييت من الله؟! ألم يكفك ذلك حتى أقررت ففضحت نفسك وأشباهك بين الناس؟! فإن مت على هذه الحالة لم تفلح، ولا أحد من نظرائك، قال: فكيف أصنع قال: تطيعني في خصلة حتى أنجيك، وآخذ بأعينهم، وأخرجك من مكانك، قال: ما هي؟ قال: تسجد لي، فسجد له، فقال: هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك أن كفرت إني بريء منك ثم قتل . فضرب الله هذا المثل لليهود حين غرهم المنافقون، ثم أسلموهم .

[ ص: 223 ] قوله تعالى: إني أخاف الله ونصب ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ياء "إني" وأسكنها الباقون . وقد بينا المعنى في [الأنفال: 48] فكان عاقبتهما يعني: الشيطان وذلك الكافر .

[ ص: 224 ] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون

قوله تعالى: ولتنظر نفس ما قدمت لغد أي: لينظر أحدكم أي شيء قدم؟ أعملا صالحا ينجيه؟ أم سيئا يوبقه؟ ولا تكونوا كالذين نسوا الله أي: تركوا أمره فأنساهم أنفسهم أي: أنساهم حظوظ أنفسهم، فلم يعملوا بالطاعة، ولم يقدموا خيرا . قال ابن عباس: يريد قريظة، والنضير، وبني قينقاع .

لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم

قوله تعالى: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل أخبر الله بهذا عن تعظيم شأن القرآن، وأنه لو جعل في جبل - على قساوته وصلابته تمييزا، كما جعل في بني آدم، ثم أنزل عليه القرآن لتشقق من خشية الله، وخوفا أن لا يؤدي حق الله في تعظيم القرآن . و"الخاشع": المتطأطئ الخاضع، و"المتصدع": المتشقق . وهذا توبيخ لمن لا يحترم القرآن، ولا يؤثر في قلبه مع الفهم والعقل، ويدلك على هذا المثل قوله تعالى: وتلك الأمثال نضربها للناس ثم أخبر بعظمته وربوبيته، فقال تعالى: هو الله الذي لا إله إلا هو قال الزجاج: قوله [ ص: 225 ] تعالى: هو الله رد على قوله تعالى: في أول السورة: سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم

فأما هذه الأسماء، فقد سبق ذكر "الله"، و"الرحمن"، و"الرحيم" في [الفاتحة] وذكرنا معنى عالم الغيب والشهادة في [الأنعام: 73] . و الملك في سورة [المؤمنين: 116] .

فأما "القدوس" فقرأ أبو الأشهب، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ بفتح القاف . قال أبو سليمان الخطابي: "القدوس": الطاهر من العيوب، المنزه عن الأنداد والأولاد . و"القدس": الطهارة . ومنه سمي: بيت المقدس، ومعناه: المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب . وقيل للجنة: حظيرة القدس، لطهارتها من آفات الدنيا . والقدس: السطل الذي يتطهر فيه، ولم يأت من الأسماء على فعول بضم الفاء إلا "قدوس" و"سبوح" وقد يقال أيضا: قدوس، وسبوح بالفتح فيهما، وهو القياس في الأسماء، كقولهم: سفود، وكلوب .

فأما "السلام" فقال ابن قتيبة: سمى نفسه سلاما، لسلامته مما يلحق الخلق من العيب والنقص والفناء . وقال الخطابي: معناه: ذو السلام . والسلام في صفة الله سبحانه: هو الذي سلم من كل عيب، وبرئ من كل آفة ونقص يلحق المخلوقين . قال وقد قيل هو الذي سلم الخلق من ظلمه .

فأما "المؤمن"، ففيه ستة أقوال .

أحدها: أنه الذي أمن الناس ظلمه، وأمن من آمن به عذابه، قاله ابن عباس، ومقاتل .

والثاني: أنه المجير، قاله القرظي .

[ ص: 226 ] والثالث: الذي يصدق المؤمنين إذا وحدوه، قاله ابن زيد .

والرابع: أنه الذي وحد نفسه، لقوله تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو [آل عمران: 18] ذكره الزجاج .

والخامس: أنه الذي يصدق عباده وعده، قاله ابن قتيبة .

والسادس: أنه يصدق ظنون عباده المؤمنين، ولا يخيب آمالهم، كقول النبي عليه الصلاة والسلام فيما يحكيه عن ربه عز وجل: "أنا عند ظن عبدي بي" حكاه الخطابي .

فأما "المهيمن" ففيه أربعة أقوال .

أحدها: أنه الشهيد، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والكسائي . قال الخطابي: ومنه قوله تعالى: ومهيمنا عليه [المائدة: 48]، فالله الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل .

والثاني: أنه الأمين، قاله الضحاك، قال الخطابي: وأصله: مؤيمن، فقلبت الهمزة هاء، لأن الهاء أخف عليهم من الهمزة . ولم يأت مفيعل في غير التصغير، إلا في ثلاثة أحرف "مسيطر" و"مبيطر" و"مهيمن" وقد ذكرنا في سورة [الطور: 37] عن أبي عبيدة، أنها خمسة أحرف .

والثالث: المصدق فيما أخبر، قاله ابن زيد .

والرابع: أنه الرقيب على الشيء، والحافظ له، قاله الخليل . قال الخطابي وقال بعض أهل اللغة: الهيمنة: القيام على الشيء; والرعاية له، وأنشد:


ألا إن خير الناس بعد نبيه مهيمنه التاليه في العرف والنكر


[ ص: 227 ] يريد القائم على الناس بعده بالرعاية لهم . وقد زدنا هذا شرحا في [المائدة: 48] وبينا معنى "العزيز" في [البقرة: 129] .

فأما "الجبار" ففيه أربعة أقوال .

أحدها: أنه العظيم، قاله ابن عباس .

والثاني: أنه الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما يريد، قاله القرظي والسدي . وقال قتادة: جبر خلقه على ما شاء . وحكى الخطابي: أنه الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره ونهيه . يقال: جبره السلطان، وأجبره .

والثالث: أنه الذي جبر مفاقر الخلق، وكفاهم أسباب المعاش والرزق .

والرابع: أنه العالي فوق خلقه، من قولهم: تجبر النبات: إذا طال وعلا، ذكر القولين الخطابي .

فأما "المتكبر" ففيه خمسة أقوال .

أحدها: أنه الذي تكبر عن كل سوء، قاله قتادة .

والثاني: أنه الذي تكبر عن ظلم عباده، قاله الزجاج .

[ ص: 228 ] والثالث: أنه ذو الكبرياء، وهو الملك، قاله ابن الأنباري .

والرابع: أنه المتعالي عن صفات الخلق .

والخامس: أنه الذي يتكبر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة، فقصمهم، ذكرهما الخطابي . قال: والتاء في "المتكبر" تاء التفرد، والتخصص، لأن التعاطي والتكلف والكبر لا يليق بأحد من المخلوقين، وإنما سمة العبد الخضوع والتذلل . وقيل: إن المتكبر من الكبرياء الذي هو عظمة الله، لا من الكبر الذي هو مذموم في الخلق .

وأما "الخالق" فقال الخطابي: هو المبتدئ للخلق المخترع لهم على غير مثال سبق، فأما في نعوت الآدميين، فمعنى الخلق: كقول زهير:


ولأنت تفري ما خلقت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفري


يقول: إذا قدرت شيئا قطعته، وغيرك يقدر ما لا يقطعه، أي: يتمنى ما لا يبلغه . و"البارئ" الخالق . يقال: برأ الله الخلق يبرؤهم . و"المصور": [ ص: 229 ] الذي أنشأ خلقه على صور مختلفة ليتعارفوا بها . ومعنى: التصوير: التخطيط والتشكيل . وقرأ الحسن، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، وابن السميفع "البارئ المصور" بفتح الواو والراء جميعا، يعني: آدم عليه السلام . وما بعد هذا قد تقدم بيانه [الأعراف: 180،والإسراء: 110] إلى آخر السورة .

سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ

وَهِيَ مَدَنَيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ

بسم الله الرحمن الرحيم

يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير

قوله تعالى: أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ذكرأهل التفسير أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو ابن صيفي بن هاشم أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة، فقال لها: "أمسلمة جئت؟" قالت: لا، قال: "فما جاء بك؟" قالت: أنتم الأهل والعشيرة والموالي، وقد احتجت حاجة شديدة، فقدمت إليكم لتعطوني . قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأين أنت من شباب أهل مكة؟" وكانت مغنية، فقالت ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر، [ ص: 231 ] فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب، فكسوها، وحملوها، وأعطوها، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة، فكتب معها كتابا إلى أهل مكة، وأعطاها عشرة دنانير على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة، [وكتب في الكتاب: من حاطب إلى أهل مكة] إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم، فخذوا حذركم، فخرجت به سارة، ونزل جبريل فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل حاطب، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا، وعمارا، والزبير، وطلحة، والمقداد، وأبا مرثد، وقال: "انطلقوا حتى تأتوا "روضة خاخ"، فإن فيها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين، فخذوه منها، وخلوا سبيلها، فإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها" فخرجوا حتى أدركوها، فقالوا لها: أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب، ففتشوا متاعها فلم يجدوا شيئا فهموا بالرجوع، فقال علي: والله ما كذبنا ولا كذبنا، وسل سيفه، وقال: أخرجي الكتاب، وإلا ضربت عنقك، فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها، فخلوا سبيلها، ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى حاطب، فأتاه، فقال له: "هل تعرف الكتاب؟" قال: نعم . قال: "فما حملك على ما صنعت؟" فقال: يا رسول الله والله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته، وكنت [غريبا] فيهم، وكان أهلي بين ظهرانيهم، فخشيت على أهلي، فأردت أن أتخذ عندهم يدا، وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه، وكتابي لا يغني عنهم شيئا، فصدقه رسول الله [ ص: 232 ] صلى الله عليه وسلم وعذره، ونزلت هذه السورة تنهى حاطبا عما فعل، وتنهى المؤمنين أن يفعلوا كفعله، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" . وقد أخرج هذا الحديث في "الصحيحين" مختصرا، وفيه ذكر علي، وابن الزبير، وأبي مرثد فقط .

قوله تعالى: تلقون إليهم بالمودة وفيه قولان .

أحدهما: أن الباء زائدة، والمعنى: تلقون إليهم المودة، ومثله ومن يرد فيه بإلحاد بظلم [الحج: 25]، هذا قول الفراء، وأبي عبيدة، وابن قتيبة، والجمهور .

والثاني: تلقون إليهم أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وسره بالمودة التي بينكم وبينه، قاله الزجاج .

[ ص: 233 ] قوله تعالى: وقد كفروا الواو للحال، وحالهم أنهم كفروا بما جاءكم من الحق، وهو القرآن "يخرجون الرسول وإياكم" من مكة ( أن تؤمنوا بالله) "إن كنتم خرجتم" هذا شرط، جوابه متقدم، وفي الكلام تقديم وتأخير . قال الزجاج: معنى الآية: إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء .

قوله تعالى: تسرون إليهم بالمودة الباء في "المودة" حكمها حكم الأولى . قال المفسرون: والمعنى: تسرون إليهم النصيحة وأنا أعلم بما أخفيتم من المودة للكفار وما أعلنتم أي: أظهرتم بألسنتكم . وقال ابن قتيبة: المعنى: كيف تستسرون بمودتكم لهم مني وأنا أعلم بما تضمرون وما تظهرون؟!

قوله تعالى: ومن يفعله منكم يعني: الإسرار والإلقاء إليهم فقد ضل سواء السبيل أي: أخطأ طريق الهدى . ثم أخبر بعداوة الكفار فقال تعالى: إن يثقفوكم أي: يظفروا بكم يكونوا لكم أعداء لا موالين ويبسطوا إليكم أيديهم بالضرب والقتل وألسنتهم بالسوء وهو: الشتم وودوا لو تكفرون فترجعون إلى دينهم . والمعنى: أنه لا ينفعكم التقرب إليهم بنقل أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قوله تعالى: لن تنفعكم أرحامكم أي: قراباتكم . والمعنى: ذوو أرحامكم، أراد: لن ينفعكم الذين عصيتم الله لأجلهم، يوم القيامة يفصل بينكم قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: "يفصل" برفع الياء، وتسكين الفاء، ونصب الصاد . وقرأ ابن عامر" يفصل" برفع الياء، والتشديد، وفتح الصاد، وافقه حمزة، والكسائي، وخلف، إلا أنهم كسروا الصاد . وقرأ عاصم، غير المفضل، ويعقوب بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد، وتخفيفها . وقرأ أبي بن كعب ، [ ص: 234 ] وابن عباس، وأبو العالية: ( نفصل ) بنون مرفوعة، وفتح الفاء، مكسورة الصاد مشددة . وقرأ أبو رزين ، وعكرمة، والضحاك: ( نفصل ) بنون مفتوحة، ساكنة الفاء، مكسورة الصاد خفيفة، أي: نفصل بين المؤمن والكافر وإن كان ولده . قال القاضي أبو يعلى: في هذه القصة دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إظهار الكفر، كما يبيح في الخوف على النفس، ويبين ذلك أن الله تعالى فرض الهجرة، ولم يعذرهم في التخلف لأجل أموالهم وأولادهم . وإنما ظن حاطب أن ذلك يجوز له ليدفع به عن ولده، كما يجوز له أن يدفع عن نفسه بمثل ذلك عند التقية، وإنما [قال] عمر; دعني أضرب عنق هذا المنافق لأنه ظن أنه فعل ذلك عن غير تأويل .






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 23-06-2024 الساعة 11:43 PM.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.94 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.28 كيلو بايت... تم توفير 0.66 كيلو بايت...بمعدل (1.40%)]