
10-06-2024, 02:03 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,703
الدولة :
|
|
"لا تجعلوني كقدح الراكب": دراسة حديثية تحليلية
«لَا تَجْعَلُونِي كَقَدَحِ الرَّاكِبِ»
دراسة حديثية تحليلية
أ. د. فهمي أحمد عبدالرحمن القزاز
الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلهِ وصحبهِ ومَنْ والاه، وبَعْدُ:
فمن الأمور التي استشكلها الصح ابة رضي الله عنهم بعد نزول قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ الأحزاب: 56] كيفية الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كيف يصلون عليه وهم يعلمون يقينًا أنه صلى الله عليه وسلم أعلى مقامًا منهم عند ربهم جلَّ جلاله، فكيف يصلي المذنب والخطَّاء على من هو معصومٌ صلوات ربي وسلامه عليه؟ وكيف يصلي مَنْ فيه المعايب والنقائص على مَنْ هو طاهر لا عَيبَ فيه؟ وكيف يُثِني من فيه معايب على طاهر؟ ولأن مرتبة العبد تقصر عن ذلك؛ فوجَّههم المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يطلبوا من الله سبحانه وتعالى أن يصلي هو عليه؛ فهو أعلم به وبحاله ومقامه عنده، فقال لهم قولوا: (اللهم صلِّ)، أنت يارب صلِّ عليه ولست أنا من يصلي عليه؛ لأن قوانا لا تصل إلى ذلك؛ قال السبكي: (لا يَقْدِرُ أحدٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حقَّ قَدْرِهِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى؛ وَإِنَّمَا يعرفُ كل وَاحِدٍ من مِقْدَاره بِقَدْرِ مَا عِنْده هُوَ؛ فأعرفُ الْأمةِ بِقَدْرِهِ أَبُو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه؛ لِأَنَّهُ أفضلُ الْأمةِ، وَإِنَّمَا يعرفُ أَبُو بكر من مِقْدَارِ الْمُصْطَفى صلى الله عليه وسلم مَا تصلُ إِلَيْهِ قِوى أبي بكرٍ، وَثمَّ أُمُورٌ تَقْصِرُ عَنْهَا قِواهُ لم يحطْ بهَا علمهُ ومحيطٌ بهَا علمُ الله)[1].
من هنا قال علماء الأصول: حكم تكليفي وحيد في الكتاب والسنة أمرنا بأدائه فلم نقدر عليه ولم نفهم معناه، فأوكلناه إلى الله مرة أخرى ليؤدِّيه عنَّا؛ ألا وهو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا ما نطق به الأفاضل من العلماء قديمًا وحديثًا[2]؛ وهذا ما نفهمه من حديث أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه، أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» [3].
وكذا حديث كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَّا السَّلَامُ عَلَيْكَ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ»[4].
قلت: ومِنْ أعظم أسبابِ قبول الدعاء والاستجابة له التي حثَّنا عليها المصطفى صلى الله عليه وسلم ونهانا عن إهمالها وإضاعتها؛ الصَّلاةُ عليه صلى الله عليه وسلم في أول الدعاء وأوسطه وآخره لتكون سببًا لقبوله والاستجابة له؛ فأخرجه عبدالرزاق في مصنفه عَنْ جَابِرِ بْنِ عبدالله رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَجْعَلُونِي كَقَدَحِ الرَّاكِبِ، فَإِنَّ الرَّاكِبَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْطَلِقَ عَلَّقَ مَعَالِقَهُ، وَمَلَأَ قَدَحًا مَاءً، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَتَوَضَّأَ تَوَضَّأَ، وَأَنْ يَشْرَبَ شَرِبَ، وَإِلَّا أَهْرَاقَ، فَاجْعَلُونِي فِي وَسَطِ الدُّعَاءِ وَفِي أَوَّلِهِ وَفِي آخِرِهِ»[5].
وأخرجه عبد بن حميد بلفظ: «لَا تَجْعَلُونِي كَقَدَحِ الرَّاكِبِ، إِنَّ الرَّاكِبَ إِذَا عَلَّقَ مَعَالِيقَهُ أَخَذَ قَدَحَهُ فَمَلَأَهُ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الْوُضُوءِ تَوَضَّأَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الشُّرْبِ شَرِبَ، وَإِلَّا أَهْرَاقَ مَا فِيهِ، اجْعَلُونِي فِي أَوَّلِ الدُّعَاءِ، وَفِي وَسَطِ الدُّعَاءِ، وَفِي آخِرِ الدُّعَاءِ»[6]، وكذا أخرجه ابن أبي عاصم، وأبو بكر بن الخلال، والبزار، والبيهقي وقوام السنة، كلُّهم بألفاظ متقاربة[7].
وأخرجه القضاعيُّ بلفظ: «لَا تَجْعَلُونِي كَقَدَحِ الرَّاكِبِ»، قَالُوا: وَمَا قَدَحُ الرَّاكِبِ؟ قَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ لِيَرْفَعُ مَتَاعَهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَيَبْقَى فِي قَدَحِهِ مَاءٌ، فَيُعِيدُهُ فِي إِدَاوَتِهِ، قَالَ: «اجْعَلُونِي فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ»[8].
وأخرجه الديلميُّ بلفظ: "لا تجعلوني كقدح الرَّاكِب، فَإِن الرَّاكِب يمْلَأ قدحه ويضعه وَيرْفَع بِهِ مَتَاعه، فَإِن احْتَاجَ إلى الشّرْب شرب"[9].
وذكره ابن كثير في مسند الفاروق رضي الله عنه، فقال: وقد رواه رَزين بن معاوية في كتابه مرفوعًا، ولفظه: عن عمرَ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاءُ موقوفٌ بين السماءِ والأرضِ، لا يَصعدُ حتى يُصلَّى عليَّ، فلا تجعلوني كغُمَرِ الراكبِ، صلُّوا عليَّ أوَّلَ الدعاءِ، وأوسطَه، وآخرَه»[10].
الحكم على الحديث:
قال ابن كثير (ت 774هـ): فَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَمُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ [11].
وقال الهيثمي(ت 807هـ): رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَفِيهِ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ [12].
وقال البوصيري (ت840هـ): هَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ؛ لِضَعْفِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ [13].
قال السخاوي (ت 902هـ): وسنده مرسل أو معضل، فإن كان يعقوب أخذه عن غير موسى تقوَّت به رواية موسى، والعلم عند الله تعالى [14].
وعلة الحديث كما تبين لك هو: (مُوسَى بْن عُبَيْدَةَ الرَّبَذي)، وهو: موسى بن عُبيدة بضم أوله، ابن نَشيط بفتح النون وكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة، الرَّبَذي بفتح الراء والموحدة ثم معجمة، أبو عبدالعزيز المدني، وكان عابدًا مات سنة ثلاث وخمسين ومئة، روى له الترمذي وابن ماجه.
أقوال أئمة الجرح والتعديل فيه:
جمهور المُحدِّثين على ضعفه[15]؛ قال الذهبي: ضعَّفوه[16]، وقال ابن حجر: ضعيف ولا سيما في عبدالله بن دينار[17].
ووثَّقه ابن سعد في طبقاته فقال: (وَكَانَ ثِقَةً كَثِيرَ الْحَدِيثِ وَلَيْسَ بحجة)[18].
وبين ابن حبان في كتابه المجروحين سبب ضعفه فقال: (وَكَانَ من خِيَار عباد الله نسكًا وفضلًا وَعبادةً وصلاحًا إِلَّا أَنه غفل عَن الإتقان فِي الْحِفْظ حَتَّى يَأْتِي بالشَّيْء الَّذِي لَا أصل لَهُ مُتَوَهِّمًا، ويروي عَن الثِّقَات مَا لَيْسَ من حَدِيث الْأَثْبَات من غير تعَمُّد لَهُ، فَبَطل الِاحْتِجَاج بِهِ من جِهَة النَّقْل)[19].
وعليه فالجرح فيه من قبل الضبط لا العدالة، فحديثه ضعيف يتقوَّى بغيره، والله أعلم بالصواب.
والخلاصة في حديث جابر أنه حديث ضعيف بهذا الإسناد من هذه الطريق كما نطق بذلك الجهابذة؛ ولكن يشهد له عدة نصوص رُوِيت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة الكرام لها حكم المرفوع وهي:
الحديث الأول:
أخرج الترمذي وغيره عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «عَجِلْتَ أَيُّهَا الْمُصَلِّي، إِذَا صَلَّيْتَ فَقَعَدْتَ فَاحْمَدِ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَصَلِّ عَلَيَّ ثُمَّ ادْعُهُ»، قَالَ: ثُمَّ صَلَّى رَجُلٌ آخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّهَا الْمُصَلِّي، ادْعُ تُجَبْ» [20].
وفي لفظ: "سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلاتِهِ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: عَجِلَ هَذَا، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ لْيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ"[21].
وفي لفظ: «أَيُّهَا الْمُصَلِّي، ادْعُ تُجَبْ، وَسَلْ تُعْطَ» [22].
الملاحظ في النص المذكور أعلاه أمَرَهُ صلى الله عليه وسلمبأنَّ يصلي عليه المصلي في ابتداء الدعاء بعد الحمد.
الحديث الثاني:
أخرج الإمام الترمذي: عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه، قَالَ: إِنَّ الدُّعَاءَ مَوْقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا يَصْعَدُ مِنْهُ شَيْءٌ، حَتَّى تُصَلِّيَ عَلَى نَبِيِّك صلى الله عليه وسلم[23].
والملاحظ في النص أعلاه أنه رضي الله عنه أخبره أنَّ الدعاء يكون موقوفًا بين السماء والأرض لا يصعد إلا بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الطيبيُّ (ت 743هـ) قوله: «تصلي على نبيِّك» يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ عُمَرَ، فَيَكُونَ مَوْقُوفًا، وَأَنْ يَكُونَ نَاقِلًا كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَحِينَئِذٍ فِيهِ تَجْرِيدٌ، جرد صلى الله عليه وسلم من نفسه نبيًّا، وهو هو، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْخِطَابُ عَامٌّ لَا يَخْتَصُّ بِمُخَاطَبٍ دُونَ مُخَاطَبٍ.
فالأنسب أنْ يُقال: إن النَّبِيَّ مشتق من النَّباوة والرفعة؛ أيْ: لا يرفع الدعاء إلى الله سبحانه وتعالى، حتى يستصحب الرافع معه، يعني أن الصلاة على النَّبِيِّ هي الوسيلة إلى الإجابة[24].
قال العراقي: هو وإن كان موقوفًا على عمر، فمثله لا يقال من قِبل الرَّأي، وإنما هو أمر توقيفي، فحُكْمه حُكم المرفوع [25].
وقال ابن العربي: مثل هذا إذ قاله عمر لا يكون إلا توقيفًا؛ لأنه لا يدرك بنظر [26].
قلت: وهذا ينبغي أن يتعلم ويُتقن، فالأحاديث الموقوفة على الصحابة الكرام والتي لا مجال للرأي فيها والاجتهاد لها حكم المرفوع، وهذا ما نطق به الأفذاذ من علماء الأمة بفائدة نفيسة، فقالوا:
قال ابن عبدالبر وهو يؤصل هذه القاعدة الجليلة وهو يتكلم عن حَدِيثٍ مَوْقُوفٍ عَلَى سَهْلٍ رضي الله عنه فِي الْمُوَطَّأِ عِنْدَ جَمَاعَةِ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ...ثم قال: وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ [27].
وأكد هذا المعنى والمغزى وهو يتحدث عن تَسْلِيمِ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه لِعَائِشَةَ رضي الله عنها فِي مسألة معينة، فقال: فيه دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ رَفْعِهَا إلى النَّبِيِّ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُقَالُ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ [28].
وَنَبَّه القارئ لكتابه أن يعي هذا جيدًا فقال: أَدْخَلْنَا هَذَا فِي كِتَابِنَا؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُقَالُ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ تَوْقِيفًا؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُدْرَكُ بِنَظَرٍ؛ وَإِنَّمَا فِيهِ التَّسْلِيمُ [29].
وهذا الإمام الحاكم يُصرِّحُ بذلك في كتابه: "معرفة علوم الحديث للحاكم" وهو يتكلم على النَّوْعِ السَّادِسِ مِنْ مَعْرِفَةِ عُلُومِ الْحَدِيثِ النَّوْعُ السَّادِسُ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ مَعْرِفَةُ الْأَسَانِيدِ الَّتِي لَا يُذْكَرُ سَنَدُهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم...ثم ذكر على ذلك أمثلة عدة، ثم قال: هَذَا بَابٌ كَبِيرٌ، يَطُولُ ذِكْرُهُ بِالْأَسَانِيدِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ الْمَعْرُوفِ بِالصُّحْبَةِ، أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ كَذَا وَنُهِينَا عَنْ كَذَا وَكَذَا، وَكُنَّا نُؤْمَرُ بِكَذَا، وَكُنَّا نُنْهَى عَنْ كَذَا، وَكُنَّا نَفْعَلُ كَذَا، وَكُنَّا نَقُولُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِينَا، وَكُنَّا لَا نَرَى بَأْسًا بِكَذَا، وَكَانَ يُقَالُ كَذَا وَكَذَا، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا وَأَشْبَاهَ مَا ذَكَرْنَاهُ إِذَا قَالَهُ الصَّحَابِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالصُّحْبَةِ فَهُوَ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُخَرَّجٌ فِي الْمَسَانِيدِ[30].
والإمام الرَّازي وهو علَّامة الأصول والفروع ليس ببعيدٍ عن هذا، فقال في كتابه الماتع النافع "المحصول": إذا قال الصحابي قولًا لا مجال للاجتهاد فيه فحُسْنُ الظنِّ به يقتضي أن يكون قاله عن طريق، فإذا لم يمكن الاجتهاد فليس إلَّا السماع من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم[31].
وهذا ما أكَّدهُ ابن العربي في أكثر من مناسبة، فقال وهو يعلق على الأحاديث: لكن للوقف في مثل هذا حكم الرفع؛ لأن ذلك مما لا مجال للاجتهاد فيه[32].
الحديث الثالث:
أخرج الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ: «إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَسْأَلَ، فَلْيَبْدَأْ بِالْمِدْحَةِ، وَالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ لْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ لِيَسْأَلْ بَعْدُ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يَنْجَحَ» [33].
الملاحظ في النص المذكور أعلاه أمره بأن يصلي عليه المصلي في ابتداءِ الدعاء بعد الحمد، فإن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب في قبول الدعاء والاستجابة له.
الحديث الرابع:
أخرج الطبراني عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «كُلُّ دُعَاءٍ مَحْجُوبٌ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» [34].
قلت: وقد أخرجه البيهقي موقوفًا ومرفوعًا عن سيدنا عليٍّ رضي الله عنه.
قال البيهقي: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، قَالَ: "كُلُّ دُعَاءٍ مَحْجُوبٌ عَنِ السَّمَاءِ حَتَّى يُصَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم"[35].
وقال: عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الدُّعَاءُ مَحْجُوبٌ عَنِ اللهِ حَتَّى يُصَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ» [36].
قال المنذري: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَط مَوْقُوفًا، وَرُوَاته ثِقَات، وَرَفعه بَعضهم، وَالْمَوْقُوف أصح[37].
والملاحظ في النص المذكور أعلاه أنَّ الدعاء سيكون محجوبًا عن السماء-أيْ: الاستجابة-حتى يصلي الداعي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: والخلاصة في حديث جابر رضي الله عنه: أنه ضعيف من هذه الطريق؛ ولكنه يتقوَّى بهذه الشواهد الأربعة التي ذكرتها، فيرتقي إلى مرتبة الحسن لغيره، والله أعلم بالصواب.
شرح الحديث وبيان معاني ألفاظه وغريبه ووجه الشبه وما يؤخذ منه:
قال ابن قتيبة (276 هـ): سَألتَ عن حديثِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لا تَجْعلوني كقَدَحِ الراكبِ؟».
والذي أرادَ: لا تؤَخِّروني في الذِّكْرِ، ولا تجعلوني فضلًا كقَدَحِ الراكبِ يُعَلِّقُ قَدَحَهُ في آخِرِهِ وَيحْمِلُهُ عندَ فراغِهِ... قال حسَّانُ -فيما أحْسِبُ -:
وأنت مَنُوطٌ نِيطَ في آلِ هاشِمٍ
كما نِيطَ خَلْفَ الراكِبِ القَدَحُ الفَرْدُ
ومثال هذا أن يكونَ الرجلُ يُصَلِّي على من تَقَدَّمَ من الأنبياءِ والملائِكَة، وَيدْعُو لأبَوَيهِ ونفسِهِ وللمؤمنينَ والمؤمنات، فإذا فَرَغَ من جميع دُعائِهِ وحَوائِجِهِ إلى اللهِ صَلَّى على النَّبيِّ، فجعلَهُ آخِرًا وجعل ذِكْرَهُ فَضْلًا كما يُعَلِّقُ الراكبُ قَدَحَهُ في حقيبَتِهِ بعدَ فراغِهِ من جميعِ ما تحملُهُ ناقَتُهُ[38].
وقال ابن عطية: (ت 542هـ) وقوله تعالى: ﴿ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ﴾ [البقرة: 101]، استعارة لما يبالغ في اطِّراحه، ومنه ﴿ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا ﴾ [هود: 92]، ومنه بالمعنى قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوني كقدح الراكب"، أراد عليه السلام: لا تجعلوا ذكري وطاعتي خلف أظهركم، وهو موضع القدح[39].
وقال ابن قرقول (ت 569هـ): أي: في آخر الدعاء فتصلوا عليَّ عند فراغكم من الدعاء لأنفسكم كالمسافر يعلق قدحه آخر ما يعلق وفي آخر رحله[40].
وقال ابن الجوزي (ت 597هـ): وَإِنَّمَا معنى الحَدِيث أَن يكون الْإِنْسَان أبدًا لَا يفتر عَن الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فَإِذا أَصَابَته شدَّة وَصلى على مُحَمَّد عرف صَوته ودعاءه، فاستجيب لَهُ، وكشف عَنهُ الْهم وَالْكرب، فَيجب على من هُوَ أهل مِلَّة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ألَّا يغْفل عَن الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عليه وسلم [41].
قال ابن الأثير (ت: 606هـ): (كغمر الراكب): الغمر: القدح الصغير، كالقَعْب، والمعنى: أن الراكب يحمل رحله وأزواده، ويترك قعبه إلى آخر ترحاله، ثم يعلِّقه إما على آخرة الرحل أو نحوها، كالعلاوة، فليس عنده بمهم، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعلوا الصلاة عليه كالغمر-القدح-الذي لا يُقدَّم في المهام فيجعل تبعًا، والمراد به: الحث على الصلاة عليه أولًا ووسطًا، والاهتمام بشأنها [42].
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|