أصول في دراسة مسائل التفسير
عبد العزيز الداخل
المرحلة الخامسة: جمع الأدلة وتمييزها
- بعد جمع الباحث للأقوال واجتهاده في استيعابها وحصرها وتحققه من صحة النسبة؛ حتى لا يقع في إشاعة الخطأ أو سوء الفهم، ينتقل إلى مرحلة مهمّة وهي مرحلة جمع الأدلة لتلك الأقوال وتمييزها.
- قد تكثر الأدلة وقد تقلّ، وقد تذكر بعض الأقوال من دون أدلّة، وعمل الباحث في أوّل الأمر هو جمع الأدلّة التي تحصّلت له من بحثه في المسألة.
- قد تكون الأدلة صحيحة وقد تكون غير صحيحة، وقد تكون صريحة الدلالة على المراد، وقد يكون في الاستدلال بها نظر، وكلّ ذلك لا يمنع الباحث من أن يجمع ما يتحصّل له في مسودة بحثه.
- بعد جمع الأدلّة وتصنيفها على الأقوال؛ ومعرفته باستدلالات أصحاب كلّ قول؛ ينظر الباحث في تلك الأدلّة بعين فاحصة لتمييز ما يصح مما لا يصح بحسب اجتهاده فيما يتبيّنه، وسؤاله لأهل العلم فيما يشكل عليه.
- قد يظهر للباحث أدلّة أخرى على المسألة لم يذكرها بعض أصحاب تلك الأقوال فينبغي له أن يضيفها؛ فإن كثرت أضاف أهمّها وأصحّها وأصرحها.
- للباحث سعة في التعبير عما يضيفه من الأدلة؛ ومن ذلك أن يقول: (ويمكن أن يستدل لهذا القول بكذا وكذا..) أو (ومن أدلّة هذا القول كذا وكذا..) وغير ذلك من الصيغ التي لا يفهم منها ما يشبه التصريح بأن أولئك العلماء قد استدلوا بها، وسبب هذا التنبيه: خشية وقوع الباحث في خطأ في استدلاله فينسب إلى أولئك العلماء، وقد يكون لهم دليل صحيح لم يذكره.
- إذا تعدد الأدلة فيوصى الباحث أن يرتّبها ترتيباً له اعتبار موضوعي؛ كأن يبدأ بالأصرح أو بالأصح أو بما ذكره المتقدّمون.
- ينبغي للباحث أن يكون فطناً لاستدلالات العلماء ومآخذها؛ فمنهم من يشير إلى الدليل إشارة خفية؛ ومنهم من يذكر الدليل ويكون في وجه الدلالة منه خفاء وغموض.
- ما يتبع الاستدلال من الاعتراضات ودفعها والعلل وكشفها ينبغي أن يوليه الباحث عناية بالغة؛ لأن عماد ترجيحه بين الأقوال قائم على دراسته للأدلة.
- مداومة الباحث على محاولة تمييز ما يصح من الاستدلالات وما لا يصح، والتعرف على مآخذ الاستدلالات وعللها وطرق كشفها وبيانها كل ذلك مما ينمّي ملكته العلمية ويوسّع مداركه.
- من المهمّ التفطّن لنظائر المسألة؛ فقد تكون للمسألة التفسيرية التي يبحثها نظير في آية أخرى قد تكلم العلماء عنها، وحكيت فيها الأقوال؛ فينبغي له أن يضمّ النظير إلى نظيره ، ويجمع المادة العلمية في موضع واحد، ويدرسه دراسة متكاملة.
- قبل أن يبدأ الباحث بالترجيح ينبغي له أن يتعرّف على ترجيحات العلماء قبله، واختياراتهم من تلك الأقوال، ويرصدها.
- بعد الموازنة بين الأقوال والأدلة واختيارات العلماء وترجيحاتهم قد يظهر للباحث أدلّة أخرى أو تتبيّن له علّة من العلل فيلجتهد في إحسان استخراجها وبيانها.
المرحلة السادسة: تحرير المسألة
- بعد جمع الباحث للأقوال في المسألة واستيعابها واستيعاب أدلّة العلماء، ومعرفة مآخذها وعللها، وتمييز ما تصح نسبته مما لا تصح يأتي الباحث إلى تحرير المسألة ، وهي أهمّ مراحل البحث، وما سبق كله إعداد لهذه المرحلة.
- أقوال العلماء في المسائل إما أن تكون متوافقة أو متقاربة أو متباينة:
أ. فالأقوال المتوافقة يعبّر عنها الباحث بأبين تلك العبارات ثمّ يذكر من توافقوا على هذا القول، ويفضّل أن يرتّبهم ترتيبا تاريخياً.
ب. والأقوال المتقاربة؛ يحاول الباحث أن يستخرج المعنى الكلي الجامع لها؛ ثمّ يعبّر به عن هذا القول، ويشير إلى ما قاله العلماء في تلك المسألة، وللباحث في هذا النوع ثلاث خيارات:
الأول: أن يبدأ بعرض الأقوال المتقاربة عرضاً موجزاً ؛ ثم يعقّب بالقول الجامع الذي استخرجه من تلك الأقوال وأدلتها ومن تدبره للآية وما استخرجه من فوائدها.
الثاني: أن يبدأ بذكر القول الجامع ؛ وذكر من قال بما يقارب هذا المعنى من العلماء، ثم ينتقي من النقول ما يناسب ذكره.
الثالث: أن يلخّص المعنى الكلي ويشير إلى من قال بهذا القول من العلماء، وهذا إنما يكون في حال الاختصار، وأمّا البسط والتفصيل فيناسبها الخياران الأولان.
ج. والأقوال المتباينة ينبغي للباحث أن يحصر عددها، ويقسّمها إلى أقوال؛ ويعبّر عن كل قول بما يكفي، ثم يذكر من قال به، ويفضّل أن يرتّبهم ترتيبا تاريخياً، وقد يتغاضى عن الخطأ في ترتيب المتقاربين ما لا يتغاضى عنه في ترتيب المتباعدين؛ فإذا رأيت الباحث يقول: وهذا القول قال به ابن كثير وابن جرير؛ فهو إما جاهل جهلاً ذريعاً بتاريخ الوفيات، وإما غير مدرك لأهمية ترتيب الأقوال.
تنبيهات مهمة:
1. التحرير العلمي على درجات ؛ ويتفاوت فيه العلماء؛ والبارعون من الباحثين هم الذين يكون لهم ملكة حسنة في استخراج محور التقسيم؛ فيقسّمون الأقول بناء على ذلك المحور الذي ربما لم يكن منصوصاً عليه، لكنّهم استخرجوه بالموازنة بين الأقوال ومحاولة معرفة القدر المشترك بينها وما يتميّز به كلّ قول عن الآخر؛ فيظهر لهم بذلك محور يصلح للتقسيم.
مثال: مسألة المراد بشرح الصدر.
ومن تعسّر عليه ذلك؛ أو غاب عن ذهنه عند البحث أو كانت النقول في تلك المسألة لا تسعفه في إيجاد محور صحيح للتقسيم؛ فلا أقل من أن يميّز الأقوال المتباينة من الأقوال المتقاربة، وهذه الدرجة من التحرير هي التي يعدّ البحث الذي يخلّ بها بحثاً غير محرر.
2. يجب على الباحث أن يتجنّب الأخطاء القادحة في التحرير العلمي كأن يعدّ النقلين المتوافقين قولين في المسألة.
3. من الخطأ البيّن أن يرجع الباحث في مسألة اعتقادية في التفسير إلى تفاسير غير أهل السنة؛ كأن يرجع في مسائل الإيمان إلى تفاسير الأشاعرة وهم مرجئة في هذا الباب، أو يرجع في مسائل آيات الصفات إلى تفاسير المؤولة أو المفوّضة.
4. ومن الخطأ البيّن أيضاً الخلط بين أقوال العلماء في التفسير وأقوالهم في أسباب النزول؛ فيعرض الأٌقوال الواردة في سبب النزول مع الأقوال الواردة في المسألة التفسيرية التي يبحثها، والواجب أن يعامل الأقوال في سبب النزول معاملة مستقلة، ويحرر القول في سبب النزول، ثمّ يحرر القول في المسألة التفسيرية التي يبحث فيها، وقد يستفاد مما صحّ في أسباب النزول في الترجيح بين الأقوال المتباينة أو الجمع بين الأقوال المتقاربة؛ لكن لا يصلح أن يجعل المسألتين مسألة واحدة؛ إلا في حال التطابق بينهما؛ كأن يكون الكلام في تلك المسألة التفسيرية لا يخرج عن الكلام في سبب النزول؛ كمسألة المراد بصاحب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}.
5. إذا كان الباحث ذا عناية بالأسانيد فلا بأس أن يذكر الأحاديث والآثار من مخارجها، وأمّا إذا لم يكن لديه معرفة حديثية ؛ فينبغي أن يحذف الأسانيد مع بقاء العزو، وأن يذكر ما ظفر به من أقوال العلماء في الحكم على هذا الأثر تصحيحاً أو تضعيفاً أو تنبيها على علة أو شرح لغريب أو غير ذلك مما تتمّ به الفائدة.
6. من المهم للباحث أن يحسن توظيف النقول التي يظفر بها في المسألة؛ وأن يسلك سبيلاً متوسّطاً بين إغفال النقول جملة، وبين إثقال البحث بذكرها كلها، فيذكر من النقول ما تكون عبارته حسنة محررة، وما كان لبعض المحققين من أهل العلم الذي يتأيّد ترجيحه بكلامهم وترجيحهم؛ فيزدان البحث بذلك ولا يثقل على القارئ.
7. ينبغي للباحث أن لا يخلي بحثه من الفوائد واللطائف والملح فيذكر منها ما يطرّز به بحثه ويثريه؛ وكان من عادة العلماء أن يذكروا في رسائلهم وبحوثهم من الفوائد واللطائف والنقول المفيدة والمؤثرة وربما بعض القصص والأشعار التي لها مناسبة ما بالبحث أو ببعض مسائله ما يجعل النفوس تستروح لقراءتها من غير إكثار؛ فالإكثار منها يشغل عن إداراك مقاصد البحث، وإخلاء البحث منها غير سديد.
8. ينبغي أن تظهر شخصية الباحث ولغته العلمية في كتابته وتحريره، وأن لا يكون عمله مقتصراً على مجرّد الجمع والتلخيص؛ بل ينبغي أن يحسن التعبير عن الأقوال، ويبيّنها بما يوضّح المراد بها، ويزيل الإشكالات.
9. من أحسن ما يعين الباحث على إجادة التحرير العلمي مداومة الاطلاع على الرسائل التفسيرية المحررة، ومحاولة محاكاتها، وأن يعرض ما يكتبه من الرسائل على عالم بالتفسير ليقوّم له بحثه وينبهه على ما أخطأ فيه، ويرشده إلى ما يحسن الأخذ به.
المرحلة السابعة: المراجعة والتهذيب وتحسن العرض.
- المرحلة الأخيرة من البحث هي مرحلة المراجعة والتهذيب وتحسين عرض البحث.
- هذه المرحلة مهمّة جداً، وفيها تتجنّب عدد من الأخطاء، وينتبّه لبعض النواقص، فيسعى الباحث إلى تصحيح الخطأ، وسد الخلل، وتتميم النقص، وتجويد العبارة، وتحسين الأسلوب، وطريقة عرض المادّة العلمية.
- من أهمّ ما ينبغي في هذه المرحلة أن يحرص الباحث على استيفاء البحث لأركانه وأصوله، والتزام الباحث بقواعد الاستدلال، وانضباط منهجه العلمي؛ فإذا رأى قولاً فاته تحرير صحة نسبته، أو فاته عزوه لقائله، أو رأى خللا في طريقة عرض الأحاديث والآثار، حرص على تصحيح ما يلزم من ذلك.
- ومن المهمّ في هذه المرحلة أن يعتني الباحث بعلامات الترقيم، وحسن تقسيم فقرات البحث، ومسائله، وسلامة كتابته من الأخطاء الإملائية والنحوية واللغوية.