
27-05-2024, 02:29 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,863
الدولة :
|
|
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 276)
من صــ 341 الى صـ 355
وأنتم لا تقولون بهذا الظاهر، بل تكفرون قائله، كما يكفر المسلمون من يقول بالظاهر الذي هو التجسيم والتمثيل.
وهذا ما يتضمن أن كلام المسيح ظاهر في إثبات ثلاثة آلهة، وثلاثة أشخاص مؤلفة، وثلاثة أجزاء متفرقة، وثلاثة أشخاص مركبة.
كما زعمتم أن ظاهر القرآن التجسيم، وأنكم عدلتم عن هذا الظاهر إلى إثبات الأقانيم الثلاثة التي جعلتم فيها كلمة الله هي ابنه، وهو جوهر خالق يساويه في الجوهر، وأن المسيح هو هذا الابن المساوي للأب في الجوهر خالق العالمين، وديان يوم الدين والجالس فوق العرش عن يمين الرب، وأنه إله حق من إله حق، والروح أيضا إله ثالث، والآلهة الثلاثة إله واحد.
وهذا الذي ذكرتموه فيه من عيب المسيح وذمه ما ينتصر الله به للمسيح، وممن افترى عليه منكم ومن غيركم.
فإن المسيح - عليه السلام - على قولكم - لم يفصح لكم بأمانة تعتقدونها، ولا بتوحيد تعرفون به ربكم - عز وجل -، بل تكلم بما ظاهره إثبات ثلاثة آلهة، وثلاثة أجسام مركبة، وثلاثة أجزاء متفرقة، وأنكم أنتم أصلحتم ذلك حتى جعلتموه ثلاثة أقانيم، ووضعتم تلك الأمانة المخالفة لعقول ذوي العقول، ولكل كتاب جاء به رسول، مع أن المسيح لم ينطق بتثليث قط، ولا باتحاد، ولا بما يدل على ذلك.
وعمدتم على ما نقله " متى " عنه دون الثلاثة أنه قال: (عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس).
وهذا الكلام ظاهر، بل نصه حجة على خلاف قولكم، وأنه أراد بالابن نفسه، وهو الناسوت، ولم يرد به صفة الله، وأراد بروح القدس ما أيده الله به، أو روح القدس الذي نفخ في أمه حتى حبلت به، لم يرد به صفة الله - تعالى -.
فتأولتم كلامه على خلاف ظاهره، تأويلا يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول، فكيف تدعون أنكم تمسكتم بظاهر كلامه؟
ولما كان قول النصارى في التثليث متناقضا في نفسه لا حقيقة له، صار مجرد تصوره التام كافيا في العلم بفساده من غير احتياج إلى دليل، وإن كانت الأدلة تظهر بفساده.
ولهذا سلك طائفة من العلماء في الكلام معهم هذا المسلك، وهو أن مجرد تصور مذهبهم كاف في العلم بفساده، فإنه غير معقول.
وقالوا: إن النصارى ناقضت في اللفظ وأحالت في المعنى، فلا يجوز أن يعتقد ما يدعون انتحاله لتناقضه.
وذلك أنهم يزعمون أن الثلاثة واحد، والواحد ثلاثة، وهذا لا يصح اعتقاده ; لأنه لا يجوز أن يعتقد المعتقد في شيء أنه ثلاثة، مع اعتقاده فيه أنه واحد ; لأن ذلك متضاد.
وإذا كان ذلك كذلك، فليس يخلو من أن يعتقد أنه ثلاثة، أو أنه واحد.
وليس يحتاج أن يعرف بدليل بطلان قول من ادعى أن الواحد ثلاثة، وأن الثلاثة واحد ; لأن ذلك لا يعقل.
وهو كمن ادعى في الشيء أنه موجود معدوم، أو قديم محدث، أو في الجسم أنه قائم قاعد، متحرك ساكن.
وإذا كان كذلك، فتناقضه أظهر من أن يحتاج فيه إلى دلالة.
وإذا قال النصارى: إنه أحدي الذات ثلاثي الصفات.
قيل: لو اقتصرتم على قولكم: إنه واحد له صفات متعددة، لم ينكر ذلك عليكم جمهور المسلمين، بل ينكرون تخصيص الصفات بثلاث، فإن هذا باطل من وجوه متعددة:منها: أن الأب عندكم هو الجوهر ليس هو صفة، فلا يكون له صفة إلا الحياة والعلم، فيكون جوهرا واحدا له أقنومان، وأنتم جعلتم ثلاثة أقانيم.
ومنها: أن صفات الرب لا تنحصر في العلم والحياة، بل هو موصوف بالقدرة وغيرها.
ومنها: أنكم تارة تفسرون روح القدس بالحياة، وتارة بالقدرة، وتارة بالوجود.
وتفسرون الكلمة تارة بالعلم، وتارة بالحكمة، وتارة بالكلام.
فبطلان قولكم في إثبات ثلاث صفات، كثير وأنتم مع هذا تجعلون كل واحدة منها إلها. فتجعلون الحياة إلها، والعلم إلها، وهذا باطل.
وأما من لم يثبت الصفات من المسلمين وغيرهم، فيردون عليكم من وجوه أخرى كقول بعضهم: إذا قيل: ألستم تقولون: إن الأبعاض
الكثيرة تكون إنسانا واحدا، والآحاد الكثيرة عشرة واحدة، والأجسام الكثيرة دارا واحدة ومدينة واحدة، وما جرى هذا المجرى مما هو أكثر من أن يحصى، وأظهر من أن يخفى.
فكيف عبتم ذلك من النصارى؟ ولم أنكرتم أن يكون ثلاثة أقانيم جوهرا واحدا؟
قيل: إن قولنا: إنسان واحد، ودار واحدة، وعشرة واحدة، وما يجري هذا المجرى، أسماء تنبئ عن الجمل لا عن آحاد.
وإذا قلنا: إنسان واحد، فكأنا قلنا: جملة واحدة، وكذلك إذا قلنا: عشرة واحدة، لا أنا نثبته واحدا في الحقيقة.
كيف ونحن نقول: إن أبعاض الإنسان متغايرة، فكل بعض منها غير سائرها، وكذلك كل واحد من العشرة غير سائرها؟
فنحن وإن قلنا: إنسان واحد، فلسنا نثبته شيئا واحدا في نفسه، ولو أثبتنا ذلك، لتناقضنا مناقضة النصارى، وإنما قلنا: هي جملة واحدة، ولو قالت النصارى مثل ذلك، لم تتناقض، حتى يزعموا أنها ثلاثة أشياء جملة واحدة.
فيكون مرادهم في ذلك بوصفهم الأقانيم الثلاثة، بأنها جوهر واحد مما نريد بقولنا: الأبعاض الكثيرة - أنه إنسان واحد.
فيكون وصفهم لها بأنها جوهر، إنما ينبئ أنها جملة، وليس هذا مما يذهبون إليه، ولا يعتقدونه ولا يجعلون له معنى ; لأنهم لا يعطون
حقيقة التثليث، فيثبتون الأقانيم الثلاثة متغايرة، ولا حقيقة التوحيد، فيثبتون القديم واحدا ليس باثنين ولا أكثر من ذلك.
وإذا كان ذلك كذلك، فما قالوه هو شيء لا يعقل، ولا يصلح اعتقاده، ويمكن أن يعارضوا على قولهم بكل حال.
فيقال لهم: إذا جاز عندكم أن تكون ثلاثة أقانيم جوهرا واحدا، فلم لا يجوز أن تكون ثلاثة آلهة جوهرا واحدا، وثلاثة فاعلين جوهرا واحدا، وثلاثة أغيار جوهرا واحدا، وثلاثة أشياء جوهرا واحدا، وثلاثة قادرين جوهرا واحدا، وكل ثلاثة أشياء جوهرا واحدا، وكل ما يجري هذا المجرى من المعارضة؟ فلا يجدون فصلا.
الوجه الحادي عشر: أن غلاة المجسمة الذين يكفرهم المسلمون أحسن حالا منكم شرعا وعقلا، وهم أقل مخالفة للشرع والعقل منكم.
فإذا كان هؤلاء خيرا منكم، فكيف تشبهون أنفسكم بمن هو خير من هؤلاء من أهل السنة من المسلمين الذين لا يقولون لا بتمثيل ولا بتعطيل.
وبيان ذلك أن التوراة والإنجيل وسائر كتب الله، وغير ذلك مما هو مأثور عن الأنبياء فيه نصوص كثيرة صريحة ظاهرة واضحة في وحدانية الله، وأنه لا إله غيره، وهو مسمى فيها بالأسماء الحسنى، موصوف بالصفات العلى، وأن كل ما سواه مخلوق له، ليس فيه
تثليث ولا اتحاد الخالق بشيء من المخلوقات، لا المسيح ولا غيره.
وفيها ألفاظ قليلة مشكلة متشابهة، وهي - مع ذلك - لا تدل على ما ذكرتموه من التثليث والاتحاد، لا نصا ولا ظاهرا، ولكن بعضها يحتمل بعض ما قلتم، وليس فيها شيء يحتمل جميع ما قلتم، فضلا عن أن يكون ظاهرا فيه أو نصا، بل بعضها يحتمل بعض قولكم.
فأخذتم ذلك المحتمل وضممتم إليه من الكفر الصريح والتناقض القبيح ما صيرتموه أمانة لكم ; (أي عقيدة إيمان لكم).
ولو كانت كلها تحتمل جميع ما قلتم، لم يجز العدول عن النص والظاهر إلى المحتمل، ولو كان بعضها ظاهرا فيما قلتم، لم يجز العدول عن النصوص الصريحة إلى الظاهر المحتمل.
ولو قدر أن فيها نصوصا صريحة قد عارضتها نصوص أخرى صريحة، لكان الواجب أن ينظروا بنور الله الذي أيد به عباده المؤمنين، فيتبعون أحسن ما أنزل الله، وهو المعنى الذي يوافق صريح المعقول وسائر كتب الله، وذلك النص الآخر إن فهموا تفسيره، وإلا فوضوا معناه إلى الله - تعالى - إن كان ثابتا عن الأنبياء.
وهؤلاء عدلوا عما يعلم بصريح المعقول، وعما يعلم بنصوص الأنبياء الكثيرة، إلى ما يحتمله بعض الألفاظ لموافقته لهواهم، فلم يتبعوا: {إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم: 23]
وأما كفار المجسمة، فهؤلاء أعذر وأقل كفرا من النصارى، فإن هؤلاء يقولون كما يقوله معهم النفاة: إن ظواهر جميع الكتب هو التجسيم.
ففي التوراة والقرآن من الآيات التي ظاهرها التجسيم ما لا يحصى.
وليس فيها نص بما يقوله النفاة من أن الله ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا هو فوق العرش، ولا يشار إليه، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، ولا يقرب منه شيء، ولا يدنو من شيء، ولا يدنو إليه شيء، إلى نحو ذلك من النفي الذي يقوله نفاة الصفات.
فمعلوم أنه ليس في الكتب الإلهية لا التوراة ولا الإنجيل ولا الزبور ولا القرآن ولا غير ذلك من النبوات - من هذا حرف واحد، وكلها مملوءة مما يقول هؤلاء: إنه تجسيم.
فيقول هؤلاء: نحن اتبعنا نصوص الأنبياء، ولم نعدل عنها إلى غيرها، ولم نجد في نصوصهم نصا محكما صريحا بالنفي الذي يقوله نفاة الصفات.
ووجدنا نصوصهم كلها بالإثبات الذي يقولون: إنه تجسيم.
فكان على قولنا وقولهم نصوص الأنبياء ظاهرة في التجسيم، وليس لهم نص يناقض ذلك، فاتبعنا نصوصهم، وكل من عارض إثبات الصفات، لم يعارضها بنصوص صريحة عن الأنبياء، لكن بحجج عقلية.
فيقول هؤلاء: إن النصارى خالفوا صريح المعقول، وصريح كلام الأنبياء، واتبعوا قليلا من متشابه كلامهم، ونحن اتبعنا نصوص الأنبياء، ولم نخالف شيئا من صريح نصوصهم، ولكن مخالفنا يقول: إنا خالفنا العقل.
ونحن ننازعه في ذلك، وندعي أن العقل معنا لا علينا، وأن ما يدعيه من المعقولات التي تعارض كلام الأنبياء فهي باطلة.
أو يقولون: نحن والنصارى متفقون على أنا لا نعارض كلام الأنبياء بالشبه العقلية، لكن نحن اتبعنا كلامهم المحكم الظاهر الكثير، الذين لا مخالف له من كلامهم.
وهم خالفوا كلامهم الكثير المحكم، واتبعوا قليلا من المتشابه.
ويقول الغلاة من هؤلاء الذين يكفرهم أئمة المسلمين وجمهورهم الذي يحكي عنهم: أن الله ينزل إلى الأرض عشية عرفة، فيعانق المشاة ويصافح الركبان، وأنه يتمشى في الأرض، يكون موطئ أقدامه مروجا، ونحو ذلك.
ليس هذا القول بأعجب من قول النصارى الذين يقولون: إنه هو المسيح، وأن اللاهوت والناسوت اتحدا.
فنحن نقول أيضا: إنه حل في بعض الأجساد المخلوقة، كما يقوله النصارى.
أو نقول: إنه تجسد كما تتجسد الملائكة والجن، وهذا أقرب من قول النصارى: إنه اتحد بجسم المسيح.
فإنا قد عهدنا اللطائف من الملائكة تتصور في صورة بشرية، ولم نعهد ملكا صار هو والبشر شيئا واحدا.
فإذا لم يجز أن يتحد الملك بالبشر، فكيف يجوز أن يتحد رب الخلائق كلهم بالبشر؟
قالوا: وقد يحل الجني في بدن الإنسي ويتكلم على لسانه، إلا أنهما جوهران ومشيئتان وطبيعتان، ليس بينهما اتحاد، لكنه دخل فيه وتكلم على لسانه.
والنصارى يقولون: إن رب العالمين اتحد بالبشر، فمنهم من يقول: جوهر واحد، ومنهم من يقول: شخص واحد وأقنوم واحد، ومنهم من يقول: مشيئة واحدة، فلابد لكل منهم من نوع اتحاد، وهذا أبعد من حلول الجني في الإنسي، فإذا كان ما يقولونه ممتنعا في الجن والملائكة، فكيف برب العالمين؟
ومن غلاة المجسمة اليهود، من يحكىعنه أنه قال: (إن الله بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة، وأنه ندم حتى عض يده وجرى منه الدم)، وهذا كفر واضح صريح، ولكن يقولون: قولنا خير من قول النصارى، فإن النصارى يقولون: (إنه أخذ وضرب بالسياط وبصق في وجهه، ووضع الشوك على رأسه كالتاج، وصلب بين لصين، وفعل به من أقبح ما يفعل باللصوص قطاع الطرق.
وقد صرح كثير منهم بأن هذا فعل باللاهوت والناسوت جميعا.
وشريعة إيمانهم تدل على ذلك، وهو لازم لمن أنكر ذلك منهم، فإنه مع القول بالاتحاد الذي لا بد لطوائفهم الثلاثة منه، يمتنع أن تحل هذه العقوبات في هذا دون ذاك، فلا يمكن أن يحل في الناسوت دون اللاهوت، فإن هذا إنما يتصور إذا كان اثنين، ومن قال بالاتحاد، امتنع عنده أن يكون هناك اثنان.
وفي الجملة، فالنصارى المثلثة، إما أن يصرحوا بالاتحاد من كل وجه كاليعقوبية، وهؤلاء يصرحون بأن الآلآم حلت باللاهوت.
وإما أن يقولوا بالاتحاد من وجه كقول الملكية: إنهما شخص
واحد، وقول النسطورية: هما مشيئة واحدة.
وحينئذ فما قالوه من التعدد الذي يوجب المباينة، وأنه لا يتصف أحدهما بما يتصف به الآخر، ولا يحل به ما حل به، فيكون متناقضا لهذا.
فأحسن أحوالهم أن يتناقضوا في الاتحاد، كما تناقضوا في التثليث، وهذا حقيقة قول خيار هؤلاء يتكلمون بالكفر وبما يناقضه، وبالتوحيد وبما يناقضه.
ومعلوم أن ما يفعله بنفسه من ندم وبكاء وحزن، هو دون ما يفعله أعداؤه به من ضرب وصفع وجعل الشوك على رأسه، وصلبه بين لصين، وأن استغاثته بمن يخلصه من ذلك أشد نقصا من ندمه وحزنه.
وإن قالوا: فعل هذا حتى يعلم عباده التشبه به - أمكن أولئك المجسمة الكفرة أن يقولوا: بكى وندم وعض يده ندما حتى جرى الدم، حتى يعلم عباده التوبة من الذنوب.
ففي الجملة، ما قال قوم من أهل الملل قولا في الله، إلا وقول النصارى أقبح منه.
ولهذا، كان معاذ بن جبل - رضي الله عنه - يقول: لا ترحموهم، فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر، ولهذا يعظم الله فريتهم على الله في القرآن أشد من تعظيم افتراء غيرهم كقوله: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا - لقد جئتم شيئا إدا - تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا - أن دعوا للرحمن ولدا - وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا - إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا - لقد أحصاهم وعدهم عدا - وكلهم آتيه يوم القيامة فردا} [مريم: 88 - 95].
وفي الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ("يقول الله - عز وجل - كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، فأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته").
ورواه البخاري عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ("قال الله - عز وجل -: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي، فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة ولا ولدا").
وفي الصحيحين عن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ("ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله - عز وجل - إنه يشرك به ويجعل له ند وهو يعافيهم ويرزقهم ويدفع عنهم".)
الوجه الثاني عشر: أن كل من يعتقد في التجسيم ما يعتقد، يمكنه أن يقول كما يقوله النصارى، فإن النصارى عمدوا إلى ما هو جسد من جنس سائر أجساد بني آدم، قالوا: إنه إله تام وإنسان تام، وليس فيه من الإلهية شيء، فما بقي مع هذا يمتنع أن يعتقد في نظائره ما يعتقد فيه.
فلو قال القائل: إن موسى بن عمران كان هو الله، لم يكن هذا أبعد من قول النصارى، فإن معجزات موسى كانت أعظم وانتصاره على عدوه أظهر، وقد سماه الله في التوراة إلها لهارون ولفرعون.
فإذا قيل فيه ما قالوه في المسيح: إنه أظهر المعجز بلاهوته، وأظهر العبودية بناسوته، لم يكن بطلان هذا أظهر من بطلان قول النصارى، بل متى جوزوا اتحاد اللاهوت بالناسوت، لم يمكنهم دفع ذلك عن أحد ممن يدعى فيه إلا بدليل خاص، بل إذا قيل لهم حل في كثير من الأنبياء والقداديس، لم يمكنهم نفي ذلك.
وإذا قالوا: لم يخبر بذلك أحد، ولم يبشر به نبي، أو هذا غير معلوم.
قيل لهم: غاية هذا كله، أنكم لا تعلمون ذلك، ولم يقم عندكم دليل عليه، وعدم العلم ليس علما بالعدم، فعدم علمكم وعدم علم غيركم بالشيء، ليس علما بعدم ذلك الشيء.
وكذلك عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول عليه، فإن كل ما خلقه الله دليل عليه، ثم إذا عدم ذلك لم يلزم عدم الخالق، فلا يجوز نفي الشيء لعدم الدليل الدال عليه، إلا أن يكون عدم الدليل مستلزما لعدمه، كالأمور التي تتوفر الهمم على نقلها، إذا لم ينقل علم انتفاؤها.
والمقصود أنكم - مع العدم - يمكنكم النفي العام عن غير المسيح لعدم الدليل الدال عليه، فإنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول في نفس الأمر، لا سيما وهو كان متحدا بالمسيح عندهم أكثر من ثلاثين سنة، ومع هذا فكان يخفي نفسه ولا يظهر إلا العبودية.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|