عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 20-05-2024, 12:01 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,500
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (560)
سُورَةُ الْقَلَمِ
صـ 237 إلى صـ 244


قوله تعالى : وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور .

فيه دلالة على أن السر والجهر عند الله وفي علم الله على حد سواء ; لأنه عليم بذات الصدور يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .

وقوله تعالى : سواء منكم من أسر القول ومن جهر به [ 13 \ 10 ] .

وقوله : وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى [ 20 \ 7 ] .

وتقدم للشيخ عند كل من الآيتين بيان هذه الآية .

[ ص: 237 ] وقد تقدم قوله تعالى : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله الآية [ 58 \ 1 ] .

وقوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه [ 50 \ 16 ] .

وتقدم في سورة " التحريم " قبل هذه السورة مباشرة قوله تعالى : وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه الآية [ 66 \ 3 ] ، ففيه بيان عملي مشاهد بأنه تعالى يعلم السر وأخفى ، ولذا قال تعالى هنا :
ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير .

كما قال في سورة " التحريم " : قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير [ 66 \ 3 ] .

وقال القرطبي نقلا عن أبي إسحاق الإسفرائيني : من أسماء صفات الذات ما هو للعلم منها العليم ، ومعناه تفهيم جميع المعلومات ، ومنها : الخبير ، ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون ، ومنها : الحكيم ويختص بأنه يعلم دقائق الأوصاف ، ومنها : الشهيد ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر ، ومعناه ألا يغيب عنه شيء . ومنها : الحافظ ويختص بأنه لا ينسى ، ومنها : المحصي ويختص بأنه لا تشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النهار واشتداد الريح وتساقط الأوراق ، فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة ، وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق وقد قال : ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ، ( ومن ) في قوله تعالى : ألا يعلم من خلق ، أجازوا فيها أن تكون فاعل ( يعلم ) ، وهو الله تعالى ، أي : إن الذي خلق يعلم ما خلق ومنه ما في الصدور .

وأجازوا أن تكون مفعولا والفاعل ضمير مستتر في الفعل ( يعلم ) ، ذكرهما القرطبي وأبو حيان ، وهو واضح ومحتمل .

ولكن الذي تشهد له النصوص أنها مفعول كما في قوله : إنه بكل شيء عليم [ 42 \ 12 ] : يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور [ 40 \ 19 ] .

وقوله : والله خلقكم وما تعملون [ 37 \ 96 ] ، ومن أعمالهم ما يسرون ، وما يجهرون . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور .

[ ص: 238 ] الذلول فعول بمعنى مفعول ، وهو مبالغة في الذل .

تقول : دابة ذلول بينة الذل ، وقيل في معنى تذليل الأرض عدة أقوال لا تنافي بينها ، ومجموعها دائر على تمكين الانتفاع منها عن تسهيل الاستقرار عليها وتثبيتها بالجبال ، كقوله تعالى : والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 32 - 33 ] .

ومن إمكان الزرع فيها كقوله : فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا [ 80 \ 27 - 28 ] إلى قوله أيضا : متاعا لكم ولأنعامكم [ 80 \ 32 ] ، وقد جمع أكثرها في قوله تعالى : ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء ‎وأمواتا وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا [ 77 \ 25 - 27 ] .

وكنت أسمع الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - يقول في هذه الآية : إنها من تسخير الله تعالى للأرض أن جعلها كفاتا للإنسان في حياته بتسهيل معيشته منها وحياته على ظهرها ، فإذا مات كانت له أيضا كفاتا بدفنه فيها .

ويقول : لو شاء الله لجعلها حديدا ، ونحاسا فلا يستطيع الإنسان أن يحرث فيها ، ولا يحفر ولا يبني ، وإذا مات لا يجد مدفنا فيها .

ومما يشير إلى هذه المعاني كلها قوله تعالى : فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه [ 67 \ 15 ] ; لترتبه على ما قبله بالفاء ، أي : بسبب تذليلها بتيسير المشي في أرجائها ، وطلب الرزق في أنحائها بالتسبب فيها من زراعة وصناعة وتجارة إلخ .

والأمر في قوله تعالى : فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه للإباحة ، ولكن التقديم لهذا الأمر بقوله تعالى : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فيه امتنان من الله تعالى على خلقه مما يشعر أن في هذا الأمر مع الإباحة توجيها وحثا للأمة على السعي والعمل والجد ، والمشي في مناكب الأرض من كل جانب ; لتسخيرها وتذليلها ، مما يجعل الأمة أحق بها من غيرها .

كما قال تعالى : ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره [ 22 \ 65 ] .

[ ص: 239 ] وفي قوله : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ 45 \ 13 ] ، وغير ذلك من الآيات .

ومن رأى هذا التسخير اعترف لله بالفضل والقيام لله بالحمد ، وتقديم الشكر كما قال تعالى : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون [ 22 \ 36 ] .

وقوله : والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون [ 43 \ 12 - 14 ] .

أي : مع شكر النعمة الاتعاظ والعبرة والاستدلال على كمال القدرة .

ومنها المعاد والمنقلب إلى الله تعالى ، فقوله : وإليه النشور بعد المشي في مناكب الأرض ، وتطلب الرزق وما يتضمن من النظر والتأمل في مسببات الأسباب وتسخير الله لها ، كقوله تعالى : وإنا إلى ربنا لمنقلبون بعد ذكر : خلق الأزواج كلها أي : الأصناف ، وتسخير الفلك ، والأنعام ، والبحر والبر فيه ضمنا إثبات القدرة على البعث ، فيكون المشي في مناكب الأرض ، واستخدام مناكبها ، واستغلال ثرواتها والانتفاع من خيراتها لا لطلب الرزق وحده ، وإلا لكان يمكن سوقه إليهم ، ولكن للأخذ بالأسباب أولا ، وللنظر في المسببات والعبرة بالمخلوقات والتزود لما بعد الممات ، كما في آية " الجمعة " : فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ 62 \ 10 ] .

أي : عند مشاهدة آيات قدرته وعظيم امتنانه .

وعليه ، فقد وضع القرآن الأمة الإسلامية في أعز مواضع الغنى ، والاستغناء والاستثمار والإنتاج ، فما نقص عليها من أمور دنياها إلا بقدر ما قصرت هي في القيام بهذا العمل وأضاعت من حقها في هذا الوجود .

وقد قال النووي في مقدمة المجموع : إن على الأمة الإسلامية أن تعمل على استثمار [ ص: 240 ] وإنتاج كل حاجياتها حتى الإبرة ; لتستغني عن غيرها ، وإلا احتاجت إلى الغير بقدر ما قصرت في الإنتاج ، وهذا هو واقع العالم اليوم ، إذ القدرة الإنتاجية هي المتحكمة وذات السيادة الدولية .

وقد أعطى الله العالم الإسلامي الأولوية في هذا كله ، فعليهم أن يحتلوا مكانهم ، ويحافظوا على مكانتهم ، ويشيدوا كيانهم بالدين والدنيا معا . وبالله التوفيق .
قوله تعالى : ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور .

ذكر أبو حيان في قراءة : ءأمنتم عدة قراءات من تحقيق الهمزتين ، ومن تسهيل الثانية ومن إدخال ألف بينهما وغير ذلك ، والخسف ذهابها سفلا ، كما خسف بقارون ، والمور الحركة المضطربة أو الحركة بسرعة ، وقد ثبتها تعالى بالجبال أوتادا كما قال : والجبال أرساها متاعا لكم [ 79 \ 32 - 33 ] و ( من في السماء ) . قال ابن جرير : هو الله تعالى . اهـ .

وعزاه القرطبي لابن عباس ، ويشهد لما قاله : ما جاء بعده من خسف الأرض وإرسال الحاصب ، فإنه لا يقدر عليه إلا الله ، كما أنه ظاهر النص ، وبهذا يرد على الكسائي فيما ذهب إليه ومن تبعه عليه كأبي حيان ، إذا قالوا : إنه على تقدير محذوف من قبيل المجاز ، ومجازه عندهم أن ملكوته في السماء أي : على حذف مضاف ، وملكوته في كل شيء ، ولكن خص السماء بالذكر ; لأنها مسكن ملائكته ، وثم عزته وكرسيه واللوح المحفوظ ، ومنها تتنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونهيه ، إلخ .

وقيل : هو جبريل ; لأنه الموكل بالخسف ، وقيل : إنه مجاراة لهم في معتقدهم بأن الله في السماء ، وهذه الأقوال مبناها على نفي صفة العلو لله تعالى ، وفرارا من التشبيه في نظرهم ، ولكن ما عليه السلف خلاف ما ذهبوا إليه ، ومعتقد السلف هو طبق ما قاله ابن جرير لحديث الجارية : " أين الله ؟ " قالت : في السماء ، قال : اعتقها ; فإنها مؤمنة " ، ولعدة آيات في هذا المعنى .

وقد بحث الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - هذا المبحث بأوسع وأوضح ما يمكن مما لم يدع لبسا ، ولا يترك شبهة ، ولا يستغني عنه مسلم عالما كان أو متعلما ، فالعالم يأخذ منه منهج التعليم السليم وأسلوب البيان الحكيم ، والمتعلم يأخذ منه ما يجب عليه من [ ص: 241 ] معتقد قويم واضح جلي سليم .

وقد يقال : إن معنى ( في ) هو الظرفية ، فنجعل السماء ظرفا لله تعالى ، وهذا يقتضي التشبيه بالمتحيز .

فيقال : إنه سبحانه منزه عن الظرفية بالمعنى المعروف والمنصوص في حق المخلوق .

وقد دلت النصوص من السنة على نفي ذلك عنه تعالى واستحالته عقلا عليه سبحانه في حديث : " ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة أو دراهم في ترس ، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في فلاة ، وما العرش في كف الرحمن إلا كحبة خردل في كف أحدكم " فانتفت ظرفية السماء له سبحانه على المعروف لنا ; ولأنه سبحانه مستو على عرشه .

وفيما قدمه الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في هذا المبحث شفاء وغناء ، ولله الحمد والمنة . قال القرطبي : ( إن في السماء ) بمعنى فوق السماء كقوله : فسيحوا في الأرض [ 9 \ 2 ] أي : فوقها لا بالمماسة والتحيز .

وقيل : ( في ) : بمعنى على كقوله : ولأصلبنكم في جذوع النخل [ 20 \ 71 ] أي : عليها إلى أن قال : والأخبار في هذا الباب كثيرة صحيحة منتشرة مشيرة إلى العلو ، لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل أو معاند ، والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت ووصفه بالعلو . اهـ .

وهذا الذي ذكره هو عين مذهب السلف ، وقد ذكر كلاما آخره فيه التأويل وفيه التنزيه .
قوله تعالى : أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير .

الطير صافات : أي : مادات أجنحتها ( ويقبضن ) : أي : يضمنها إلى أجسامها .

قال أبو حيان : عطف بالفعل ويقبضن على الاسم ، صافات ، ولم يعطف باسم قابضات ; لأن الأصل في الطيران هو بسط الجناح ، والقبض طارئ ، وهذا الذي قاله أبو [ ص: 242 ] حيان : جار على القاعدة عندهم من أن الاسم للدوام والثبوت ، والفعل للتجدد والحدوث ، فالحركة الدائمة في الطيران هي صف الجناح ، والجديد عليه هو القبض .

وقوله تعالى : ما يمسكهن إلا الرحمن دليل على قدرته تعالى وآية لخلقه ، كما في قوله تعالى : ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون [ 16 \ 79 ] .

فهي آية على القدرة ، وقد جاء في آيات أخرى أنه تعالى هو الذي يمسك السماوات والأرض بقدرته جل وعلا ، كما في قوله تعالى : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا [ 35 \ 41 ] .

فهو سبحانه ممسكهما بقدرته تعالى عن أن تزولا ، ولو قدر فرضا زوالهما لا يقدر على إمساكهما إلا هو ، وكما في قوله : ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه [ 22 \ 65 ] .

تنبيه

ولعل مما يستدعي الانتباه توجيه النظر إلى الطير في الهواء ( صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن ) ، بعد التخويف بخسف الأرض بأن الأرض معلقة في الهواء كتعلق الطير المشاهد إليكم ما يمسكها إلا الله ، وإيقاع الخسف بها ، كإسقاط الطير من الهواء ; لأن الجميع ما يمسكه إلا الله تعالى ، وهو القادر على الخسف بها ، وعلى إسقاط الطير .
قوله تعالى : أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه .

يقول تعالى للمشركين : من هذا الذي غيره سبحانه يرزقكم ، إن أمسك الله عنكم رزقه .

والجواب : لا أحد يقدر على ذلك ولا يملكه إلا الله .

وقد صرح تعالى بهذا السؤال وجوابه في قوله تعالى : قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله [ 34 \ 24 ] .

أي : لا أحد سواه سبحانه لا إله إلا هو ، قال تعالى : هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون [ ص: 243 ] [ 35 \ 3 ] .

وذلك لأن الذي يقدر على الخلق هو الذي يملك القدرة على الرزق ، كما قال تعالى : قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون [ 10 \ 31 ] .

وكقوله : الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم [ 30 \ 40 ] .

وهذا من كمال القدرة على الإحياء والإماتة والرزق ، وقد بين تعالى أن ذلك لمن بيده مقاليد الأمور سبحانه ، وتدبير شئون الخلق كما في قوله تعالى : له مقاليد السماوات والأرض ، ثم قال : يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم [ 42 \ 12 ] ، أي : يبسط ويقدر ، يعلم لا عن نقص ولا حاجة ، ولكن يعلم بمصالح عباده ، الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز [ 42 \ 19 ] أي : يعاملهم بلطفه وهو قوي على أن يرزق الجميع رزقا واسعا ، وهو العزيز في ملكه ، فهو يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، كما قال تعالى : الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر [ 39 \ 52 ] أي : بمقتضى اللطف والعلم : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها [ 11 \ 6 ] .

ومن هذا كله يرد على أولئك الذين يطلبون عند غيره الرزق ، كما في قوله : ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون [ 16 \ 73 ] .

وقد جمع الأمرين توبيخهم وتوجيههم في قوله تعالى : إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون [ 29 \ 17 ] .

وقد بين تعالى قضية الخلق والرزق والعبادة كلها في قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [ 51 \ 56 - 58 ] .

وقد بين تعالى في الآيات المتقدمة أنه يرزق العباد من السماوات والأرض جملة .

[ ص: 244 ] وبين في آيات أخرى كيفية هذا الرزق تفصيلا مما يعجز الخلق عن فعله ، وذلك في قوله تعالى : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم [ 80 \ 24 - 32 ] .

فجميع أنواع الرزق في ذلك ابتداء من إنزال الماء من السماء ، ثم ينشأ عنه إشقاق الأرض عن النبات بأنواعه حبا وعنبا وزيتونا ونخلا وحدائق وفاكهة ، وكلها للإنسان ، وقضبا وأبا للأنعام ، والأنعام أرزاق أيضا لحما ولبنا ، وجميع ذلك قوامه إنزال الماء من السماء ، ولا يقدر على شيء من ذلك كله إلا الله .

فإذا أمسكه الله عن الخلق لا يقوى مخلوق على إنزاله ، فإذا علم المسلم أن الأرزاق بيد الخلاق ، ومن بيده مقاليد السماوات والأرض لن يتجه برغبة ولا يتوجه بسؤال إلا إلى الله تعالى ، موقنا حق اليقين أنه هو سبحانه هو الرزاق ذو القوة المتين .

وكما قال تعالى : وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون [ 51 \ 22 - 23 ] .

وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها قولها : والله لا يكمل إيمان العبد حتى يكون يقينه بما عند الله أعظم مما بيده .
قوله تعالى : قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين .

تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيانه عند قوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون [ 23 \ 18 ] في سورة " المؤمنون " .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْقَلَمِ

قوله تعالى : ن .

تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور عند الكلام على أول سورة هود : وذكر الأقوال كلها ، وهي خمسة أقوال :

فقيل : إنها مما استأثر الله بعلمه أو أنها من أسماء الله ، أو مركبة من عدة حروف كل حرف من اسم ، أو أسماء للسور ، أو أنها للإعجاز ، وبين - رحمه الله - وجه كل قول منها ، ورجح الأخير ، وأنها للإعجاز بدليل أنه يأتي بعدها دائما الانتصار للقرآن ، وقد بسط البحث بما يكفي ويشفي .

وقال ابن كثير بأقوال أخرى ، منها أن : ن بمعنى الدواة أي : بمناسبة ذكر القلم ، وعزاه إلى الحسن وقتادة ، وقال : إن فيه حديثا مرفوعا ، ولكن غريب جدا ، وهو عن ابن عباس : " إن الله خلق النون وهي الدواة ، وخلق القلم ، فقال : اكتب " ، الحديث .

وعن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " خلق الله النون وهي الدواة " .

وذكر ابن جرير كل هذه الأوجه وزاد أوجها أخرى : منها أنها افتتاحيات لأوائل السور تسترعي انتباه المستمعين ، ثم يتلى عليهم ما بعدها ، وقيل : هي من حساب الجمل وغير ذلك .

وقد ذكر ابن جرير عند أول " سورة الشورى " : حم عسق [ 42 \ 1 - 2 ] أثرا نقله عنه ابن كثير واستغربه واستنكره ، ولكن وقع ما يقرب من مصداقه ومطابقته مطابقة تامة .

ونصه من ابن جرير قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال له وعنده حذيفة بن اليمان : أخبرني عن تفسير قول الله : حم عسق قال : فأطرق ثم أعرض عنه ، ثم كرر مقالته فأعرض فلم يجبه بشيء ، وكره مقالته ، ثم كررها الثالثة فلم يجبه شيئا .

[ ص: 246 ] فقال له حذيفة : أنا أنبئك بها ، وقد عرفت بم كرهها ، نزلت في رجل من أهل بيته يقال له : عبد الإله أو عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق تنبني عليه مدينتان فشق النهر بينهما شقا ، فإذا أذن الله في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدنهم ، بعث الله على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت ، كأنها لم تكن مكانها ، وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت ، فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم ، ثم يخسف الله بها وبهم جميعا ، فذلك قوله : حم عسق يعني عزيمة من الله ، وفتنة ، وقضاء .

حم عسق يعني عدلا منه : سين يعني سيكون و ق يعني واقع بهاتين المدينتين . اهـ .

ومع استغراب ابن كثير إياه واستنكاره له ، فقد وقع مثل ما يشير إليه الحديث على ثورة العراق على عبد الإله في بغداد ، حيث يشقها النهر شقين ، وأنه من آل البيت ، وقد وقع بها ما جاء وصفه في الأثر المذكور .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.43 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 35.80 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.72%)]