شرح سنن أبي داود
(عبد المحسن العباد)
كتاب الصلاة
شرح سنن أبي داود [100]
الحلقة (131)
شرح سنن أبي داود [100]
للصلاة آداب وسنن تجعل منها موضوع خشوع من العبد واستكانة منه لربه جل وعلا، وتعينه على خشوعه في صلاته وانشغاله بها، ومن هذه السنن أدعية الاستفتاح الواردة بعد تكبيرة الإحرام، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم جملة منها فيها ثناء على الله تبارك وتعالى وتعظيم وتمجيد لله تعالى، وسؤاله واستغفاره، وكلها حق وخير، وللمرء أن يتخير منها في صلاته ما شاء.
ما يستفتح به الصلاة من الدعاء
قال المصنف رحمه الله تعالى: ( باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء )
المقصود بهذه الترجمة هو أن الإنسان يأتي بدعاء الاستفتاح، وهو الدعاء الذي تستفتح به الصلاة بعدما يدخل الإنسان فيها بقوله: (الله أكبر) فإنه يأتي بهذا الثناء والذكر والدعاء بأي صيغة ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتي بذلك بعد التكبير وقبل القراءة، وقد جاء دعاء الاستفتاح بصيغ متعددة كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ما ثبت منها فإنه حق أن يؤتى به في الصلاة، ومن العلماء من قال: إنه ينبغي أن يؤتى بتلك الصيغ وأن يمر عليها وأن يأتي بهذا تارة وبهذا تارة وبهذا تارة. وبعض أهل العلم يختار صيغة معينة من هذه الصيغ، ومن المعلوم أن هذه الصيغ منها ما يكون دعاء وطلباً من الله سبحانه وتعالى، ومنها ما يكون ذكراً وثناءً على الله عز وجل. فقوله: [ ما تستفتح به الصلاة من الدعاء ] يعني به ذكر الأدعية والأذكار التي تستفتح بها الصلاة، والتي يأتي بها الإنسان بعدما يدخل في الصلاة بتكبيرة الإحرام، فيأتي بنوع من هذه الأنواع، وذكر من هذه الأذكار أو دعاء من هذه الأدعية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أورد أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى عدة أحاديث تشتمل على أدعية من أدعية الاستفتاح، وبدأها بحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه المشتمل على دعاء من أدعية الاستفتاح، وعلى أدعية أخرى في الركوع وفي السجود، وكذلك عند القيام من الركوع، وكذلك بعد الانصراف من الصلاة، فهذا الحديث مشتمل على عدة أمور وعلى عدة أدعية، واشتمل أيضاً على صيغة من صيغ الاستفتاح.
حكم تنويع أدعية الاستفتاح
وقد اختار بعض أهل العلم لفظ: (سبحانك -اللهم- وبحمدك) وبعضهم اختار لفظ (اللهم باعد بيني وبين خطاياي). وبعض أهل العلم يقول: إنه ينبغي أن يؤتى بهذا تارة وبهذا تارة وبهذا تارة. وهذا الاختلاف الذي حصل من بعض العلماء في اختيار بعض الأدعية في الاستفتاح يسمونه اختلاف التنوع؛ لأن هذه الأدعية أنواع من الاستفتاح، وكل ما ثبت حق، وليس هذا من قبيل اختلاف التضاد؛ لأن اختلاف التضاد مثل أن يقول بعض أهل العلم: (هذا حلال) وبعضهم يقول: (هذا حرام) في شيء واحد، أو يقول بعضهم لشيء معين: هذا يبطل الصلاة. والآخر يقول: لا يبطل الصلاة. أو أحد منهم يقول: هذا ينقض الوضوء. والثاني يقول: لا ينقض الوضوء. فهذا يسمى اختلاف التضاد. واختلاف التنوع كله حق، فمادام أنه ثبت فهو حق، فإن أتيت بهذه الصيغة فأنت على حق، وإن أتيت بهذه الصيغة فأنت على حق، وإن أتيت بهذه الصيغة فأنت على حق؛ لأنها كلها أنواع للحق، فمن اختار واحداً منها فإنه أخذ بما هو حق، ومن اختار غيره أخذ بما هو حق، وعلى هذا فمن اختار واحداً من هذه الأدعية يقال عنه: إنه على حق. ولا يقال: إن هذا من اختلاف التضاد. وإنما هو من اختلاف التنوع، ومثل ذلك ألفاظ الأذان وألفاظ التشهد في الصلاة، فإن هذا كله من قبيل اختلاف التنوع، فكل ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يؤتى به، والخلاف في أن يختار بعضهم هذا الدعاء وبعضهم هذا الدعاء وبعضهم هذا الدعاء هو من اختلاف التنوع، وكل منهم مصيب للحق؛ لأن هذه كلها أنواع للحق، ولكن اختلاف التضاد لا يقال فيه: إن كل مجتهد مصيب. وإنما فيه المصيب وفيه المخطئ، وليس كل مجتهد مصيب فيما يتعلق باختلاف التضاد؛ لأنه لا يقال فيمن قال في مسألة معينة: هي حلال ومن قال: هي حرام لا يقال: إن القائل: (هي حلال) على حق والقائل: (هي حرام) على حق. ليس هذا بصحيح، وإنما يقال: الاختلاف في ذلك اختلاف تضاد. وكل مجتهد فيه إما مجتهد مصيب وإما مجتهد مخطئ، والمجتهد المصيب له أجران: أجر على اجتهاده وأجر على إصابته، والمجتهد المخطئ له أجر واحد على اجتهاده، وخطؤه مغفور، فلا يقال: إن كل مجتهد مصيب فيما هو اختلاف تضاد، ولكن يمكن أن يقال في اختلاف التضاد: إن كل مجتهد مصيب باعتبار الأجر. فيقال: كل مجتهد مصيبٌ أجرا، وإن كانوا متفاوتين في الأجر، فالمجتهد المصيب له أجران والمجتهد المخطئ له أجر واحد، ولكن كلٌ مصيبٌ أجرا، ولكن ليس كلٌ يصيب الحق؛ لأن المجتهدين في مسائل اختلاف التضاد يكون الحق مع واحد منهم وغيره يكون قد أخطأ، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (له أجران) و (له أجر واحد) يدل على أن المجتهدين فيهم مصيب وفيهم مخطئ، ولو كان كل مجتهد مصيباً لما كان فيهم مخطئ، ولم يكن لهذا التقسيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى، ولكنه لما قسمهم هذا التقسيم علم بأنه ليس كل مجتهد مصيباً، ولكن يمكن أن يقال: كل مجتهد مصيبٌ أجرا.
شرح حديث علي في استفتاح النبي صلى الله عليه وسلم وأدعيته في الصلاة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن عمه الماجشون بن أبي سلمة عن عبد الرحمن الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله سلم إذا قام إلى الصلاة كبر ثم قال: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمينَ، اللهم أنت الملك لا إله لي إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك. وإذا ركع قال: اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظامي وعصبي. وإذا رفع قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد ملء السموات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد. وإذا سجد قال: اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره فأحسن صورته، وشق سمعه وبصره، وتبارك الله أحسن الخالقين. وإذا سلم من الصلاة قال: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم والمؤخر لا إله إلا أنت) ]. قوله: [ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر ثم قال: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركي ]. معنى قوله: [ إذا كبر ] أي: دخل في الصلاة بقوله: (الله أكبر) وهو التكبير الذي يكون به تحريم الصلاة، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) فإذا دخل فيها بقوله: (الله أكبر) يأتي بدعاء الاستفتاح (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين) هكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا إعلان التوحيد، وإخلاص العبادة لله عز وجل، وأن الإنسان وجه وجهه لله، وأنه مستسلم منقاد لأمر الله، وأنه بريء من الشرك ومن المشركين، ويثني على الله عز وجل بأنه الخالق الذي خلق السموات والأرض وخلق كل شيء بقوله: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً) أي: حال كوني حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، بل مقبل على الله ومعرض عما سواه ومخلص العبادة لله عز وجل، ومبتعد عن أن أجعل لغير الله عز وجل نصيباً من العبادة. فالعبادة يجب أن تكون خالصةً لوجه الله، وأن لا يكون لله عز وجل فيها شريك، فكما أنه لا شريك له في خلق السموات والأرض فكذلك لا شريك له في العبادة، فالمتفرد بالخلق والإيجاد والرزق والأحياء والإماتة هو الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له.
المقصود بالصلاة والنسك والمحيا والممات
قوله في الاستفتاح: [ (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ) ]. الصلاة هي الصلاة ذات الركوع والسجود، وهي أعظم العبادات وأعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، فالصلوات -سواءٌ أكانت مفروضة أم نافلة- كلها لله سبحانه وتعالى، وكذلك النسك، وفسر بأنه الذبح لله عز وجل، وفسر بأنه الحج، وفسر بأنه العبادة، وكونه بمعنى الذبح لله عز وجل يوافق ما جاء في قول الله عز وجل: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] ففيه ذكر الصلاة وذكر النحر الذي هو النسك أو النسيكة والذبيحة لله عز وجل التي تذبح لله عز وجل تقربا. وقوله: [ (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ) ] محيا الإنسان حياته كلها، فهي كلها لله، ويجب أن تكون معمورة تلك الحياة بعبادة الله عز وجل وطاعة الله عز وجل وبما يقرب إلى الله عز وجل، وكذلك ممات الإنسان هو لله؛ لأن الله تعالى هو المتصرف بالكون، وهو الذي يحيي ويميت، وهو الذي يوفق من يوفق للعمل الصالح في هذه الحياة الدنيا للجزاء والثواب عليه في الدار الآخرة؛ لأن الحياة هي محل العمل، والممات محل الجزاء على العمل، إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً، كما قال سبحانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:8]، ويقول سبحانه في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
دلالة قوله ( لله رب العالمين لا شريك له )
قوله: [ (لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ) ]. هذا هو معنى (لا إله إلا الله) كلمة الإخلاص كلمة التوحيد، أي: عبادتي لله عز وجل لا شريك له فيها، فصلاتي ونسكي ومحياي ومماتي وعبادتي كلها لله عز وجل خالصة لا شركة لغير الله عز وجل فيها، فهذا هو معنى كلمة الإخلاص ومعنى كلمة التوحيد، مثل قول القائل: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له) فقوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) نفي وإثبات، وقوله: (وحده لا شريك له) إثبات ونفي مؤكد لـ (أشهد أن لا إله إلا الله) لأن قول: (وحده) بمعنى (إلا الله) وقوله: (لا شريك له) بمعنى (لا إله) فـ (أشهد أن لا إله إلا الله) نفي وإثبات، نفي في الأول وإثبات في الآخر، وقوله (وحده لا شريك له) تأكيد لهذا النفي والإثبات، وهو -أيضاً- نفي وإثبات، ولكن جاء الإثبات مقدماً والنفي مؤخرا، ففي اللفظ المؤكد جاء الإثبات (وحده) مقدماً، وجاء النفي (لا شريك له) مؤخراً. قوله: [ (وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) ]. يعني: أمر بأن تكون صلاته لله وأن تكون عبادته لله عز وجل أمراً شرعياً؛ لأن الله عز وجل خلق الناس للعبادة، فقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] أي: لآمرهم وأنهاهم. فمنهم من وفق للتطبيق والتنفيذ، ومنهم من لم يوفق لذلك.
المقصود بقوله (وأنا أول المسلمين )
وقوله: [ (وأنا أول المسلمين) ]. قيل: إن المراد بذلك بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم أنه أول هذه الأمة التي هي خير الأمم، فهو مقدمها وهو أولها وهو سابقها، وهو الذي أنزل الله عز وجل إليه الوحي والهداية، وأنزل عليه النور الذي به الهداية إلى الصراط المستقيم وإخراج الناس من الظلمات إلى النور. وبالنسبة لغير النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يكون قوله: [ (وأنا أول المسلمين) ] يعني: أنا أول من يبادر ومن أول من يستسلم، وليس معنى ذلك أنه يكون أول من أسلم وأول من دخل في هذا الدين، فإن القدوة والأسوة في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول من استجاب لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق من الرجال و خديجة من النساء و علي بن أبي طالب من الصبيان رضي الله تعالى عنهم، ولكن المسلم عندما يقول هذا الكلام ويقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول: (وأنا أول المسلمين) فمعنى قوله أنه من أول من ينقاد ويستسلم، وليس المراد أن يكون هو الأول حقيقة وأنه لم يسبقه إلى ذلك أحد، وإنما المقصود من ذلك المبادرة والإقدام والاستسلام والانقياد وعدم التأخر وعدم التباطؤ، وقد جاء عن بعض أهل العلم أن غير النبي صلى الله عليه وسلم عندما يأتي بهذا الذكر يقول: (وأنا من المسلمين) بدل قوله: (وأنا أول المسلمين) قالوا: لأنه لا ينطبق على غير الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون كذلك. ولكن ذلك صحيح بالمعنى الذي أشرت إليه وذكره بعض أهل العلم، وهو أن المقصود بالأولية المبادرة والاستسلام والانقياد وعدم التأخر والتباطؤ.
شرح قوله ( أنت الملك لا إله إلا أنت )
قوله: [ (اللهم أنت الملك لا إله لي إلا أنت) ]. أي: أنت ملك الدنيا والآخرة، وقد جاء في سورة الفاتحة (ملك يوم الدين) أو مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] وهو يوم القيامة ويوم الجزاء والحساب، وأضيف اسمه تعالى (الملك) إلى يوم الدين لأن ذلك اليوم هو الذي يظهر فيه الخضوع والذل والاستكانة لله عز وجل. من جميع الخلق حتى من المتكبرين المتجبرين في هذه الدنيا، فإن الكل يومئذٍ يخضع لله عز وجل ويذل لله سبحانه وتعالى، فقال: (ملك يوم الدين) لأنه اليوم الذي يخضع فيه الجميع لرب العالمين، بخلاف الدنيا فإن فيها من يخضع وفيها من يتجبر، بل وجد فيها من قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، ولكن ذلك اليوم هو اليوم الذي يخضع فيه الجميع لرب العالمين، ومثله ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة) مع أنه سيد الناس في الدنيا والآخرة صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن سؤدده يظهر على الناس جميعاً، ويحصل فضله وإحسانه للناس جميعاً من لدن آدم إلى الذين قامت عليهم الساعة، وذلك في الشفاعة العظمى التي هي المقام المحمود، وهي شفاعته عند الله عز وجل ليفصل بين الناس ويقضي بينهم، فينصرفون إلى منازلهم من الجنة أو النار، فإن هذا هو المقام الذي يحمده عليه الأولون والآخرون. فإذاً قوله: [ (أنت الملك) ] يعني أنه تعالى ملك الدنيا والآخرة ومالك كل شيء. وقوله: [ (لا إله لي إلا أنت) ]. يعني: أنت إلهي وحدك ليس لي معبود سواك، فأنا لا أعبد إلا إياك، ولا أخص بالعبادة أحداً سواك، بل أجعل العبادة خالصةً لك، ولا أشرك معك أحداً؛ لأنك أنت الملك الذي هو مالك لكل شيء، ومن كان خالقاًَ لكل شيء ومالكاً لكل شيء وإليه يرجع كل شيء فهو الذي يجب أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له.
شرح قوله (أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي )
قوله: [ (أنت ربي وأنا عبدك) ]. أي: أنت ربي الذي خلقتني وربيتني بالنعم وتفضلت علي بالإحسان، وأنا عبدك، فأنت الرب وأنا العبد الخاضع المستكين لك وحدك لا شريك لك. قوله: [ (ظلمت نفسي واعترفت بذنبي) ]. يعني: ظلمت نفسي كثيراً، وأنا محل الظلم، وأنا الذي يحصل منه الظلم، وأنا معترف بذنوبي ومقر بأخطائي، ولكني أرجوك وأسألك أن تغفر لي الذنوب فإنه لا يغفرها إلا أنت. [ (فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) ] يعني: أنا الظالم لنفسه، وأنا المعترف بالذنوب والمقر بها، وأسألك غفرانها والتجاوز عنها، فإنه لا يغفرها إلا أنت، فأنت الذي تغفر الذنوب، وأنت الذي تستر العيوب، فأسألك وأرجوك أن تغفر لي هذه الذنوب وأن تتجاوز عن هذه الخطايا التي صدرت مني.
طلب الهداية لأحسن الأخلاق وصرف سيئها
قوله: [ (واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت) ]. أي: دلني وأرشدني وسددني وثبتني على أن أكون على الأخلاق الحسنة التي لا يهدي لأحسنها إلا أنت، فأنا أسألك أن توفقني للاتصاف بتلك الأخلاق الحسنة الكريمة التي لا يهدي لأحسنها إلا أنت. قوله: [ (واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت) ]. أي: اصرف عني سيء تلك الأخلاق التي لا يصرف سيئها إلا أنت، وكل شيء بيدك، فأنت الذي تهدي من تشاء وتضل من تشاء، وأنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
شرح قوله ( لبيك وسعديك )
قوله: [ (لبيك وسعديك والخير كله في يديك) ]. قيل: إن المقصود بقوله: [(لبيك)] إقامة بعد إقامة، يعني: مقيم على طاعتك إقامة بعد إقامة. من قولهم: لب بالمكان إذا أقام به. وقيل: إن المراد: إجابة بعد إجابة. لأن (لب) بمعنى: أجاب الدعوة وأجاب النداء، والمنادى إذا نودي فإنه يجيب أحسن ما يجيب بقوله: لبيك. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم عندما ينادي النبي صلى الله عليه وسلم واحداً منهم يقول: لبيك -يا رسول الله- وسعديك. فإما أن يكون بمعنى: إقامة بعد إقامة، أي: مقيم على طاعتك إقامة بعد إقامة ومستمر على ذلك، أو أن يكون بمعنى: إجابة بعد إجابة. ولا تنافي بين المعنيين، بل كل منهما حق، فهو يقيم على الطاعة ويلازمها، وفي نفس الوقت يلبي الدعوة ويلبي النداء، ولهذا قيل في التلبية في الحج: إن الله عز وجل لما دعا الناس لحج بيته العتيق فمن وفقه الله عز وجل للإتيان ثم الدخول في النسك يقول: لبيك -اللهم- لبيك. يعني: إنك دعوتني لحج بيتك ووفقتني للمجيء والوصول إلى هذا المكان الذي تلبست فيه بهذه العبادة ودخلت في هذه العبادة، فأنا أقول: لبيك -اللهم- لبيك. أي: دعوتني فأجبتك قائلاً: لبيك -اللهم- لبيك. وقوله: [ (وسعديك) ] قيل: معناه: إسعاد بعد إسعاد منك. أو: مساعدة بعد مساعدة منك.
شرح قوله ( والخير كله في يديك )
وقوله: [ (والخير كله في يديك) ]. ذلك لأن الأمر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس : (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) فالخير كله بيد عز وجل لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53] وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، وفي الحديث القدسي حديث أبي ذر (يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، ياعبادي! كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم) فالخير كله بيد الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يتفضل على من شاء بما شاء من خيره وفضله، ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر سبحانه وتعالى.
معنى قوله ( والشر ليس إليك )
قوله: [ (والشر ليس إليك) ]. معلوم أن الله عز وجل خالق كل شيء، فالخير والشر كل ذلك من مخلوقات الله عز وجل، ولا يكون في الوجود إلا ما هو مخلوق لله سبحانه وتعالى، سواءًٌ أكان خيراً أم شراً، ولا يقع في ملك الله إلا ما شاءه الله عز وجل، فالله تعالى خالق كل شيء، وليس هناك شيء في الوجود لم يخلقه الله سبحانه وتعالى، بل الله عز وجل خالق كل شيء في الوجود، لا شريك له في الخلق والإيجاد، فالخير والشر خلق الله عز وجل وإيجاده، وكلاهما بقضاء الله وقدره، وكلاهما بعلم الله عز وجل وبمشيئته وإرادته، فكل ذلك من الله سبحانه وتعالى. فقوله: [ (والشر ليس إليك) ] مع أن الله عز وجل هو الخالق لكل شيء، والموجد لكل شيء -سواءٌ أكان خيراً أم شراً- فسر بأن المراد به أن الشر الذي هو شر محض لا خير فيه بوجه من الوجوه ليس إلى الله عز وجل؛ لأنه لا يخلق شراً محضاً لا خير فيه بوجه من الوجوه، بل ما يخلقه الله عز وجل من الشر يترتب عليه مصلحة ويترتب عليه فائدة، فمن ذلك كون الإنسان يصبر على ما يصيبه من الشر فيثاب ويؤجر على ذلك، ومن ذلك أن خلق الكفر في الكافرين وخلق الله عز وجل الإيمان في المؤمنين يوجد به الجهاد ويوجد به الصراع بين الحق والباطل، فلا يخلق الله عز وجل شراً محضاً لا يترتب عليه خير بأي وجه من الوجوه، بل ما يخلق الله تعالى من شر فهو مشتمل على خير ومشتمل على فائدة، فليس إلى الله الشر المحض الذي لا خير فيه بوجه من الوجوه. ومنهم من قال: معناه أن الشر لا يتقرب به إليك.وقيلت أقوال أخرى غير ذلك.
يتبع.