عرض مشاركة واحدة
  #433  
قديم 11-05-2024, 11:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
المجلد العاشر
صـ 3916 الى صـ 3930
الحلقة (433)



القول في تأويل قوله تعالى :

[18-19] من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا .

من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا

أي من كان طلبه الدنيا العاجلة ، ولها يعمل ويسعى ، وإياها يبتغي ؛ لا يوقن بمعاد ولا يرجو ثوابا ولا عقابا من ربه على علمه : عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد أي : ما نشاؤه من بسط الدنيا عليه أو تقتيرها لمن أراد الله أن يفعل به ذلك . أو من إهلاكه بما يشاء تعالى من عقوباته المعجلة . ثم يصلى جهنم في الآخرة : مذموما على قلة شكره لمولاه ، وسوء صنيعه فيما سلف له : مدحورا مطرودا من الرحمة ، مبعدا مقصيا في النار . ومن أراد الآخرة وإياها طلب ، ولها عمل عملها الذي هو طاعة الله وما يرضيه عنه ، فأولئك كان عملهم مشكورا بحسن الجزاء .

تنبيه :

قال القفال رحمه الله : هذه الآية داخلة في معنى قوله : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه فالآية الأولى تشير إلى من جعل طائر نفسه شؤما . والثانية لمن جعله يمنا وخيرا . وفي قوله تعالى : وسعى لها سعيها أي : ما يحق ويليق بها من الأعمال الصالحة ، تبيين لقوله : ومن أراد الآخرة بأن إرادتها هو بالسعي والنصب في مغالبة الباطل وإعلاء شأن الحق مع التلبس بالإيمان الصحيح ، بفعل المأمور واجتناب المنهي عنه . وقوله تعالى :

[ ص: 3917 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[20-22] كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا .

كلا نمد أي : كل واحد من الفريقين . وقوله : هؤلاء وهؤلاء بدل من ( كلا ) : من عطاء ربك أي : فضله . فيرزقهما جميعا من رزقه إلى بلوغهما الأمد واستيفائهما الأجل ، ما كتب لهما . ثم تختلف بهما الأحوال بعد الممات ، وتفترق بهما بعد الورود المصادر . ففريق مريدي العاجلة ، إلى جهنم مصدرهم . وفريق مريدي الآخرة ، إلى الجنة مآبهم : وما كان عطاء ربك محظورا أي : ممنوعا لا يمنعه من عاص لعصيانه . والجملة كالتعليل لشمول الإمداد للفريقين .

انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض أي : في الرزق في الدنيا : وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا لأن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .

ثم أشار تعالى إلى ما به تنال درجات الآخرة من البراءة من الشرك ، ومن الاعتصام بالإيمان وشعبه ، بقوله : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا أي : لا تجعل معه شريكا في عبادته فتصير مذموما ملوما على الشرك ، مخذولا من الله ، يكلك إلى ذاك الشريك ولا ينصرك : وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده

[ ص: 3918 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[23-24] وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا .

وقضى ربك أي : أمر أمرا مقطوعا به : ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا أي : وبأن تحسنوا بالوالدين إحسانا . قال القاشاني : قرن سبحانه وتعالى إحسان الوالدين بالتوحيد وتخصيصه بالعبادة ؛ لكونهما مناسبين للحضرة الربوبية ؛ لتربيتها إياك عاجزا صغيرا ضعيفا لا قدرة لك ولا حراك بك . وهما أول مظهر ظهر فيه آثار صفات الله تعالى من الإيجاد والربوبية ، والرحمة والرأفة بالنسبة إليك . ومع ذلك فإنهما محتاجان إلى قضاء حقوقهما ، والله غني عن ذلك . فأهم الواجبات بعد التوحيد إذا ؛ إكرامهما والقيام بحقوقهما ما أمكن : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا في هذا من المبالغة في إكرام الوالدين وبرهما ما لا يخفى . و : إما هي ( إن ) الشرطية زيدت عليها ( ما ) تأكيدا لها . و : أحدهما فاعل ( يبلغن ) و : كلاهما عطف عليه . ومعنى : { عندك } هو أن يكبرا ويعجزا ، وكانا كلا على ولدهما ، ولا كافل لهما غيره ، فهما عنده في بيته وكنفه . وذلك أشق عليه وأشد احتمالا وصبرا . وربما تولى منهما ما كانا يتوليان منه في حال الطفولة . فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال ، حتى لا يقول لهما ، إذا أضجره ما يستقذر منهما ، أو يستثقل من مؤنهما : أف فضلا عما يزيد عليه . أفاده الزمخشري .

[ ص: 3919 ] ولا تنهرهما أي : تزجرهم عما لا يعجبك ، بغلظة : وقل لهما بدل التأفيف والنهر : قولا كريما أي : حسنا كما يقتضيه حسن الأدب معهما . ومعنى قوله : واخفض لهما جناح الذل تذلل لهما وتواضع . وفيه استعارة مكنية وتخييلية . فشبه الذل بطائر تشبيها مضمرا ، وأثبت له الجناح تخييلا ، والخفض ترشيحا . و ( خفضه ) ما يفعله إذا ضم أفراخه للتربية . أو استعارة تصريحية في المفرد وهو الجناح ، والخفض ترشيح . و ( الجناح ) الجانب كما يقال ( جناحا العسكر ) وخفضه مجاز ، كما يقال ( لين الجانب ) و ( منخفض الجانب ) . وإضافة الجناح إلى الذل للبيان ؛ لأنه صفة مبينة . أي : جناحك الذليل . وفيه مبالغة لأنه وصف بالمصدر . فكأنه جعل عين الذل . أو التركيب استعارة تمثيلية . فيكون مثلا لغاية التواضع . وسر ذكر الجناح وخفضه ، تصوير الذل كأنه مشاهد محسوس . و : { من } في قوله تعالى : من الرحمة ابتدائية على سبيل التعليل . أي : من فرط رحمتك لهما ، وعطفك عليهما ، لكبرهما وافتقارهما اليوم ، إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس . وافتقار المرء إلى من كان مفتقرا له ، غاية في الضراعة والمسكنة ، فيرحمه أشد رحمة . كما قال الخفاجي :


يا من أتى يسأل عن فاقتي ما حال من يسأل من سائله ؟

ما ذلة السلطان إلا إذا
أصبح محتاجا إلى عامله


وقوله تعالى : وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا أي : رب ! تعطف عليهما برحمتك ومغفرتك ، كما تعطفا علي في صغري ، فرحماني وربياني صغيرا حتى استقللت بنفسي ، واستغنيت عنهما .

قال الزمخشري : أي : لا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها ، وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية . واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك . والكاف للتعليل . أي : لأجل تربيتهما لي .

قال الطيبي : الكاف لتأكيد الوجود . كأنه قيل : رب ارحمهما رحمة محققة مكشوفة لا ريب فيها ، كقوله : مثل ما أنكم تنطقون وهو وجه حسن .

[ ص: 3920 ] تنبيه :

استحب بعض السلف أن يدعو المرء لوالديه في أواخر التشهد قبيل السلام ؛ لأنه وقت فاضل . وقد جمعت من الأدعية المأثورة للوالدين المتوفيين أو أحدهما ، جملة ضممتها لكتابي " الأوراد المأثورة " . لا أزال أدعو لهما بها في السحر أو بين أذان الفجر وإقامة صلاته ؛ لما أرى من مزية هذا الوقت على غيره . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[25-27] ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا .

ربكم أعلم بما في نفوسكم أي : ضمائركم من قصد البر إلى الوالدين والعقوق : إن تكونوا صالحين أي : قاصدين للصلاح والبر دون العقوق : فإنه كان للأوابين أي : التوابين الرجاعين إليه تعالى بالندم عما فرط منهم ، والاستقامة على المأمور : غفورا أي : لهم ما اكتسبوا . ولا يخفى ما في صدر الآية من الوعد لمن أضمر البر . والوعيد لمن أضمر الكراهة والاستثقال والعقوق .

قيل : الآية استئناف يقتضيه مقام التأكيد والتشديد . كأنه قيل : كيف يقوم بحقهما وقد تبدر بوادر ؟ فقيل : إذا بنيتم الأمر على الأساس ، وكان المستمر ذلك ، ثم اتفقت بادرة من غير قصد إلى المساءة ، فلطف الله يحجز دون عذابه . ويجوز - كما قال الزمخشري - أن يكون هذا عاما لكل من فرطت منه جناية ثم تاب منها . ويندرج تحته الجاني على أبويه ، التائب من جنايته ؛ لوروده على أثره .

ثم وصى تعالى بغير الوالدين من الأقارب ، بعد الوصية بهما ، [ ص: 3921 ] بقوله سبحانه :

وآت ذا القربى حقه أي : من صلته وحسن المعاشرة والبر له بالإنفاق عليه .

قال المهايمي : لم يقل ( القريب ) لأن المطلق ينصرف إلى الكامل . والإضافة لما كانت لأدنى الملابسة ، صدق ( ذو القربى ) على كل من له قرابة ما : والمسكين أي : الفقير من الأباعد . وفي الأقارب مع الصدقة صلة الرحم وابن السبيل أي : المسافر المنقطع به . أي : أعنه وقوه على قطع سفره . ويدخل فيه ما يعطاه من حمولة أو معونة أو ضيافة ، فإن ذلك كله من حقه : ولا تبذر تبذيرا أي : بوجه من الوجوه ، بالإنفاق في محرم أو مكروه ، أو على من لا يستحق ، فتحسبه إحسانا إلى نفسك أو غيرك . أفاده المهايمي .

وفي (" الكشاف ") : كانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها ، وتبذر أموالها في الفخر والسمعة ، وتذكر ذلك في أشعارها . فأمر الله بالنفقة في وجوهها ، مما يقرب منه ويزلف .

إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين أي : أمثالهم في كفران نعمة المال بصرفه فيما لا ينبغي . وهذا غاية المذمة ؛ لأن لا شر من الشيطان . أو هم إخوانهم أتباعهم في المصادقة والإطاعة . كما يطيع الصديق صديقه والتابع متبوعه ، أو هم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد . والجملة تعليل المنهي عنه عن التبذير ، ببيان أنه يجعل صاحبه مقرونا معهم . وقوله : وكان الشيطان لربه كفورا من تتمة التعليل . قال أبو السعود : أي : مبالغا في كفران نعمته تعالى ؛ لأن شأنه أن يصرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى ، أي : مبالغا في كفران نعمته تعالى ؛ لأن شأنه أن يصرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى إلى غير ما خلقت له من أنواع المعاصي ، والإفساد في الأرض ، وإضلال الناس ، وحملهم على الكفر بالله ، وكفران نعمه الفائضة عليهم ، وصرفها إلى غير ما أمر الله تعالى به . وتخصيص هذا الوصف بالذكر ، من بين سائر أوصافه القبيحة ؛ للإيذان بأن التبذير ، الذي هو عبارة عن صرف نعم الله تعالى إلى غير مصرفها ، من باب الكفران ، المقابل للشكر الذي هو عبارة عن صرفها إلى ما خلقت هي له . والتعرض لوصف الربوبية ؛ للإشعار بكمال عتوه . فإن [ ص: 3922 ] كفران نعمة الرب ، مع كون الربوبية من أقوى الدواعي إلى شكرها ، غاية الكفران ونهاية الضلال والطغيان . انتهى .

وقد استدل بالآية من منع إعطاء المال كله في سبيل الخير، ومن منع الصدقة بكل ماله.
القول في تأويل قوله تعالى :

[28] وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا .

وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا أي : وإن أنت أعرضت عن ذوي القربى والمسكين وابن السبيل ، حياء من الرد ، لانتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك فتعطيه ، فلا تؤيسهم وقل لهم قولا لينا سهلا ، وعدهم وعدا جميلا . قال في " الكشف " : ( ابتغاء ) أقيم مقام فقدانه ، وفيه لطف . فكأن ذلك الإعراض لأجل السعي لهم . وهو من وضع المسبب موضع السبب . فإن الفقد سبب للابتغاء .

قال السيوطي في " الإكليل " : في هذه الآية الأمر بالقول اللين عند عدم وجود ما يعطى منه ، وفسره ابن زيد : بالدعاء . والحسن وابن عباس : بالعدة . انتهى .

وظاهر ، أن القول الميسور يشمل الكل . وذهب المهايمي إلى أن الآية في منعهم خوفا من أن يصرفوه فيما لا ينبغي . قال : أي : وإن تحقق إعراضك عمن تريد الإحسان إليهم ، طلب رحمة من ربك في المنع عنهم ؛ لئلا يقعوا في التبذير ، بصرف المعطي إلى شرب الخمر أو الزنى ، لما عرفت من عاداتهم ، فقل لهم في الدفع قولا سهلا عليهم ، إحسانا إليهم بدل العطاء . انتهى .

ولم أره لغيره ، والنظم الكريم يحتمله .

[ ص: 3923 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[29] ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا .

ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك أي : لا تمسك يدك عن النفقة والعطية لمن له حق ممن تقدم ، بمنزلة المشدودة يده إلى عنقه ، الذي لا يقدر على الأخذ بها والإعطاء : ولا تبسطها كل البسط أي : بالتبذير والسرف . قال ابن كثير : أي : لا تسرف في الإنفاق ، فتعطي غير طاقتك وتخرج أكثر من دخلك : فتقعد أي : فتبقى : ملوما يلومك الفقراء والقرابة : محسورا أي : نادما ، من ( الحسرة ) أو منقطعا بك لا شيء عندك ، من ( حسره السفر ) إذا بلغ منه الجهد وأثر فيه .

وفي النهيين استعارتان تمثيليتان شبه في الأولى فعل الشحيح في منعه ، بمن يده مغلولة لعنقه ، بحيث لا يقدر على مدها .

وفي الثانية شبه السرف ببسط الكف بحيث لا تحفظ شيئا . وهو ظاهر . وجعل ابن كثير قوله تعالى : فتقعد ملوما محسورا من باب اللف والنشر المرتب . قال : أي : فتقعد ، إن بخلت ، ملوما يلومك الناس ويذمونك ، ويستغنون عنك ، كما قال زهير في المعلقة :


ومن كان ذا مال فيبخل بماله على قومه يستغن عنه ويذمم


[ ص: 3924 ] ومتى بسطت يدك فوق طاقتك ، قعدت بلا شيء تنفقه ، فتكون كالحسير ، وهي الدابة التي عجزت عن السير ، فوقفت ضعفا وعجزا .
القول في تأويل قوله تعالى :

[30] إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا .

إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر أي : يوسعه ويضيقه ، حسب مشيئته وحكمته إنه كان بعباده خبيرا بصيرا أي : خبيرا ببواطنهم ، بصيرا بظواهرهم .

قال المهايمي : ولما وجب إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل ، لحفظ أرواحهم ، فالأولاد بحفظ الأرواح أولى ، لذلك قال تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[31] ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا .

ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم نهي لهم عما كانوا يفعلونه في الجاهلية من قتلهم أولادهم . وهو وأدهم بناتهم . أي : دفنهن في الحياة . كانوا يئدونهن خشية الفاقة وهي الإملاق والفقر ، بالإنفاق عليهم إذا كبروا . فنهاهم الله وضمن لهم أرزاقهم بقوله : نحن نرزقهم أي : نحن المختصون بإعطاء رزقهم في الصغر والكبر ، وقوله تعالى : وإياكم أي : الآن بإغنائكم . وقوله تعالى : إن قتلهم أي : للإملاق الحاضر والخشية في المستقبل : كان خطئا كبيرا أي : لإفضائه إلى تخريب العالم . وأي خطأ أكبر من ذلك .

[ ص: 3925 ] تنبيه :

دل قوله تعالى : خشية إملاق على أن ذلك هو الحامل لهم على الوأد ، لا خوف العار كما زعموا . قال المبرد في (" الكامل ") : كانت العرب في الجاهلية تئد البنات ، ولم يكن هذا في جميعها . إنما كان في تميم بن مر ، وقيس ، وأسد ، وهذيل ، وبكر بن وائل .

ثم قال : ودل على ما من أجله قتلوا البنات فقال : ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق وقال : ولا يقتلن أولادهن فهذا خبر بين أن ذلك للحاجة . وقد روى بعضهم : أنهم إنما فعلوا ذلك أنفة . وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى ؛ أن تميما منعت النعمان الإتاوة . فوجه إليهم أخاه الريان بن المنذر ، فاستاق النعم وسبى الذراري . فوفدت إليه بنو تميم . فلما رآها أحب البقيا . فأناب القوم وسألوه النساء . فقال النعمان : كل امرأة اختارت أباها ردت إليه ، وإن اختارت صاحبها تركت عليه . فكلهن اختار أباها ، إلا ابنة القيس بن عاصم فإنها اختارت صاحبها عمرو بن المشمرج . فنذر قيس إلا تولد له ابنة إلا قتلها . فهذا شيء يعتل به من وأد ، ويقول : فعلناه أنفة ، وقد أكذب ذلك بما أنزل الله تعالى في القرآن .

وقال ابن عباس رحمه الله ( في تأويل هذه الآية ) : وكانوا لا يورثون ولا يتخذون إلا من طاعن بالرمح ومنع الحريم . يريد : الذكران . والخطأ كالإثم ، لفظا ومعنى .

ولما نهى عن قتل الأولاد ، نهى عن قطع النسل بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[32] ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا .

ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة أي : فعلة قبيحة متناهية في القبح . توجب [ ص: 3926 ] النفرة عن صاحبه ، والتفرقة بين الناس : وساء سبيلا أي : بئس طريقا طريقه . فإنه غصب الأبضاع المؤدي إلى اختلاف أمر الأنساب ، وهيجان الفتن غصبا من غير سبب ، والسبب ممكن ، وهو الصهر الذي شرعه الله . وقال المهايمي : { ساء سبيلا } لقضاء الشهوة التي خلقت لطلب النسل ، بتضييعه . ثم ذكر ما هو أعظم في التنفير والتفرقة فقال تعالى مجده :
القول في تأويل قوله تعالى :

[33] ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا .

ولا تقتلوا النفس التي حرم الله أي : قتلها ، وهي نفس الإنسان : إلا بالحق أي : إلا بسبب الحق ، فيتعلق بـ : { لا تقتلوا } أو حال من فاعل ( لا تقتلوا ) أو من مفعوله . وجوز تعلقه بـ ( حرم ) أي : حرم قتلها إلا بالحق ، وحقها أن لا تقتل إلا بكفر بعد إسلام ، أو زنى بعد إحصان ، أو قودا بنفس : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا أي : ومن قتل بغير حق ، مما تقدم ، فقد جعلنا لوليه ، الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه : سلطانا أي : تسلطا على القاتل في الاقتصاص منه . أو حجة يثب بها عليه ، وحينئذ فلا يسرف في القتل . أي : فلا يقتل غير القاتل ولا اثنين ، والقاتل واحد ، كعادة الجاهلية . كان إذا قتل منهم واحد قتلوا به جماعة . وقوله : إنه كان منصورا تعليل للنهي . والضمير للولي . يعني : حسبه أن الله قد نصره بأن أوجب له القصاص ، فلا يستزد على ذلك .

[ ص: 3927 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[34] ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا .

ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن أي : لا تتصرفوا في ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن ، وهي حفظه عليه وتثميره وإصلاحه . وقوله تعالى : حتى يبلغ أشده غاية جواز التصرف على الوجه الحسن ، أي : حتى يبلغ وقت اشتداده في العقل وتدبير ماله وصلاح حاله في دينه : وأوفوا بالعهد أي : العقد الذي تعاقدون به الناس في الصلح بين أهل الحرب والإسلام ، وفيما بينكم أيضا . والبيوع والأشربة والإجارات ونحوها : إن العهد كان مسؤولا أي : مطلوبا ، يطلب من المعاهد الثبات عليه ، وعدم إضاعته . أو : صاحبه مسؤول عن نقضه إياه . والمعنى : لا تنقضوا العهود الجائزة بينكم وبين من عاهدتموهم ، فتخفروها وتغدروا بمن أعطيتموه إياها .
القول في تأويل قوله تعالى :

[35] وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا .

وأوفوا الكيل إذا كلتم أي : أتموه إذا كلتم لغيركم ولا تبخسوه : وزنوا بالقسطاس المستقيم أي : بالميزان السوي ؛ بلا اعوجاج ولا خديعة : ذلك خير أي : لكم في معاشكم لانتظام أموركم بالعدل ، وإيفاء الحقوق أربابها : وأحسن تأويلا أي : عاقبة ومآلا ؛ إذ ليس معه مظلمة يطالب بها يوم القيامة . ثم أمر تعالى برعاية القسطاس المعنوي .

[ ص: 3928 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[36-] ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا .

ولا تقف ما ليس لك به علم أي : لا تتبعه في قول أو فعل ، تسنده إلى سمع أو بصر أو عقل . من : ( قفا أثره ) إذا تبعه .

قال الزمخشري : والمراد النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم ، وأن يعمل بما لا يعلم. ويدخل فيه النهي عن التقليد دخولا ظاهرا ؛ لأنه اتباع لما لا يعلم صحته من فساده . انتهى .

ولا يخفى ما يندرج تحت هذه الآية من أنواع كثيرة . كمذاهب الجاهلية في الإلهيات والتحريم والتحليل ، وكشهادة الزور ، والقذف ، ورمي المحصنات الغافلات ، والكذب ، وما شاكلها : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا أي : كان صاحبها مسئولا عما نسب إليها يوم القيامة . أو تسأل نفس الأعضاء لتشهد على صاحبها .

قال المهايمي : قدم السمع ؛ لأن أكثر ما ينسب الناس أقوالهم إليه . وأخر الفؤاد ؛ لأنه منتهى الحواس . ولم يذكر بقيتها ؛ لأنه لا يخالفها قول أو فعل .

ولا تمش في الأرض مرحا أي : مختالا ، أي : مشية المعجب المتكبر ؛ إذ لا يفيدك قوة ولا علوا . كما قال سبحانه : إنك لن تخرق الأرض أي : لن تجعل فيها خرقا بدوسك لها ، وشدة وطأتك : ولن تبلغ الجبال طولا أي : لن تحاذيها بتطاولك ومد قامتك ، كما يفعله المختال تكلفا . وفي هذا تهكم بالمختال ، وإيذان بأن ذلك مفاخرة مع الأرض وبعض أجزائها .

[ ص: 3929 ] قال الناصر : وفي هذا التهكم والتقريع لمن يعتاد هذه المشية ، كفاية في الانزجار عنها . ولقد حفظ الله عوام زماننا عن هذه المشية ، وتورط فيها قراؤنا وفقهاؤنا . بينا أحدهم قد عرف مسألتين أو أجلس بين يديه طالبين ، أو شد طرفا من رياسة الدنيا ، إذا هو يتبختر في مشيه ، ويترجع ولا يرى أنه يطاول الجبال ، ولكن يحك بيافوخه عنان السماء ، كأنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون . وماذا يفيده أن يقرأ القرآن أو يقرأ عليه ، وقلبه عن تدبره على مراحل . والله ولي التوفيق .
القول في تأويل قوله تعالى :

[1-2] كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا .

كل ذلك أي : المنهي عنه من قوله : ولا تجعل مع الله إلها آخر إلى هذه الغاية : كان سيئه عند ربك مكروها قال المهايمي : أما الشرك فلإخلاله بالكمال المطلق الذي لا يتصور مع الشرك . وأما عبادة الغير فلما فيها من تعظيمه المخصوص بذي الكمال المطلق ، فهو في معنى الشرك . وأما العقوق فلأنه كفران نعمة الأبوين في التربية ، أحوج ما يكون المرء إليها . ومنع الحقوق بالبخل تفريط ، والتبذير والبسط إفراط . وهما مذمومان . والذميم مكروه . والقتل يمنع الحكمة من بلوغها إلى كمالها . . . والزنى وإتلاف مال اليتيم في معناه . ونقض العهد مخل بنظام العالم . وكذا اقتفاء ما لا يعلم . والتكبر من خواص الحق . وعادة الملوك كراهة أن يأخذ أحد من خواصه شيئا .

ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة أي : مما يحكم العقل بصحته ، وتصلح النفس بأسوته .

قال المهايمي : أي : من العلم المحكم الذي لا يتغير بشبهة : ولا تجعل مع الله إلها [ ص: 3930 ] آخر كرره للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه . وأنه رأس كل حكمة وملاكها . ومن عدمه لم ينفعه علومه وحكمه .

قال أبو السعود : وقد رتب عليه ما هو عائدة الإشراك أولا حيث قيل : فتقعد مذموما مخذولا ورتب عليه ها هنا نتيجة في العقبى فقيل : فتلقى في جهنم ملوما أي : بالجهل العظيم : مدحورا أي : مبعدا مطرودا من الرحمة . وفي إيراد الإلقاء ، مبنيا للمفعول ، جري على سنن الكبرياء ، وازدراء بالمشرك وجعل له ، من قبيل خشبة يأخذها آخذ بكفه ، فيطرحها في التنور . انتهى . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[40] أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما .

أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما

خطاب للذين قالوا من مشركي العرب : ( الملائكة بنات الله ) والهمزة للإنكار . قال الزمخشري : والمعنى : أفخصكم ربكم ، على وجه الخلوص والصفاء ، بأفضل الأولاد وهم الذكور ، ولم يجعل فيهم نصيبا لنفسه ، واتخذ أدونهم ، وهن البنات ، وأنتم لا ترضونهن لأنفسكم ، بل تئدونهن وتقتلونهن . فهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم . فإن العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء ، وأصفاها من الشوب ، ويكون أردؤها وأدونها للسادات . وقوله تعالى : إنكم لتقولون قولا عظيما أي : بإضافة الأولاد إليه ، وهي خاصة المحدثات . ثم بإيثاركم أنفسكم عليه ، حيث تجعلون له ما تكرهون .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.64 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 47.01 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.32%)]