عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 30-04-2024, 03:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,878
الدولة : Egypt
افتراضي رد: رمضان شهر الصبر

{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} دون ترددَ {قالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ *}[8]، وليت الأمر توقف عند هذا الحدِّ، لقد تحوَّلت هذه الفرصة إلى قانونٍ يفرض وتحوَّل هذا العرض إلى فرضٍ تترتب عليه تبعات: {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ}[9] هل وصل بك الأمر إلى هذا الحدِّ يا أيُّها الشَّابُّ المسلم الَّذي ورثت ميراث النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم وميراث الأنبياء والمرسلين؟ هل أنت متحقِّقٌ بما فعله سيِّدنا يوسف؟ هل عُرضت عليك الفتنة فرفضتها؟ ووصل الأمر إلى أن تهدَّد بالسِّجن إذا لم تسلك طريق الفتنة ورضيت السِّجن؟ هل وصل بك الأمر إلى هذا؟ أم إنّك من قبل هذا الأمر بمراحل رضيت ورضخت؟ وربَّما سعيت وركضت…
{وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ} جاء الجواب غريباً عجيباً! جاء الجواب معبِّراً عن صفاءٍ في القلب، وعن منطقٍ سليمٍ، وعن روعةٍ في التَّفكير، وعن ارتباطٍ وصلةٍ عظيمتين بالله تعالى {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ}[10]… السِّجن أحبُّ إليه من أمرٍ يسعى إليه الشَّباب بأرجلهم! وأيديهم! وبكل جوارحهم…! فضلاً عن قلوبهم! سيِّدنا يوسف لا يسعى إليه؛ بل لا يترك السَّعي إليه فحسب… يرفضه؛ بل لا يرفضه فحسب بل يمعنُ في الرَّفض؛ حتَّى إنّه ليفضِّل السِّجن؛ ومن بعد السِّجن العذاب؛ وفقد الحرّيَّة على أن يرتكب فاحشةً تميل إليها النَّفس ويميل إليها الهوى؛ لأنَّه يعرف ماذا يريد لأنَّه صاحبُ مبدأ، صاحبُ قرار، لأنَّه رجل… والرَّجل يصبر عن الحرام ما دام مقتنعاً بأنَّ الحرام مذمومٌ يغضب الله سبحانه
{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} قد تدَّعي يا أيُّها الشَّابُّ أنَّك لا تريد الحرام ولكنَّ الحرام يفرضُ نفسه عليك… هذه الآية تخطِّأ قولك، سيِّدنا يوسف دعا الله أن يصرف عنه كيدهنَّ فجاء الجواب سريعاً {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[11].
يقول لي شاب إنّ فتنة النِّساء كبيرة بحيث لا أستطيع أن أتخلص منها… نقول لأنَّك لا تريد أن تتخلص منها… يقول إنَّ فتاةً أو امرأةً قد علقت بي وأنا لا أستطيع أن أتخلص منها… نقول لأنَّك لا تريد أن تتخلص منها… ولو أردت لما عدمت الحيلة، والأسبابٌ كثيرةٌ لا تنتهي، ولكنَّك تريد لذلك تقنعُ نفسك بأنَّك لا تريد ولذلك لا تقدر، لا أنت تريد هذا الفعل ولذلك لا تقدر على مخالفته، ولا تقدر على التَّخلص منه؛ فمن أراد قدر ومن لم يقدر إذاً هو لا يريد {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
يا أيُّها الموظَّف، المحاسب، أمين الصُّندوق يا من بين أيديك أموال العباد وأنت محتاج، وربَّما يكون أولادك جائعين وربَّما تأتي مواسم الأعياد، ويأتي موسم المدرسة، وأولادك يطالبونك، والمال كثيرٌ بين يديك تذكَّر الصَّبر… تذكَّر الصَّبر عن الحرام…
يوسف صبر عن شهوة الجنس، وهناك من يصبر عن شهوة المال، وهناك من يصبر عن شهوة الطَّعام [ورجلُ دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمالٍ فقال: إنِّي أخاف الله ربُّ العالمين] أتراه إنسانٌ حصورٌ لا يشتهي النِّساء؟ لا، لو كان لا يشتهي النِّساء لما كان في المسألة بطولة، ولما كان في المسألة مجاهدة، إنّه يشتهي النِّساء ومع ذلك يقاوم شهوته… وها هنا مكمن البطولة، ها هنا الصَّبر، وبقدر ما تزداد شهوته فيقاومها تعظم بطولته، وترتفع رتبته عند ربِّه سبحانه وتعالى، بقدر ما يزداد احتياجك للمال، وتقام شهوة المال الحرام، وتصبر عنه تكون قيمتك عند الله أعظم، ومقامك أعلى…
الصَّبر أيُّها الأحبَّة يعني أن تنظر دائماً إلى العواقب؛ فعندما ترى الحرام أمامك وتلحُّ نفسك عليه أن تتناوله فتنظر إلى العواقب فتجد عاقبة الحرام وخيمة… والصَّبر عاقبته عاقبةٌ جميلة… تستسهل الصَّعب، وتنفر من الجميل، لأنَّ الجميل إن أتى بالقبيح لم يبقى لجماله وزن.
الصَّبر أيُّها الأحبَّة يعني أن تفكر دائماً بأنَّ الله سبحانه وتعالى يراك في كل حال وفي كل وقت، عندها لن تجد في نفسك الدَّافع إلى فعل الحرام، وستجد قوَّة المقاومة قد زادت وكبرت بقدر ما تستشعر مراقبة الله تعالى لك، وأمَّا إذا استسهلت الخوض في الحرام فإنّما ذلك لأنَّه قد غاب عنك الأمران معاً… غاب عنك مراقبة الله لك، وغاب عنك التَّفكير بالعاقبة، إذاً ضعف عندك الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، وهما الرُّكنان الأعظمان من أركان الإيمان؛ فمن آمن بالله علم أنَّ الله يراه فصبر عن الحرام، ومن آمن بالله علم أنَّه سيجزى بما يفعل، من آمن باليوم الآخر علم أنَّه سيجزى بما يفعل فصبر عن الحرام أيضاً…
يا أيُّها الأخوة كلُّ مسلمٍ مرابطٌ على ثغرٍ من ثغور الإسلام فانظروا لا يؤتينَّ الإسلام من قبلكم، عندما تخالف أمر الله سبحانه فقد اُقتحم الإسلام من قِبَلك، وكنت سبباً من أسباب ذلِّ المسلمين، عندما تخالف أمر الله سبحانه وتعالى عامداً متعمداً ولا تصبر عن الحرام فقد أسأت إلى الأمَّة كلَّها، وأسأت إلى الدِّين بأسره، وأسأت إلى التَّاريخ الإسلاميِّ أجمع… لقد اقتُحم الإسلام من قبلك، لقد فتحت ثغرةٌ من ثغور الإسلام من خلالك، كنت مرابطاً عليها عندما كنت طائعاً تقيَّاً مستقيماً مجاهداً مصابراً… فلمَّا تركت الصَّبر وانجرفت مع الشَّهوة وانجرفت مع الهوى فُتحت هذه الثَّغرة، فإذا فتحت ثغرةٌ من قِبَلك وثغرةٌ من قِبَلي وثغرةٌ من قِبَل الثَّالث والرَّابع… لم يبقَ للإسلام حصانة، صار الإسلام مثل المصفاة الَّتي لا يمكن أن تحجز ماءً…
لو كان الأمر متوقِّفاً على مخالفة فردٍ أو اثنين أو ثلاثةٍ أو أربعة لما كان النَّزيف كبيراً، ولكن كيف وقد صار النَّزيف من معظم أفراد الأمة؟ كيف وقد تخلَّى كلُّ واحدٍ عن سلاحه وترك الثَّغر الَّذي كان يحرسه؟ فهذا الموظف قال: الإسلام ليس متوقفاً عليَّ؛ فخان الأمانة! وهذا الضَّابط قال: أنا لست مسؤولاً عن الأمَّة كلِّها؛ فخان الأمانة! وهذا الطَّالب في جامعته وفي مدرسته خان الأمانة، وقال الإسلام ليس مرتبطاً بي فإنْ أنا أخذت شهوتي ولبيت متطلبات الهوى فهذا لا يعني أنَّني مجرمٌ بحق الأمَّة…! الأمَّة كلُّها هكذا… هل توقف الأمر عليَّ؟! شبعت من الكلام المثالي، وشبعت من المثاليَّات الجوفاء، وشبعت من الكلام الحالم الخياليِّ… إنَّني أريد أنْ أكون واقعيَّاً!
وأن تكون واقعيَّاً في هذا الزَّمان يعني أنْ تكون شرِّيراً، أن تكون واقعيَّاً يعني أنْ تكون فاسقاً، أنْ تكون واقعيَّاً يعني أنْ تكون منحرفاً… لأنَّ الواقع هكذا، الواقع فسادٌ وانحرافٌ وفسقٌ وفجور…
فإنْ أردت أنْ تكون ابن هذا الواقع فهذا يعني أنْ تكون إنساناً ممتلئاً بأشكال المفاسد والشُّرور… لأنَّ الواقع هكذا، الواقع ليس فيه خيرٌ إلا في الزَّوايا المهملة الَّتي لم يتنبه النَّاس إليها.
وأمَّا إنْ أردت أنْ تكون محافظاً على مسؤوليتك حارساً لثغرك فإنَّك عليك أنْ تكون حالماً نعم…! عليك أنْ تكون خيالياً نعم…! على حسب تفكير النَّاس الحقُّ خيال! والخير مثاليّّةٌ وهميَّةٌ! والَّذي يسمع أحوال الصَّحابة يظنُّ أنَّها من أساطير ألف ليلةٍ وليلة…! (لو رأيتموهم لقلتم عنهم مجانين ولو رأوكم لقالوا عنكم شياطين)…!
فإن أردت أنْ تكون واقعيَّاً! وأنْ تترك خيالات الصَّحابة! وأوهام الكتاب والسُّنة والعياذ بالله! فهذا يعني أنْ لا تكون مسلماً… هذا بالمختصر المفيد.
إذا سمَّيت الحقَّ وسمَّيت الكتاب والسُّنَّة وسمَّيت أحوال السَّلف الصَّالح خيالاً وطوباويَّة لا يمكن تطبيقها…! فهذا يعني أنَّك لا تنتسب إلى التُّراث الإسلامي وإلى الإسلام إلا بالاسم، لا تنتمي إليه إلا بالكلام، والكلام لا وزن له إذا لم يكنْ مدعَّماً مصدَّقاً بالأفعال…
أيُّها الأحبَّة نحتاج إلى الصَّبر في كلِّ مواقف حياتنا، نحتاج إلى الصَّبر على الصَّلاة، الصَّبر على الصِّيام، الصَّبر على الإنفاق، الصَّبر عن الفاحشة، الصَّبر عن المال الحرام، الصَّبر عن كلِّ أشكال المعاصي… نحتاج إلى الصَّبر بكلِّ أشكاله، وهذا ما فُقد من مجتمعاتنا لأنَّه فُقد بدايةً من نفوسنا {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[12].
رمضان شهر الصَّبر، فرصةٌ لنتعلم منه كيف نصبر؟ عندما تستطيع أنْ تمسك عن الطَّعام والشَّراب هذا يعني أنّك قادرٌ على فعل أشياء كثيرة… إنَّه رمز.
الصِّيام يقوِّي الإرادة، الصِّيام يمنعك من كثير من المنكرات [يا معشر الشَّباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنَّه أغضُّ للبصر وأحصن للفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصَّوم فإنَّه له وجاء] الصَّوم يعوُّده الصَّبر، والصَّوم يعوُّده قوَّة الإرادة الصَّوم يقوُّي شخصيته…
فإذا لم تنتفع من رمضان بهذا الدَّرس، وإذا لم تدرس هذا المنهج؛ فإنَّك إذاً لن تخرج من رمضان ومعك شهادته ومعك إجازة شهر رمضان إجازة الصِّيام…
أيُّها الأحبَّة عوداً إلى دروس رمضان، وعوداً إلى صبر رمضان، عوداً إلى قوَّة الإرادة وقوَّة الشَّخصيَّة، كثيراً ما يسلك أناسٌ طريق الخير طريق الالتزام فيستصعبون هذا الطَّريق، يقول: (أنا ملتزمٌ من سنة من سنتين من ثلاث سنوات وماذا بعد؟ لقد حرمت نفسي كثيراً من الشَّهوات والمتع، وإنَّني…) اسمعوا هذه العبارة ما أخطرها…
لو أنَّ الإنسان انحرف عن طريق الخير وهو يندم، وهو منزعجٌ من نفسه، لربَّما غفر الله له، أي إنسان كان يصلي فترك الصَّلاة تقول: له يا هذا لماذا لا تصلي؟ لماذا أنت غارقٌ في المعاصي؟ فربَّما يبكي يقول: والله أنا نادم، أنا حزين، أنا أنظر إلى الأيام السَّالفة فأندم، لأنَّني فوت على نفسي تلك الطُّرق وتلك الخيرات… هذا لعلَّ الله يغفر له…
ولكن اسمعوا هذه العبارة الَّتي يقولها بعضهم…يلتزم مدَّة من الزَّمن ثمَّ ينحرف، فيقول: (إنَّني نادمٌ على تلك الأيَّام الَّتي ضيعتها وقت الالتزام! إنَّني نادمٌ على ما فوَّت من الشَّهوات والملذات أيَّام الاستقامة!!) ماذا تتوقعون أنْ تكون معاملة الله لهذا الإنسان… يقول الله تعالى له: لا تهتم، سوف أمسحها لك من صحيفة أعمالك، لا تحزن، تلك الاستقامة الَّتي ندمت عليها وتأسَّفت على فعلها سوف أمسحها، ولن تجد لها أجراً ولا ثواباً يوم القيامة، لأنَّك تراجعت عنها وانسحبت، لأنَّك لم تصبر ولم تدم عليها.
رجلان أحدهما طائع والآخر فاسق، قضى كلُّ واحدٍ منها عمره فيما هو عليه من طاعةٍ أو معصيةٍ، في آخر العمر قال العاصي لنفسه: (ضيعت عمري في المعصية…! وأخي ذلك الإنسان المبارك، ذلك الإنسان التَّقيُّ المرضيُّ، يتقرَّب إلى الله ويغتنم أوقات حياته! هنيئاً له! تبت إلى الله توبةً نصوحاً صادقةً) وذهب الرَّجل إلى أخيه ليتعلم منه العبادة ويعبد الله معه… في اليوم نفسه فكَّر ذلك الرَّجل الطَّائع المستقيم، فقال في نفسه: (أخي يتمتَّع بهذه الدُّنيا ويأخذ من لذَّاتها وشهواتها! وأنا في هذه الصَّومعة على رأس جبل أقضي على عمري ولا أنال من لذات الدُّنيا ومتعها! فلأذهب إلى أخي ولأنل من لذَّات الدُّنيا ومتعها معه!)… مضى الطَّائع إلى مكان المعصية، والعاصي إلى مكان الطَّاعة، ومات الرَّجلان على الطَّريق…! النَّتيجة: ذهب الطَّائع إلى جهنم والعاصي إلى الجنَّة…! إنَّما الأعمال بخواتيمها… تقول: ولكنَّ الخاتمة لم تتَّضح لأنَّ هذا لم يبدأ بالطَّاعة، وذاك لم يبدأ بالمعصية… نعم [إنَّما الأعمال بالنِّيات] كانت الخاتمة نيَّة الخير فختم له بالخير… وذاك كانت خاتمته نيَّة الشَّرِّ فختم له بالشَّرِّ… لأنَّه لم يصبر على الطَّاعة إلى آخر عمره، لقد صبر مدَّة ثمَّ انتهى صبره، لم يصبر على الطَّاعة ولم يصبر عن المعصية…
الَّذي يسلك طريق الله أيُّها الأحبَّة لا بدَّ من أنْ يكون نَفَسُه طويلاً طويلاً… ولا بدَّ من أنْ يكون صاحب همَّةٍ عالية عالية… ولا بدَّ من أنْ لا ينتظر النِّهاية بل أنْ ينتظر الموت، النِّهاية هي الموت [لا راحة للمؤمن إلا بلقاء الله]…
وأستعجب وأستغرب من إنسانٍ يدخل طريق الالتزام بشرع الله، ويجاهد نفسه ويتعلم الحلال ليفعله، والحرام ليتركه، وبعد مدَّةٍ قصيرة يأتي فيقول: (تعبت، مللت، سئمت…)! قد يقول ذلك صراحةً، وقد لا يقوله، ولكن المهمُّ يظهر عليه أنَّه تعبٍ من شدَّة المجاهدات، وتعبٍ من كثرة النَّصائح، وتعبٍ من كثرة المحرمات… ويقول في نفسه: كل شيءٍ حرام! وكلَّما فعلت شيءٍ يقال: هذا خطأ! وهذا خطأ! وهذا يجوز! وهذا لا يجوز! يتعب ويملُّ لأنَّ صبره قليل… لماذا صبره قليل؟ لأنَّه لا يفكِّر كثيراً بالله، ولا يفكِّر كثيراً باليوم الآخر… لو فكَّر بالله وباليوم الآخر لزاد صبره، ولثبت على طريق الحقِّ إلى أن يأتيه الأجل.
رمضان يعلِّمك ذلك… لو أنَّك تعلمته ولو أنك أخذت الدَّرس منه، ففي رمضان مناهج عظيمةٌ منها منهج الصَّبر، فتعلَّم الصَّبر من شهر الصَّبر، تعلَّم الصَّبر من الصِّيام، تعلَّم الصَّبر والمجاهدة من ترك الطَّعام والشَّراب، واعلم أنَّ الصَّبر ليس متوقفاً عند ترك الطَّعام والشَّراب إنَّما الصَّبر مطلوبٌ في كلِّ أحوال الحياة…
لمَّا تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة، استدعى العلماء فجاءه ثلاثةٌ منهم، قال: إنِّي ابتليت بهذا الأمر فأشيروا عليَّ، قال أحدهم: يا أمير المؤمنين إنْ أردت النَّجاة غداً من عذاب الله فاتخذ كبير المسلمين لك أباً وأوسطهم لك أخاً وصغيرهم لك ولداً؛ فوقِّر أباك وأكرم أخاك وتحنَّن على ولدك, قال الآخر: يا أمير المؤمنين إنْ أردت النَّجاة غداً من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحبُّ لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك ثمَّ مت إذا شئت, وقال الثَّالث: يا أمير المؤمنين إنْ أردت النَّجاة غداً من عذاب الله فصم عن الدُّنيا… وليكن إفطارك منها الموت ثمَّ مت إذا شئت… هذا الصَّبر الَّذي نفهمه صومٌ عن كلِّ حرامٍ وعن كلِّ أمرٍ لا يرضي الله، وصبرٌ على كلِّ طاعةٍ وعلى كلِّ أمرٍ يرضي الله، وصبرٌ على كلِّ بلاءٍ وعلى كلِّ أمرٍ يريده الله إلى أنْ يأتي الأجل، صبرٌ لا انقضاء له، هذا الصَّوم الَّذي نفهمه من شهر الصَّوم… لا صومٌ مؤقَّتٌ عن طعامٍ وشرابٍ من الفجر إلى المغرب لمدَّة تسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين يوماً، ثمَّ تنتهي المسألة… ويعود كلُّ شيءٍ إلى ما كان عليه! لا، الصَّوم مفهومه أكبر وأوسع، والصَّبر ينتظم الحياة كلُّها وينظِّم دقائقها وتفاصيلها…
هذا هو الصَّبر في شهر الصَّبر، فتعلَّموا الصَّبر من شهر الصَّبر، وكونوا صابرين على كلِّ بلاءٍ، وعلى كلِّ طاعةٍ، وعن كلِّ معصيةٍ، إلى أنْ يأتي أمر الله سبحانه… ويموت المرء وقد رضي الله عنه، وتمَّت حياته بما يرضي ربه…
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الصَّابرين الصَّبر كلَّه في كلِّ مواضع الصَّبر المرضيَّة إنَّه خير مسؤولٍ وأكرم مجيبٍ… أقول هذا القول وأستغفر الله.
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بوحدانيَّته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أنَّ محمَّداً عبده ورسوله الشَّفيع المشفَّع في المحشر، ما اتصلت عين بنظر وَوَعتْ أذن بخبر، أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، وأحثُّكم –وإيَّاي– على طاعته وأحذركم –وإيَّاي– وبالَ عصيانه ومخالفةِ أمره، واعلموا أنَّه لا يضرُّ ولا ينفع ولا يصل ولا يقطع ولا يعطي ولا يمنع ولا يخفض ولا يرفع ولا يفرِّق ولا يجمع إلا الله، واعلموا أنَّ الله أمركم بأمرٍ بدأه بنفسه، وثنَّى بملائكة قدسه وعرشه فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً *}[13] اللَّهمَّ صلِّ على سيِّدنا محمَّدٍ، وعلى آل سيِّدنا محمَّدٍ، كما صلَّيت على سيِّدنا إبراهيم، وعلى آل سيِّدنا إبراهيم، وبارك على سيِّدنا محمَّدٍ، وعلى آل سيِّدنا محمَّد، كما باركت على سيِّدنا إبراهيم، وعلى آل سيِّدنا إبراهيم، في العالمين إنَّك حميدٌ مجيدٌ.
اذكروا أيُّها الأحبَّة أنَّ الصَّابر حياته كلُّها نيِّرة مُضَاءة، واذكروا في ذلك قول النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام: [الطُّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله وبحمده تملآن، أو تملأ ما بين السَّماء والأرض، والصَّلاة نورٌ، والصَّدقة برهانٌ، والصَّبر ضياءٌ، والقرآن حجَّة لك أو عليك] أضيئوا حياتكم بالصَّبر، نوِّروا نفوسكم بالصَّبر، واقضوا على ظلمة اللُّجوج، واقضوا على ظلمة التَّسرُّع، واقضوا على ظلمة اليأس والسَّآمة، واقضوا على ظلمة القنوط والملل… بدِّدوا تلك الظُّلمة بنور الصَّبر، بنور طول الأمد، بدِّدوا تلك الظُّلمة بنور تسليم الأمر لله وانتظار الآخرة؛ فالمسلم لا ينتظر في الدُّنيا فرجاً، ولا ينتظر في الدُّنيا انتهاء بلاء… فرجه موته، وانتهاء بلائه دخول جنته، والصَّبر ينتهي عند الموت، ومن بعده عند دخول الجنَّة، فانتظروا الموت والجنَّة فتلك نهاية صبركم يا أيُّها المؤمنون.
إنِّي داعٍ فأمِّنوا: اللَّهمَّ انصر الإسلام


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 28.49 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 27.86 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.20%)]