عرض مشاركة واحدة
  #362  
قديم 21-04-2024, 02:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله


﴿ رَحِيمٌ ﴾ أي: ذو رحمة واسعة، وسعت كل شيء، وعمت كل حي، كما قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156]، وقال تعالى: ﴿ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ﴾ [الأنعام: 147]، وقال تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ﴾ [الأنعام: 133]، وقال تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ﴾ [الكهف: 58].

ورحمته- عز وجل- تنقسم إلى قسمين: رحمة ذاتية ثابتة له- عز وجل- ورحمة فعلية يوصلها من شاء من خلقه، رحمة عامة لجميع خلقه، ورحمة خاصة بالمؤمنين.

وهذه الجملة ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ تعليل للأمر بالاستغفار، أي: استغفروا الله؛ لأنه أهل أن يُستغفر، وأهل أن يَغفر ويَرحم، كما قال تعالى في سورة المزمل: ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 199]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 135]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه: 82]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ [المدثر: 56].

قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾.

ذكر الله- عز وجل- مناسك الحج وأحكامه، ثم أتبع ذلك بالأمر بذكره بعد قضاء المناسك، كما أمر به بعد قضاء الصلاة، وبعد الجهاد.

ســبب النــزول:
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان أهل الجاهلية يقفون في المواسم، فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل الله- تعالى- على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾؛ يعني: ذكر آبائهم في الجاهلية»[35].

قوله: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ ﴾؛ أي: إذا فرغتم وانتهيتم من أداء مناسك الحج والعمرة وتحللتم منهما. والمنسك والنسك: العبادة، وكثر استعماله في الحج والعمرة، والذبح، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162] أي: وذبحي.

﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ الفاء رابطة لجواب الشرط، أي: فأتْبِعوا ذلك بذكر الله- عز وجل- بألسنتكم وقلوبكم وجوارحكم، بأنواع الذكر، من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، وقراءة القرآن، والصلاة، وغير ذلك، شكرًا لله- عز وجل- على أن مكنكم من أداء المناسك، وإعلانًا لدوام عبوديتكم لله- عز وجل- ورغبتكم في الزيادة من الخير، وتفاديًا للغفلة، أو الاغترار بما عملتم.

﴿ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ ﴾ الكاف للتشبيه، أي: مثل ذكركم آباءكم، أو كما تذكرون آباءكم وأجدادكم، حيث كانوا في الجاهلية إذا انتهوا من المناسك، وفي غير ذلك من المواسم يذكرون آباءهم وأجدادهم، ويفتخرون بفعالهم ومآثرهم.

﴿ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾ «أو» بمعنى «بل» أي: بل أشد ذكرا، من حيث كثرة ذكره- عز وجل- باللسان، ومن حيث الإخلاص له بالقلب وحضوره ومواطأته للسان، ومن حيث استعمال الجوارح في ذلك.

فأمر الله- عز وجل- العباد بالإكثار من ذكره، وأكد ذلك؛ لأن الذكر غذاء الأرواح، وهو أهم من غذاء الأبدان، فيه الطمأنينة والسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.

قال ابن القيم[36]: «ففيه الأمر بالذكر بالكثرة والشدة لشدة حاجة العبد إليه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فأي لحظة خلا فيها العبد عن ذكر الله- عز وجل- كانت عليه، لا له، وكان خسرانه فيها أعظم مما ربح في غفلته عن الله. وقال بعض العارفين: لو أقبل عبد على الله- تعالى- كذا وكذا سنة، ثم أعرض عنه لحظة لكان ما فاته أعظم مما حصله»

قوله تعالى: ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾.

ذكر الله- عز وجل- مناسك الحج وأمر بذكره بعد قضائها، ثم ذكر انقسام الناس إلى فريقين في سؤالهم له- عز وجل:
فريق همهم الدنيا لا يسألون غيرها، وما لهم في الآخرة من نصيب، ذكرهم- عز وجل- في هذه الآية، وفريق يسألون الله من خيري الدنيا والآخرة، والوقاية من النار، وهم أهل النصيب الأوفر في الدنيا والآخرة، وذكرهم بقوله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.

ســبب النــزول:
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف، فيقولون: اللهم اجعله عام غيث، وعام خصب، وعام ولاد حسن. لا يذكرون من أمر الآخرة شيئًا، فأنزل الله فيهم: ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾، وكان يجيء بعدهم آخرون من المؤمنين، فيقولون: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾، فأنزل الله فيهم: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾»[37].

قوله: ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ﴾ الفاء: استئنافية، و«من» تبعيضية أي: فبعض الناس ﴿ مَنْ يَقُولُ ﴾ «من» موصولة، بمعنى الذي، أي: الذي يقول، بلسان حاله ومقاله ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ﴾ أي: يا ربنا أعطنا نصيبًا في الحياة الدنيا وزدنا فيها، فهؤلاء قد ملكت الدنيا أحاسيسهم ومشاعرهم، وأعمت قلوبهم، فلا يفكرون إلا فيها، ولا يشبعون منها غايتهم تحقيق شهواتهم البهيمية، فما أتعس حظهم.

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش»[38].

و«الدنيا» هي هذه الدار التي نحن فيها، سميت دنيا؛ لأنها قبل الآخرة من حيث الزمن، ولأنها دنيئة حقيرة، لا قيمة لها بالنسبة للآخرة.

﴿ وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾ الواو: حالية، و«ما» نافية، ﴿ لَهُ﴾ يعني- هذا القسم من الناس.

﴿ فِي الْآخِرَةِ ﴾ أي: في الدار الآخرة التي هي الدار الحقيقية، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64]، وإنما سميت الآخرة لتأخرها في الزمن بعد الدنيا.

﴿ من خلاق ﴾ «من» لتوكيد العموم، و﴿ من خلاق ﴾ نكرة في سياق النفي تفيد العموم. والخلاق: النصيب.

أي: وما لهذا القسم من الناس في الآخرة التي هي الدار الحقيقية، لا في سؤالها، ولا في ثوابها أي نصيب، فلا يسألون الله فيها خيرًا، بل هم معرضون عنها غاية الإعراض، وليس لهم فيها أيّ نصيب من الخير، بل ليس لهم فيها إلا النار وبئس القرار.

قوله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.

قوله: ﴿ وَمِنْهُمْ﴾ أي: ومن الناس قسم موفقون يدعون ربهم، ويسألونه من خيري الدارين، في أمور دينهم ودنياهم، وهم المؤمنون، فيقولون: ﴿ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ﴾، والحسنة في الدنيا تشمل كل خير الدنيا من التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح، اللذان هما رأس مال الإنسان في هذه الحياة، ومن المتاع الحسن في هذه الحياة، من صحة في البدن، وفسحة في السكن، وسعة في الرزق، وزوجة صالحة، وأولاد تقر بهم العين، وغير ذلك.

والحسنة في الآخرة الجنة وما فيها من ألوان وأنواع النعيم، وأعلاها النظر إلى وجه الله الكريم، كما قال تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، فالحسنى الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم[39].

﴿ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ أي: اجعل لنا وقاية من عذاب النار، واكفنا إياه، بحفظنا من الذنوب الموجبة له، ومغفرتها، وزحزحنا عن النار، وأدخلنا الجنة، كما قال عز وجل: ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾ [آل عمران: 185].

وهذا الدعاء من أعظم وأجمع الأدعية وأكملها، وأولاها بالإيثار، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يكثر الدعاء به ويحث عليه، كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار»[40].

وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلًا من المسلمين، قد خَفَتَ[41]، فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله، لا تطيقه- أو لا تستطيعه، أفلا قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار» قال: فدعا الله له، فشفاه»[42].

وعن عبدالله بن السائب رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين الركن اليماني والركن الأسود: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار»[43].

فمن أوتي في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ووقي عذاب النار، فقد أوتي خيري الدنيا والآخرة، وكفي شرهما.

عن عبدالسلام بن شداد، قال: كنت عند أنس بن مالك، فقال له ثابت: إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم، فقال: «اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار»، وتحدثوا ساعة، حتى إذا أرادوا القيام، قال: يا أبا حمزة، إن إخوانك يريدون القيام فادع لهم، فقال: «تريدون أن أشقق لكم الأمور، إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ووقاكم عذاب النار فقد آتاكم الخير كله»[44].

ويا ليت من يغلون في الدعاء، بل ويبتدعون فيه ينتبهون لهذا، ففي أدعية الكتاب والسنة الجامعة المانعة ما فيه غنية عما سواها، لمن صدق مع الله، وتحرى القبول والسنة، ونصح لمن خلفه من المصلين، وراقب الله فيهم، وخاف من مغبة مسؤوليته أمام الله -تعالى- عنهم.

قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾.

قوله: ﴿ أُولَئِكَ ﴾ الإشارة لأقرب مذكور، وهم الذين يقولون: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾.

﴿ ﴾ أي: لهم حظ ﴿ مِمَّا كَسَبُوا ﴾ «ما» موصولة، أو مصدرية، أي: من الذي كسبوه، أو من كسبهم، كما قال تعالى: ﴿ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا ﴾ [النساء: 85].

ويحتمل كون الإشارة ﴿ أُولَئِكَ﴾ لهؤلاء ولمن قبلهم وهم الذين يقولون: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ﴾ وما لهم في الآخرة من خلاق، فلكل من هؤلاء وهؤلاء نصيب من كسبهم وجزاء أعمالهم، كما قال تعالى: ﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾ [الأنعام: 132]، ويؤيد هذا قوله: ﴿ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾؛ لأنه يشمل القسمين.

﴿ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾؛ أي: قريب الحساب، قال تعالى: ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 1]، وقال تعالى: ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ [القمر: 1].

وأجله عز وجل آت، وكل آت قريب، قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا ﴾ [الكهف: 21].

وأيضًا فإن عمر الإنسان قصير، والموت قريب، قال تعالى: ﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾ [النساء: 77].

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام النبي صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثّر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاءً. فقال صلى الله عليه وسلم: «مالي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها»[45].

كما أنه- عز وجل- يحاسب الخلائق على وجه السرعة؛ لأنه أعلم بهم وبأعمالهم، فلا يحتاج إلى طول وقت لمحاسبتهم، قال تعالى: ﴿ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ [الأنعام: 62].

ولهذا قال بعض أهل العلم: إنه عز وجل يحاسب الخلائق في نصف يوم، وفي نصفه الآخر يكون أهل الجنة في مقيلهم فيها؛ لقوله تعالى: ﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ﴾ [الفرقان: 24].

كما أن من سرعة حسابه- عز وجل- أن يجد الإنسان في حياته شيئًا من آثار وجزاء أعماله.

قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾.

قوله: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ ذكر الله -عز وجل- مناسك الحج، وأمر بذكره بعد قضائها، ثم أكد ذلك بالأمر بذكره في هذه الأيام المعدودات، والتي تلي الحج، وفيها بعض أعماله، وهي أيام التشريق الثلاثة.

قوله: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ أي: بألسنتكم وقلوبكم وجوارحكم، بتكبيره وتهليله وتحميده، بالتكبير المطلق في هذه الأيام في جميع الأوقات، والتكبير المقيد من صلاة فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، ونحر الهدي والأضاحي، وذكر اسم الله عليها، والمبيت بمنى والطواف والسعي والصلاة، وذكر الله عند رمي الجمار، وغير ذلك.

عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما جعل الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله»[46].

﴿ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ وهي أيام التشريق الثلاثة؛ الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر؛ لمزيتها وفضلها. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «الأيام المعدودات: أيام التشريق»[47].

فهذه الأيام الثلاثة لها مزية وفضل وشرف.

عن نبيشة الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر لله»[48].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيام التشريق أيام طعم وذكر لله، وقال مرة: أيام أكل وشرب»[49].

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم أيام التشريق، قال: هي أيام أكل وشرب وذكر لله»[50].

وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم عرفة ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهن أيام أكل وشرب»[51].

﴿ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ بأن خرج من منى بعد رمي جمار اليوم الثاني، وقبل غروب الشمس.

﴿ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ أي: فلا حرج عليه، ولا يأثم بذلك لجواز الخروج بعد ذلك.

﴿ وَمَنْ تَأَخَّرَ ﴾ بأن بات ليلة الثالث في منى، ورمى الجمار اليوم الثالث بعد الزوال ﴿ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾، فكل ذلك جائز، التعجل في يومين، والتأخر، وهذا من التخفيف والتيسير على الأمة، لكن لمن تأخر زيادة أجر عمله في اليوم الثالث.

﴿ لمن اتقى ﴾ أي: للذي اتقى الله في أعمال الحج ومناسكه وغيرها، فعلًا لما أمر الله به، وانتهاء عما نهى الله عنه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»[52]، وقال صلى الله عليه وسلم: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»(2).

﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ بفعل أوامره، واجتناب نواهيه عامة، وفي جميع الأوقات، لاسيما في هذه الأيام المعدودات.

﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي: واعلموا أنكم إليه تُرجعون، ولديه تجمعون، وعليه تعرضون يوم القيامة، وتحاسبون.

كما قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ [البقرة: 281]، وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ﴾ [الأنعام: 62]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ [الغاشية: 25، 26].

وأَمر الله - عز وجل - بالعلم بأن إليه حشرهم؛ لأن العلم بذلك، والإيمان به واجب، وهو أعظم واعظ يحمل على تقوى الله عز وجل.

[1] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 345)، وأخرجه الشافعي- فيما ذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 342).

[2] أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (4/ 162) (2596). وقال ابن كثير في «تفسيره» (1/ 342): «وهذا إسناد صحيح، وقول الصحابي: «من السنة كذا» في حكم المرفوع عند الأكثرين، ولاسيما قول ابن عباس تفسيرًا للقرآن، وهو ترجمانه».

[3] أخرجه الشافعي والبيهقي فيما ذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 342).

[4] أخرجه أبوداود في المناسك (1949)، والنسائي في مناسك الحج (3044)، والترمذي في الحج (889)، وابن ماجه في المناسك (3015)، من حديث عبدالرحمن بن يعمر رضي الله عنه.

[5] سيأتي تخريجه قريبًا.

[6] أخرجه البخاري في الإيمان (48)، ومسلم في الإيمان (64)، والنسائي في تحريم الدم (4105)، والترمذي في البر والصلة (1983) وابن ماجه في المقدمة (69).

[7] أخرجه البخاري في الحج (1521)، ومسلم في الحج (1350)، والنسائي في مناسك الحج (2627)، والترمذي في الحج (811)، وابن ماجه في المناسك (2889)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[8] أخرجه البخاري في الحج (1773)، ومسلم في الحج (1349)، والنسائي في مناسك الحج (2622)، والترمذي في الحج (933)، وابن ماجه في المناسك (2888)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[9] أخرجه البخاري في الحج- قول الله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ (1523)، وأبو داود في المناسك- التزود في الحج (1730)، والطبري في «جامع البيان» (3/ 494)، والواحدي في «أسباب النزول» ص(37).

[10] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 494).

[11] ذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 348).

[12] هذان البيتان للأعشى- في «ديوانه» (ص185- 187)- من قصيدته المشهورة التي مطلعها:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وبت كما بات السليم مسهدا

[13] أخرجه البخاري في الحج- التجارة أيام الموسم (1770)، وفي التفسير ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ (4519)، وأبو داود في المناسك (1731)، والطبري في «جامع البيان» (3/ 504، 507، 510)، والواحدي في «أسباب النزول» ص(38).

[14] أخرجه أبوداود في المناسك- باب الكرى (1733)، وأحمد (2/ 155)، وابن خزيمة في صحيحه (3052)، والطبري في «جامع البيان» (3/ 503، 509)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 351)، والواحدي في «أسباب النزول» ص(37).

[15] كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخرجه البخاري في بدء الوحي (1)، ومسلم في الإمارة (1907)، وأبو داود في الطلاق (2201)، والنسائي في الطهارة (75)، وابن ماجه في الزهد (4227).

[16] انظر: «جامع البيان» (3/ 512)، «تفسير ابن كثير» (1/ 351).

[17] سبق تخريجه.

[18] كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه قال: «فلما زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس. قال جابر: ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، لم يصل بينهما شيئًا، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الموقف» الحديث، وسيأتي تخريجه قريبًا.

[19] أخرجه أبوداود في المناسك (1950)، والنسائي في مناسك الحج (3039)، والترمذي في الحج (891)، وابن ماجه في المناسك (3016)- وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».

[20] شنق: أي: ضم وضيق- انظر: «النهاية»، «لسان العرب» مادة «شنق».

[21] أخرجه مسلم في الحج- حجة النبي صلى الله عليه وسلم (1218)، وأبو داود في المناسك- إفراد الحج (1905)، وابن ماجه في المناسك (3074).

[22] أخرجه البخاري في الحج (1666)، ومسلم في الحج (1286)، وأبو داود في المناسك (1923)، والنسائي في مناسك الحج (3023)، وابن ماجه في المناسك (3017).

[23] أي: السير السريع. انظر: «النهاية»، «لسان العرب» مادتي: «عنق»، «نصص».

[24] الإيضاع: حمل الدابة على سرعة السير. انظر: «النهاية»، «لسان العرب» مادة «وضع».

[25] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 352).

[26] سبق تخريجه قريبًا.

[27] أخرجه أبوداود في المناسك (1935)، والترمذي في الحج (885)، وأحمد (2/ 5، 454)، والبيهقي في «سننه» (5/ 122)- وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».

[28] أخرجه أحمد (4/ 82)، وقال ابن كثير في «تفسيره» (1/ 354): «وهذا منقطع» ثم ذكر أنه روي من طريق متصل.

[29] أخرجه البخاري في المغازي (4330)، ومسلم في الزكاة (1061)، من حديث عبدالله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه.

[30] أخرجه البخاري في الحج- الوقوف بعرفة (1582)، وفي تفسير سورة البقرة (4520)، ومسلم في الحج (1219)، وأبو داود في المناسك (1910)، والنسائي في المناسك- رفع اليدين في الدعاء بعرفة (3012)، والترمذي في أبواب الحج- ما جاء في الوقوف بعرفات (884)، وابن ماجه في المناسك- الدفع من عرفة (3018).

[31] أخرجه البخاري في التفسير- باب ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ (4521).

[32] أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (591)، والترمذي في الصلاة (300)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (928)، من حديث ثوبان رضي الله عنه.

[33] أخرجه البخاري في الدعوات (6306)، والنسائي في الاستعاذة (5522)، والترمذي في الدعوات (3393).

[34] أخرجه البخاري في الأذان (834)، ومسلم في الذكر والدعاء (2705)، والنسائي في السهو (1302)، والترمذي في الدعوات (3531)، وابن ماجه في الدعاء (3835).

[35] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 355- 356).

[36] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 389).

[37] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 357).

[38] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2887)، والترمذي في الزهد (2375)، وابن ماجه في الزهد (4136).

[39] أخرجه مسلم في الإيمان (181)، والترمذي في صفة الجنة (2552)، وابن ماجه في المقدمة (187)، من حديث صهيب رضي الله عنه.

[40] أخرجه البخاري في الدعوات (6389)، وأبو داود في الصلاة (1519)، وأحمد (3/ 10).

[41] أي: ضعف.

[42] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2688)، والترمذي في الدعوات (3487)، وأحمد (3/ 107).

[43] أخرجه الشافعي في «مسنده» ص(127)، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 356).

[44] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 359).

[45] أخرجه الترمذي في الزهد (2377)، وابن ماجه في الزهد (4109)- وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».

[46] أخرجه أبوداود في المناسك- في الرمل (1888)، والترمذي في الحج- ما جاء كيف ترمى الجمار (902)، وأحمد (6/ 64)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 459). وقال: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي.

[47] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 550)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 360).

[48] أخرجه مسلم في الصيام- تحريم صوم أيام التشريق (1141)، وأبو داود في الأضاحي (2830)، والنسائي في الفرع والعتيرة (4230)، وابن ماجه في الذبائح (3167)، وأحمد (5/ 76).

[49] أخرجه ابن ماجه في الصيام (1719)، والطبري في «جامع البيان» (3/ 553).

[50] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 554)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/ 244).

[51] أخرجه أحمد (4/ 153).

[52] سبق تخريجه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.04 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.41 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.53%)]