الحكمة ضالة المؤمن (56)
لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين
يرشد الإسلام أتباعه إلى استعمال عقولهم الرشيدة، وتوجيه أفهامهم السديدة فيما يعود عليهم بصلاح دنياهم وأخراهم، فالله عز وجل قد أمد الإنسان بوسائل الإدراك المختلفة، وجعل له العقل والقلب اللذين يميز بهما ما يرد عليه من خواطر وعلوم ومشاعر ورغبات، ويتنبه إلى ما يحيط به من أخطار وأضرار ومفاسد، فيسلك طريقه سليما مما يؤذيه في دنياه، أو يضره في دينه وأخراه.
فالمسلم أريب، لبيب، فطن، عاقل، من ذوي الأفهام النيـّرة، والأذهان الصافية، وليس بطيء الحس، ولا سقيم الفهم، ولا أغلف القلب، أو أعمى البصيرة.
يدل على هذا المعنى حديث الشيخين عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَال: «لاَ يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ».
وهذا الحديث له قصة ذكرها أصحاب الحديث، كما قال النووي وغيره: أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَسَرَ أَبَا عَزَّة الشَّاعِر يَوْم بَدْر، فذكر فقرا وعيالا، فمَـنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ، فعَاهَدَهُ أبو عزة أَلا يُحَرِّض عَلَيْهِ وَلا يَهْجُوهُ، فأطلقَه النبي صلى الله عليه وسلم فَلَحِقَ بقَوْمِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى التَّحْرِيض وَالْهِجَاء، ثُمَّ أَسَرَهُ يَوْم أُحُد،فَسَأَلَهُ الْمَنّ، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِن لَا يُلْدَغ مِنْ جُحْر مَرَّتَيْنِ» وأمر به فقتل.
قال الحافظ ابن حجر: «فيستفاد من هذا أن الحلم ليس محمودا بإطلاق، كما أن الجود ليس محمودا مطلقا، وقد قال تعالى في وصف الصحابة: {أشداء على الكفار رحماء بينهم}».
فهذا الحديث له أهمية في حياة المسلم، كما قال ابن بطال: «فيه أدب شريف أدّب به النبي صلى الله عليه وسلم أمته، ونبههم كيف يحذرون مما يخافون سوء عاقبته»، والمسلم يخاف سوء العاقبة في الدنيا قبل الآخرة، والحديث قد دل على ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن على المسلم الحذر مما يضره في دينه وآخرته:
فذكر النووي أن المؤمن المراد في الحديث هو الفطن الذي لا يخدع في أمور الآخرة دون الدنيا.
وهو ما ذهب إليه الشيخ ابن سعدي فقال: «هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لبيان كمال احتراز المؤمن ويقظته، وأن المؤمن يمنعه إيمانه من اقتراف السيئات التي تضره مقارفتها، وأنه متى وقع في شيء منها، فإنه في الحال يبادر إلى الندم والتوبة والإنابة.
ومن تمام توبته: أن يحذر غاية الحذر من ذلك السبب الذي أوقعه في الذنب، كحال من أدخل يده في جحر فلدغته حية، فإنه بعد ذلك لا يكاد يدخل يده في ذلك الجحر؛ لما أصابه فيه أول مرة».
وقال أيضا: «وقد حذر الله المؤمنين من العود إلى ما زينه الشيطان من الوقوع في العاصي فقال: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين}، ولهذا فإن من ذاق الشر من التائبين تكون كراهته له أعظم، وتحذيره وحذره عنه أبلغ؛ لأنه عرف بالتجربة آثاره القبيحة».
وقال: «وكما أن الإيمان يحمل صاحبه على فعل الطاعات، ويرغبه فيها، ويحزنه لفواتها، فكذلك يزجره عن مقارفة السيئات، وإن وقعت، بادر إلى النزوع عنها، ولم يعد إلى مثل ما وقع فيه».
الوجه الثاني: أن على المسلم الحذر مما قد يضره في دنياه:
ذكر المحدثون أن هذا الحديث يروى على وجهين:
- أحدهما: بضم الغين على الخبر، ومعناه: المؤمن الممدوح، وهو الكيـّس الحازم الذي لا يستغفل، فيخدع مرة بعد أخرى، ولا يفطن لذلك، قَال النووي: «الرواية المشهورة برفع الغين»، وقال الحافظ ابن حجر: «هو بالرفع على صيغة الخبر، قال الخطابي: قَوله: (لا يُلْدَغ) هَذَا لَفْظه خَبَر وَمَعْنَاهُ أَمْر، أَيْ لِيَكُنْ الْمُؤْمِن حَازِمًا حَذِرًا لَا يُؤْتَى مِنْ نَاحِيَة الْغَفْلَة فَيُخْدَع مَرَّة بَعْد أُخْرَى، وَقَدْ يَكُون ذَلِكَ فِي أَمْر الدِّين كَمَا يَكُون فِي أَمْر الدُّنْيَا، وَهُوَ أَوْلاهُمَا بِالْحَذَر.
والوجه الأخر: بكسر الغين على النهي أن يؤتى من جهة الغفلة.
وعلى هذا فيكون المراد بالمؤمن في هذا الحديث (الكامل)، كما قرره الحافظ، الذي أوقفته معرفته على غوامض الأمور حتى صار يحذر مما سيقع، وأما المؤمن المغفل فقد يلدغ مرارا.
قال الشيخ ابن سعدي: «وفي هذا الحديث: الحث على الحزم والكيس في جميع الأمور، ومن لوازم ذلك: تعرّف الأسباب النافعة ليقوم بها، والأسباب الضارة ليتجنبها، ويدل على الحث على تجنب أسباب الريـّب التي يخشى من مقاربتها الوقوع في الشر».
وذهب بعض العلماء إلى أن معنى الحديث: من أذنب ذنبا فعوقب به في الدنيا فإنه لا يعاقب به في الآخرة.
ويعلق ابن حجر قائلا: إن أراد قائل هذا أن عموم الخبر يتناول هذا فيمكن، وإلا فسبب الحديث يأبى ذلك، ويؤيده قول من قال: فيه التحذير من التغفيل، وإشارة إلى استعمال الفطنة.
وقال أبو عبيد: معناه لا ينبغي للمؤمن إذا نكب من وجه أن يعود إليه. قال ابن حجر: هذا هو الذي فهمه الأكثر ومنهم الزهري راوي الحديث، فأخرج ابن حبان من طريق سعيد بن عبد العزيز قال: وقيل للزهري لما قدم من عند هشام بن عبد الملك: ماذا صنع بك؟ قال: أوفى عني ديني، ثم قال: يا بن شهاب تعود تدّان؟ قلت: لا، وذكر الحديث».
وقد أخرج البخاري تعليقا عن معاوية رضي الله عنه أنه قال: «لا حكيم إلا ذو تجربة»، وذكر ابن حجر عنه لفظا آخر: «لا حلم إلا بالتجارب»، وساق حديثا ضعيفا وهو: «لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة»، ونقل عن ابن الأثير أن معناه: لا يحصل الحلم حتى يرتكب الأمور ويعثر فيها فيعتبر بها ويستبين مواضع الخطأ ويجتنبها، وقال غيره: المعنى: لا يكون حليما كاملا إلا من وقع في زلة، وحصل منه خطأ، فحينئذ يخجل، فينبغي لمن كان كذلك أن يستر من رآه على عيب فيعفو عنه، وكذلك من جرب الأمور علم نفعها وضررها فلا يفعل شيئا إلا عن حكمة.
والخلاصة أن المسلم ينبغي أن يكون من أكمل الناس عقلا، وأسدهم رأيا، يحسن توجيه نعم ربه إلى ما فيه خيرا الدنيا والآخرة، ويحذر أسباب الشر والفساد وما يضره في دينه ودنياه وآخرته، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع