عرض مشاركة واحدة
  #14  
قديم 26-03-2024, 03:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,887
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة

الدرس الرابع عشر: الثبات عند الممات


السيد مراد سلامة



الحمد لله، شهِدت بوجوده آياته الباهرة، ودلت على كرم جوده نعمه الباطنة والظاهرة، وسبَّحت بحمده الأفلاك الدائرة، والرياح السائرة، والسحب الماطرة، هو الأول فله الخلق والأمر، والأخر فإليه الرجوع يوم الحشر، هو الظاهر فله الحكم والقهر، هو الباطن فله السر والجهر، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبُه، إذا سار سار النور معه، وإذا نام فيَّح الطيب مضجعَه، وإذا تكلم كانت الحكمة مرفعه.
هو المختار من البرايا هو
الهادي البشير هو الرسول
عليه من المهيمن كل وقت
صلاة دائمًا فيها القبول


وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه، وتَمسك بسنته واقتدى بهديه، واتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين.

أولًا: الاستقامة:
وهي من أعظم الأسباب والوسائل للثبات عند الممات؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخرة وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ﴾[فصلت: 30، 31].

وقال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الأحقاف: 13].

والاستقامة كلمة جامعة لكل ما أمر الله به، وكل ما نهى عنه، واختلف العلماء في معناها، فقال: أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "ألا تشرك بالله شيئًا":
وفسَّرها عمر رضي الله عنه بأنها الاستقامة على الأمر والنهي، وألا تروغ روغان الثعالب، وفسَّرها ابن تيمية: بالمحبة والعبودية لا يلتفتون عنها يَمنة ولا يسرة، والله سبحانه قد بشَّر أهل الاستقامة بالروح والريحان، ورُبَّ راضٍ غير غضبان، فالملائكة تتنزل عليهم لتثبتهم على الإيمان ومعهم التحف الربانية - البشارة بالجنة والنجاة من النار - وها هم أهل الاستقامة على فراش الموت لَما احتُضر أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: لا تبكوا عليّ فإني لم أتنطف بخطيئة منذ أسلمت.

والعماد المقدسي قال عنه ابن قدامة: من عمري أعرِفه أن ما عرَفت أنه عصى الله معصية، فلما جاءه الموت جعل يقول: يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث، واستقبل القبلة وتشهَّد.

"أما أهل الكفر والفجور، فإنهم يحرمون الثبات في أشد الأوقات كربةً، فلا يستطيعون التلفظ بالشهادة عند الموت، وهذا من علامات سوء الخاتمة، كما قيل لرجل عند موته: قل لا إله إلا الله، فجعل يحرك رأسه يمينًا وشمالًا يرفض قولها، وآخر يقول عند موته: هذه قطعة جيدة، هذه مشتراها رخيص، وثالث يذكر أسماء قطع الشطرنج، ورابع يدندن بألحان أو كلمات أغنية، أو ذكر معشوق؛ ذلك لأن مثل هذه الأمور أشغلتهم عن ذكر الله في الدنيا، وقد يرى من هؤلاء سواد وجه أو نتنَ رائحة، أو صرف عن القبلة عند خروج أرواحهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أما أهل الصلاح والسنة، فإن الله يوفقهم للثبات عند الممات، فينطقون بالشهادتين.

ثانيًا: تقوى الله:
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾[آل عمران: 102].

قال شيخ أحمد فريد - حفظه الله – وعد - الله عز وجل - أهل التقوى بالمخرج والنجاة من كل ضيق، فقال عز وجل: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطلاق: 2].

ولا شك أن العبد في حال السكرات في شدة وحرج والمخرج والنجاة في الذكر والطاعة، والنطق بكلمة التوحيد؛ كما وعد الله - عز وجل - المتقين اليسر بعد المشقة، فقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 4].

ويقول الشاعر:
تزوَّدْ مِن التقوَى فإنك لا تَدرِي
إذا جَنّ ليلٌ هل تعيشُ إلى الفجرِ
فكم مِن فتًى أمسَى وأصبحَ ضاحكًا
وقد نُسِجَتْ أكفانُه وهو لا يدرِي
وكم مِن عروسٍ زينُوها لزوجِها
وقد قُبضَتْ أرواحهمْ ليلةَ القدْرِ
وكم مِن صحيحٍ ماتَ مِن غيرِ عِلَّةٍ
وكم مِن سَقيمٍ عاش حِينًا مِن الدهرِ


ثالثًا: حسن الظن بالله تعالى:
فليجعل المريض حسن الظن بالله شعاره ودثاره، وليقوِ نفس رجائه، فإن الخوف سوط تساق به النفس إلى الجد، وما بقي في الناقة موضع لشوط إنما حسن الظن جدًّا؛ عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت، فقال له: كيف تجدك؟ قال أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمَّنه مما يخاف، عن حيَّان أبي النَّضر، قال: دخلت مع واثلة بن الأسقع على أبي الأسود الجرشي في مرضه الذي مات فيه، فسلَّم عليه وجلس، قال: فأخذ أبو الأسود يمين واثلة، فمسح بها على عينيه ووجهه لبيعته بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له واثلة: واحدة أسألك عنها، قال: وما هي؟ قال: كيف ظنُّك بربِّك؟ قال: فقال أبو الأسود، وأشار برأسه؛ أي: حسن، قال واثلة: أبشر إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله - عزَّ وجلَّ -: أنا عند ظنِّ عبدي بي فليظنَّ بي ما شاء"[1].

عن المعتمر بن سليمان قال: قال لي أبي حين حضرته الوفاة يا معتمر، حدثني بالرخص لعلي ألقى الله عز وجل وأنا حسن الظن به"[2].

عن عطاء بن السائب قال: "دخلنا على أبي عبد الرحمن نعوده، فذهب بعض القوم يرجيه، فقال: إني لأرجو ربي وقد صمتُ له ثمانين رمضان"[3].

رابعًا: الصدق مع الله تعالى:
فإن الصدق يهدي إلى البر، والصدق ينجي صاحبه، الصدق منجاة، ومتى على علام الغيوب من عبده صدق النية وصدق السريرة ثبَّته - سبحانه وتعالى - في دنياه وآخرته، ولقد أمرنا سبحانه أن نكون من جملة الصادقين؛ يقول - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119].

والصدق أساسُ بناء الدين وعمود فسطاط اليقين، ومن لم يكن معه الصدق فهو من المنقطعين الهالكين، ومن كان معه الصدق أوصَله إلى حضرة ذي الجلال، وكان سببًا في حسن الخاتمة وطيب المآل؛ قال أنس: غاب عمى أنس بن النضر - سُمِّيتُ به - لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فشق عليه وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه، لئن أراني الله مشهدًا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليَريَّن الله ما أصنع، قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فاستقبل سعد بن معاذ، فقال له أنس: يا أبا عمرو، أين واهًا لريح الجنة أجده دون أُحد.

قال: فقاتلهم حتى قتل، فوُجِدَ في جسده بضْعُ وثمانون من ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته - عمتي الرُّبَيِّع ابنة النضر - فما عرفت أخي إلا ببنانه، قال: فنزلت هذه الآية: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ ﴾ [الأحزاب: 23]، فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفى أصحابه رضي الله عنهم"[4].

عن الحارث الغنوي قال: آلى ربعي بن حراش ألا يضحك حتى يعلم في الجنة هو أو في النار؟ قال الحارث الغنوي: فلقد أخبرني غاسله أنه لم يزل مبتسمًا على سريره، ونحن نغسله حتى فرغنا من غسله رحمه الله تعالى[5].

خامسًا: التوبة الصادقة:
ومن وسائل الثبات عند الممات التوبة الصادقة التي نبعت من مصدر الإيمان، والخوف من الله تعالى، التوبة التي اكتملت فيها شروطها، لا توبة الكذابين التي لا تتجاوز اللسان ولا تعدوه، فتلك تهلك صاحبها ولا تنفعه؛ لذا طلب الله من معشر المؤمنين أن يتوبوا إليه توبة صادقة، فهي التي تورث صاحبها الفلاح والسعادة؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ﴾ [التحريم: 8].

وهيَّا لنعيش في أكناف التائبين أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانًا، ثم خرج يسأل، فأتى راهبًا، فسأله فقال: هل من توبة؟ قال: لا، فقتله وجعل يسأل، فقال رجل: ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت فناء بصدره نحوها ومات، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقرَّبي، وأوحى إلى هذه أن تباعدي، قال: فوجدوه أقربَ إلى هذه بشبر، فغفَر له"[6].

وهذا ماعز بن مالك جاء النبي صلى الله عليه وسلم تائبًا من الزنا وقال: طهِّرني، وفي الحديث: "لقد تاب توبة لو قُسِمت بين أمة لوسِعتهم"[7].

أخي المسلم، فهذه بعضُ وسائل أسباب الثبات عند الممات، فهيَّا لنرى أهل الثبات في الصفحات الآتية.

[1] أحمد (3/ 491)، والدارمي (2731) ، والحاكم (4/ 240)، وقال: صحيح الإسناد ولم يُخرجاه، وقال الألباني في صحيح الجامع: صحيح (4316).

[2] الثبات عند الممات (ص: 69).

[3] حسن الظن بالله (ص: 113).

[4] صحيح البخاري (2805)

[5] صفة الصفوة (2/ 22)

[6] متفق عليه، البخاري (3283) باب ﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ﴾ [الكهف: 9]، مسلم (2766) باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، واللفظ له.

[7] أخرجه مسلم (3/ 1321، رقم 1695)، وأبو داود (4/ 149، رقم 4433).









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 25.54 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 24.91 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.46%)]