عرض مشاركة واحدة
  #13  
قديم 25-03-2024, 02:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,887
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة

الدرس الثالث عشر أسباب: الثبات على المصائب

السيد مراد سلامة



الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخِرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المجاهدين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ناشري لواء الدين، وعلى من تبِعهم من سلف هذه الأمة وخلَفها ممن جاهد وبذل ورافَق ونافَح في كل وقت وحين.

اعلم - زادك الله علمًا - أنه من استخبر العقل والنقل بأن الدنيا دار المصائب والشرور، وليس فيها لذة على الحقيقية، إلا وهي مشوبة بالكدر، فما يظن في الدنيا أنه شرابٌ فهو سراب، وعمارتها وإن حسُنت صورتها خراب، والعجب كل العجب ممن يده في سلة الأفاعي كيف ينكر اللسع، وأعجب منه من يطلب من المطبوع على الضر النفع قال بعض الأدباء:

طُبعت على كدرٍ وأنت تريدها
صفوًا من الأقدار والأكادر



قال بعض السلف: رأيت جمهور الناس ينزعجون لنزول البلاء انزعاجًا يزيد عن الحد، كأنهم ما علموا أن الدنيا على ذا وُضعت، وهل ينتظر الصحيح إلا السقم والكبير إلا الهرم، والموجود سوى العدم؟!

قال الشاعر:

على ذا مضى الناس
اجتماع وفرقة
وميت ومولود
وبشر وأحزان

ثم قال: ولعمري إن أصل الانزعاج لا ينكر؛ إذ الطبع مجبول على الأمن من حلول المنايا، وإنما ينكر الإفراط فيه والتكليف، كمن يخرق ثيابه ويلطم وجهه، ويعترض على القدر، فإن هذا لا يرد فائتًا، لكنه يدل على خَور الجازع ويوجب العقوبة، وسبب ذلك والله أعلم ضعف الإيمان بالآخرة والانشغال عنها بالعاجلة؛ قال الله تعالى: ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [النجم: 29].

فلا هم لهم إلا الدنيا ولا أسفَ إلا عليها، والعين المتطلعة إلى الآخرة ضعيفة جدًّا لا تكاد ترى، وقد عمَّ البلاء أهلَ هذا الزمان - نعوذ بالله من الخذلان - فالدنيا لا تخلو من بلية ولا تصفو من محنة ورزية؛ كما قال القائل:
فمؤجَّلٌ يلقى الرَّدى في غيره
ومعجَّل يلقى الردى في نفسهِ

فكان لابد على الطريق من وسيلة تثبت على الإيمان عند حلول المصائب ونزول النكبات، وها هي بين يديك جمعتها لك من بطون الكتب، ولقد ذكر ابن القيم الأسباب المعينة على الصبر والتي تثبت العبد عندما تحل عليه مصيبة:
أولًا: قال: والصبر على البلاء ينشأ من عدة أسباب:
شهود جزائها وثوابها:قلت: الحيوان الأعجمي الذي لا عقل له يدرِّبه صاحبه، فيصبر على السير على الحبال، واقتحام النيران وخوض الصعاب؛ طمعًا في قطعة لحم يحظى بها عند إتمام فقرته يوم العرض، فاصبر أنت يا صاحب العقل على ما هو دون ذلك - محن الزمان - طمعًا فيما أعده الله للصابرين من جزاء يوافيهم يوم العرض، ولأن شمس الأجر فوق رؤوسهم الصالحين بازغة لا تغيب، ساطعة لا تجبها غمامة شكٍّ، أو سحابة هوى، فقد كان كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم: "لأحدهم أشد فرحًا بالبلاء من أحدكم بالعطاء"[1].

فرحًا حقيقيًّا من أعماق القلب من علاماته عدم الشكي، قال مغيرة ذهبت عين الأحنف فقال: "ذهبت أربعين سنة ما شكوتها لأحد".

فيها أخي المسلم - حتى تثبت على طريق الإيمان لنشاهد فجر الأجر "محبة الله" والله يحب الصبارين".

عظم الثواب: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء"[2].

تكفير السيئات: أخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: "لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في جسده، وفي ماله وفي ولده، حتى يلقى الله عز وجل وما عليه خطيئة"[3].

قال الفضيل: إن الله عز وجل ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالخير.

إلى غير ذلك من ثواب عظيم يدعو المسلم إلى الاستسلام لقضاء الله وقدره والثبات على دينه.

ثانيًا: قال ابن القيم: شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها.
قلت: كما أشرت في الأحاديث الماضية، ومنها ما أخرجه البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يُصيبه أذى، شوكة فما فوقها، إلا كفر الله بها سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها"[4].

ثالثًا: مما يثبت المسلم على إيمانه عند المصيبة؛ يقول ابن القيم: شهود القدر السابق الجاري بها، وأنها مقدرة في أم الكتاب قبل أن يخلق، فلا بد منها فجزعه لا يزيده إلا بلاء؛ قلت: يقول المولى - سبحانه وتعالى -: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22]، وقال سبحانه: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ [التغابن: 11]، قال علقمة: هي ميبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم يكتُبه الله لك، لم يقدروا على ذلك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتُبه الله لك، لم يقدروا على ذلك، قضي القضاء وجفت الأقلام، وطُويت الصُّحف"[5].

فالمصيبة كيرُ العبد، فإما أن يخرج ذهبًا أو خبثًا كما قيل:

سبكناه ونَحسَبه لُجينًا
فأبدى الكيرُ عن خَبَثِ الحديد



فإن لم ينفعه هذا الكِيرُ في الدنيا، فبيْنَ يديه الكِيرُ الأعظم، فإذا علم العبد أنَّ إدخاله كِيرَ الدنيا ومَسبكَها، خيرٌ له من ذلك الكِير والمسبك، وأنه لا بد من أحد الكِيرَين، فليعلم قدرَ نعمة الله عليه في الكِير العاجل.

الرابع: يقول ابن القيم: شهوده حق الله عليه في تلك البلوى، وواجبه فيها الصبر بلا خلاف بين الأمة أو الصبر والرضا على أحد القولين، فهو مأمور بأداء حق الله وعبوديته عليه في تلك البلوى، فلا بد له منه وإلا تضاعفت عليه، ويقول أيضًا: كل أحد لا بد أن يصبر على بعض ما يكره إما اختيارًا، وإما اضطرارًا، فالكريم يصبر اختيارًا لعلمه بحسن عاقبة الصبر، وأنه يحمد عليه، ويذم على الجزع، وأنه إن لم يصبر، لم يرد الجزع عليه فائتًا، ولم ينتزع عنه مكروهًا، وإن المقدور لا حيلة في دفعه، وما لم يقدر لا حيلة في تحصيله، فالجزع ضره أقربُ من نفعه، قال بعض العقلاء: العاقل عند نزول المصيبة يفعل ما يفعله الأحمق بعد شهر كما قيل... فإذا كان آخر الأمر الصبر والعبد غير محمود، فما أحسن به أن يستقبل الأمر في أوله بما يستدبره الأحمق في آخره"[6].

الخامس: شهود ترتبها عليه بذنبه؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]، فهذا عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة، فشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في دفع تلك المصيبة؛ قال علي بن أبي طالب: ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رُفع بلاء إلا بتوبة.

السادس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها، وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه، فإن لم يوف قدر المقام حقَّه، فهو لضعفه، فلينزل إلى مقام الصبر عليها، فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم وتعدَّى الحق.

السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة هي داء نافع ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته الرحيم به، فليصبر على تجرُّعه ولا يتقيَّأه بتسخُّطه وشكواه، فيذهب نفعه باطلًا.

شيبان الراعي لسفيان: يا سفيان عُدَّ منعَ الله إياك عطاءً منه لك، فإنه لم يمنعك بخلًا، إنما منعك لطفًا"[7].
كم نعمة لا تستقلَّ بشكرِها
لله في جنب المكاره كامنهْ

وقال الحسن لا تكرهوا النقمات الواقعة والبلايا الحادثة، فلرُب أمرٍ تكرهه فيه نجاتك، ولرب أمر تؤثره فيه عطبُك"[8].

وقال التنوخي: المحن آداب الله عز وجل لخلقه، وتأديب الله بفتح القلوب والأسماع، والأبصار"[9].

إسحاق إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول الكاتب: يصف الفضل بن سهل، ويذكر تقدمه، وعلمه، وكرمه، وكان مما حدثني به أنه برئ من علة كان فيها، فجلس للناس، وهنَّوه بالعافية، فلما فرغ الناس من كلامهم، قال الفضل: إن في العلل لنعمًا لا ينبغي للعاقل أن يجهلها: تمحيص للذنب، وتعرُّض لثواب الصبر، وإيقاظ من الغفلة، وإذكار بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء للمثوبة، وحضٌّ على الصدقة، وفي قضاء الله وقدره بعدُ الخيار[10].

الثامن: أن يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم، ما لم تحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الداء ومرارته، فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره؛ قال تعالى ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216]، وقال الله تعالى: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19]، وفي مثل هذا القائل:

لعل عتبَك محمودٌ عواقبُه
وربما صحَّت الأجسام بالعلل[11]



التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتُهلكه وتقتُله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبيَّن حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا، فإن ثبت اصطفاه واجتباه، وخلع عليه خلع الإكرام، وألبسه ملابسَ الفضل وجعل أولياءه وحزبه خدمًا له وعونًا له، وإن انقلب على وجهه، ونكص على عقبيه، طُرد وصُفع قفاه، وأُقصي وتضاعفت عليه المصيبة، وهو لا يشعر في الحال بتضاعُفها وزيادتها، ولكن سيعلم بعد ذلك بأن المصيبة في حقه صارت مصائب، كما يعلم الصابر أن المصيبة في حقه صارت نعمًا عديدة، وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلا صبر ساعة، وتشجيع القلب في تلك الساعة والمصيبة، لا بد أن تقلع عن هذا وهذا، ولكن تقلع عن هذا بأنواع الكرامات والخيرات وعن الآخرة بالحرمان والخِذلان؛ لأن ذلك تقدير العزيز العليم، وفضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم"[12].

العاشر: أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء والنعمة والبلاء، فيستخرج من عبوديته في جميع الأحوال، فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال، وأما عبد السراء والعافية الذي يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأنَّ به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته، فلا ريب أن الإيمان الذي يَثبُت على محل الابتلاء والعافية، هو الإيمان النافع وقت الحاجة، وأما إيمان العافية، فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل المؤمنين، وإنما يصحبه إيمان يثبت على البلاء والعافية، فالابتلاء كير العبد ومحك إيمانه، فإما أن يخرج تبرًا أحمرَ، وإما أن يخرج زغلًا مَحضًا، وإما أن يخرج فيه مادتان ذهبية ونحاسية، فلا يزال به البلاء حتى يخرج المادة النحاسية من ذهبه ويبقى ذهبًا خالصًا، فلو علم العبد أن نعمة الله عليه في البلاء ليست بدون نعمة الله عليه في العافية، لشغل قلبه بشكره ولسانه: اللهم أعني على ذكرك وشكر وحسن عبادتك، وكيف لا يشكر من قيَّض له ما يستخرج خبثه ونحاسه، وصيَّره تبرًا خالصًا يصلح لمجاورته والنظر إليه في داره، فهذه الأسباب ونحوها تُثمر الصبر على البلاء، فإن قوِيت أثمرت الرضا والشكر، فنسأل الله أن يسترنا بعافيته ولا يفضَحنا بابتلائه بمنه وكرمه"[13].

وهيَّا أخي المسلم - لنقف مع صور من الثبات على الإيمان أمام المصائب، وكيف ثبت أصحابها على الإيمان، وتقبلوا المصائب، وكأنها نعم جاءت إليهم من قبل الله تعالى ولله درُّ مَن قال:
كم نعْمَة لَا تستقلُّ بشكرها
لله فِي جَنب المكاره كامنه



[1] أخرجه ابن سعد (2/ 208)، وابن ماجه (2/ 1334، رقم 4024)، قال البوصيري (4/ 188): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.

[2] الترمذي (4/ 601، رقم 2396)، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (2/ 1338، رقم 4031).

[3] أخرجه أحمد (2/ 450، رقم 9810)، وهناد (1/ 238، رقم 402)، وابن حبان (7/ 176، رقم 2913)، والحاكم (4/ 350، رقم 7879) وقال: صحيح على شرط مسلم.

[4] أخرجه: البخاري 7/ 149 (5648)، ومسلم 8/ 14 (2571) (45).

[5] أخرجه: الترمذي (2516)، أحمد 1/ 307، صححه الألباني" في ظلال الجنة: 315، وصحيح الجامع: 6806.

[6] عدة الصابرين (ص: 40)

[7] صيد الخاطر (ص: 106).

[8] شفاء العليل (ص: 34).

[9] الفرج بعد الشدة للتنوخي (ص: 21).

[10] الفرج بعد الشدة للتنوخي (ص: 22).

[11] طريق الهجرتين (ص: 416).

[12] طريق الهجرتين (ص: 416).

[13] طريق الهجرتين (ص: 417)


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.43 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.81 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.06%)]