عرض مشاركة واحدة
  #11  
قديم 23-03-2024, 12:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,513
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة

الدرس الحادي عشر: وسائل الثبات على الإيمان

السيد مراد سلامة

الحمد لله ربِّ العالمين المنفرد بالقدم والبقاء والعظمة والكبرياء، والعز الذي لا يرام، الصمد الذي لا بصوره العقل ولا يحدُّه الفكر، ولا تدركه الأفهام، القدوس الذي تنزَّه عن أوصاف الحدوث، فلا يوصف بعوارض الأجسام، الغني عن جميع المخلوقات، فالكل مفتقر إليه وهو الغني على الدوام، سبق الزمان فلا يقال متى كان، وخلق المكان فلا يقال أين كان، فتبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو علي كل شيء قدير، إله عزَّ مَن اعتزَّ به فلا يُضام، وذلَّ مَن تكبَّر عن أمره ولقِي الآثام، أستغفر الله مما كان من زللي ومن ذنوبي وإفراطي وإصراري، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيُّه من خلقه وحبيبه.

صلوا على خير الأنام محمد
إن الصلاة عليه نور يعقد
من كان صلى عليه قاعد يُغفر له
قبل القيام وللمتاب يجدد




وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه، وتمسك بسنته، واقتدى بهديه، واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين.

أولًا: الاعتصام بكتاب الله تعالى:
ذلك الكتاب الذي نزله على نبيه صلى الله عليه وسلم منجمًا ليثبت به فؤاده؛ فالقرآن العظيم وسيلة الثبات الأولى، وهو حبل الله المتين، والنور المبين، من تمسك به عصمه الله، ومن اتبعه أنجاه الله، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم.

نص الله على أن الغاية التي من أجلها أنزل هذا الكتاب منجمًا مفصلًا هي التثبيت، فقال تعالى في معرض الرد على شُبه الكفار: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴾ [الفرقان: 32].

لماذا كان القرآن مصدرًا للتثبيت؟
1- لأنه يزرع الإيمان ويزكي النفس بالصلة بالله.

2- لأن تلك الآيات تتنزل بردًا وسلامًا على قلب المؤمن، فلا تعصف به رياح الفتنة، ويطمئن قلبه بذكر الله.

3- لأنه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع من خلالها أن يُقوِّم الأوضاع من حوله، وكذا الموازين التي تُهيئ له الحكم على الأمور، فلا يضطرب حكمه، ولا تتناقض أقواله باختلاف الأحداث والأشخاص.

- أنه يرد على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين؛ كالأمثلة الحية التي عاشها الصدر"[1].

ومن منطلق القرآن الكريم تتولد جميع وسائل الثبات، فهو يدعو إلى الصبر وإلى الاعتصام بحبل الله، وإلى تدبر قصص الأنبياء، وإلى الدعاء، فالقرآن الكريم أعظم مصدر للتثبيت؛ لأنه يزرع الإيمان ويقوي الصلة بالله، كما أنه العاصم من الفتن وكيد الشيطان وغوايته، كما أنه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع على ضوئها أن يُقوم الأوضاع التي حوله تقويمًا صحيحًا، كما أن القرآن الكريم بما اشتمل عليه من أحكام وصول وقواعد وحِكم وقصص يرد على الشبهات، فإن عُلِم ذلك كله لزِم على من أراد الثبات في الدنيا والآخرة، والفوز بالنعيم المقيم - أن يتخذ القرآن سميره وأنيسه، وأن يجعله رفيقه"[2].

ثانيًا: الإيمان بالقضاء والقدر:
فمن وسائل الثبات على الإيمان أن يؤمن العبد بالقضاء والقدر، وأن كل شيء مكتوب بقد، وأن كل شيء في كتاب، "فإذا آمن العبد بأنَّ كل ما يصيبه مكتوب، وآمن أن الأرزاق والآجال بيد الله، فإنه يقتحم الصعاب والأهوال بقلب ثابت وهامَةٍ مرفوعة، وقد كان هذا الإيمان من أعظم ما دفع المجاهدين إلى الإقدام في ميدان النزال غير هيَّابين ولا وَجِلين، وكان الواحد منهم بطلب الموت في مظانه، ويرمي بنفسه في مضائق يظن فيها هلكته، ثم تراه يموت على فراشه، فيبكي أن لم يسقط في ميدان النزال شهيدًا، وهو الذي كان يقتحم الأخطار والأهوال.

وكان هذا الإيمان من أعظم ما ثَبَّت قلوب الصالحين في مواجهة الظلمة والطغاة، ولا يخافون في الله لومة لائم؛ لأنهم يعلمون أن الأمر بيد الله، وما قدر لهم سيأتيهم.

وكانوا لا يخافون من قول كلمة الحق خشية انقطاع الرزق، فالرزق بيد الله، وما كتبه الله من رزق لا يستطيع أحدٌ منعه، وما منعه الله لعبد من عبيده لا يستطيع أحد إيصاله إليه[3].

ثالثًا: الاعتصام بالله والافتقار إليه:
يقول إبراهيم الدويش: "إذا عرفت الهدف وبان لك الطريق، ورضيت بهما، فإياك أن تعتمد على نفسك الضعيفة، وعلى حولك وقوتك، فأنت أخي مهما بلغت ضعيف، والله تعالى يقول ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، نعم لا حول ولا قوة لك إلا بالله، فعليك في زمن الفتن والشبهات والشهوات بالاعتصام بالله، أليس المتغيرات تتلاحق؟ أليس الشبهات والشهوات تموج كموج البحر، فلا عاصم لك إلا بالله.

تأمل: أخي لماذا نشكو للناس؟ لماذا تئن بضعف نفسك؟
اشكُ الأمر لله، كن مع الله، إذا سجدت فأعلن ضعفك وافتقارك لله، ﴿ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [آل عمران: 101].

ألست تريد الهداية إلى الصراط المستقيم؟
إذًا اعتصم بالله تعالى، أعلِن دائمًا في كل لحظة الضعف والافتقار أكثر من الدعاء والانكسار في مثل هذا الزمن، فلا عاصم لك من الفتن إلا الله، لا معين ولا منجي لك في زمن الشهوات إلا الله، لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يكثر في سجوده من قوله: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دينك"[4].

بل كان صلى الله عليه وسلم يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ"[5].

فأين نحن إذًا مِن تَكرار مثل هذا الأدعية خاصة في مثل هذا الزمن؟ أليس الله يقول في الحديث القدسي: "يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ"[6].

اطلبوا الهداية، افعلوا أسبابها، تجنَّبوا مواطن الشبهات، أَلِحُّوا على الله تعالى بالهداية، إذا سألت أخي فاسأل الله، إذا استعنت فاستعنْ بالله، وردد دائمًا، ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ﴾ [البقرة: 250]، كرِّر في كل وقت ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8].

يقولُ ابنُ القيِّم: ((أجمع العارفون بالله على أنَّ الخِذْلان: أنْ يكلك اللهُ على نفسِك، ويُخلِّي بينك وبينها، والتوفيقُ ألا يكِلك اللهُ إلى نفسِك، فالعبيدُ متقلِّبون بين توفيقهِ وخذلانِهِ، بلِ العبدُ في الساعةِ الواحدةِ ينالُ نصيبه منْ هذا وهذا، فيطيعهِ ويُرضيهِ، ويذكرُه ويشكرُه بتوفيقِه له، ثم يعصيهِ ويخالفُه، ويُسْخِطُه ويغفلُ عنه بخذلانِهِ له، فهو دائرٌ بين توفيقِه وخِذْلانِهِ، فمتى شهِد العبدُ هذا المشهد وأعطاهُ حقَّه، علِم شِدَّة ضرورتِه وحاجتِه إلى التوفيق في كلِّ نَفَسٍ وكلِّ لحظةٍ وطرْفةِ عيْنٍ، وأنَّ إيمانه وتوحيده بيدِهِ تعالى، لو تخلَّى عنه طرفة عينٍ لَثُلَّ عَرْشُ توحيدِه، ولخَرَّتْ سماءُ إيمانِهِ على الأرضِ، وأنَّ الممسك له: هو منْ يمسك السماء أنْ تقع على الأرضِ إلا بإذنِهِ))[7].

هيَّا أعلن افتقارك إلى الله واهتف:
فقيرًا جئتُ بابك يا إلهي
ولست إلى عبادك بالفقير
غني عنهم بيقين قلبي
وأطمَع منك في الفضل الكبير
إلهي ما سألت سواك عونًا
فحسبي العون من رب قدير
إلهي ما سألت سواك عفوًا
فحسبي العفو من رب غفور
إلهي ما سألت سواك هديًا
فحسبي الهدي من رب بصير
إذا لم أستعن بك يا إلهي
فمن عوني سواك ومن مُجيري؟


فالطلب العون من صاحب العون، واسمع إلى كلام ابن القيم - رحمه الله - إذ يقول: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ﴾ [إبراهيم: 27].

كنز عظيمٌ مَن وُفِّق لمظنته، وأحسن استخراجه واقتناءه، وأنفق منه فقد غنِم، ومن حُرِمَه فقد حُرِمَ، وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين، فإن لم يثبته وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما، وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه عبده ورسوله: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 74].

فكان أثبت الناس قلبًا وأثبتهم قولًا، والقول الثابت هو القول الحق والصدق، وهو ضد القول الباطل الكذب، فالقول نوعان ثابت له حقيقة، وباطل لا حقيقة له، وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها، فهي أعظم ما يثبت الله بها عبده في الدنيا والآخرة"[8].

فما مُنح عبد أعظم من منحة القول الثابت، ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج من يكون إليه في قبورهم ويوم معادهم.

رابعًا: الاستعانة بالأعمال الصالحة التي تثبت العبد عند حلول الفتن والشهوات:
رأس تلك الأعمال الصبر والصلاة؛ يقول المولى سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153].

يقول ابن القيم رحمه الله: "الصبرُ إذا قام به العبد كما ينبغي، انقلبتْ المِحنةُ في حقِّه مِنْحةً، واستحالتِ البليَّة عطيَّة، وصار المكروهُ محبوبًا، فإنَّ الله سبحانه وتعالى لم يبْتلِهِ عطيَّة، وصار المكروهُ محبوبًا، فإنَّ الله تعالى على العبدِ عبوديَّةً في الضَّراءِ، كما له عبوديَّةٌ في السَّرَّاءِ، وله عبوديَّةٌ عليه فيما يحبُّونه، والشأنُ في إعطاءِ العبوديَّةِ في المكارِهِ، ففيه تفاوتُ مراتبِ العبادِ، وبحسبِه كانتْ منازلُهم عند اللهِ تعالى"[9].

وصدق الله إذ يقول: ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [النحل: 127]، ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18].

وقال ابن عمر رضي الله عنه بالصبر أدركنا حسن العيش.
ولأهل السنة عند المصائب ثلاثة فنون: الصبر، الدعاء، وانتظار الفرج.

وقال الشاعر:
سقيناهموا كأسًا سقونا بمثلها
ولكننا كنا على الموت أصبرَ


وقال صلى الله عليه وسلم: "رحِمَ اللهُ مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هذَا فَصَبَرَ"[10].
دَبَبْتُ للمجدِ والساعون قد بلغوا
جَهْدَ النفوس وألقَوا دونه الأُزُرا
وكابَدوا المجدَ حتى ملَّ أكثرُهمْ
وعانَق المجد مَنْ أوفى ومنْ صبَرا
لا تَحسبِ المجد تمرًا أنتَ آكلُهُ
لنْ تبلغ المجد حتى تلْعق الصَّبِرا



[1] -وسائل الثبات على دين الله (ص: 8-9).

[2] - مجلة التوحيد "عدد ربيع الأول 1424"ص (34).

[3] -كتاب القضاء والقدر ص (111-112).

[4] - أخرجه أحمد (6/ 294) انظر صحيح الجامع: 4801، الصحيحة: 2091.

[5] - أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 46، رقم 29358)، وأحمد (4/ 123، رقم 17155)، وابن حبان (5/ 310، رقم 1974)، انظر الصحيحة: 3228، صحيح موارد الظمآن: 2047.

[6] - أخرجه مسلم (4/ 1994، رقم 2577)، وابن حبان (2/ 385، رقم 619)، والحاكم (4/ 269، رقم 7606).

[7] -كتاب لا تحزن (ص:163).

[8] - إعلام الموقعين (1/ 76).

[9] - لا تحزن (ص: 418).

[10] - أخرجه البخاري في: 57 كتاب فرض الخمس: 19 باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 27.91 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 27.28 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.25%)]