من تراجعات الشيخ ابن عثيمين (5)
باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد: فنستكمل بعد انقطاع سلسلة الأقوال التي قال بها الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- ثم تراجع عنها، والمسألةُ التي سأتطرق إليها في هذه المقالة تدور حول نزول القرآن الكريم هي تحديداً: «هل الذي كُتب في اللوح المحفوظ القرآن بأكمله؟ أم إن الذي في اللوح المحفوظ هو مجردُ ذكرِ القرآن والإشارةِ إليه والتنويهِ به فقط؟» حيث كان للشيخ -رحمه الله- تجاه هذه المسألة موقفان:
1 – الموقف الأول: أن الذي في اللوح المحفوظ هو التنويه بالقرآن فقط:
يقول الشيخ رحمه الله في «شرح السفارينية» (عام 1408هـ، شريط: 9، الوجه: أ «بتصرف يسير»):
«ألم يُروَ أن القرآن كان مكتوباً في اللوح المحفوظ ونزل إلى بيت العزة في السماء، ثم صار ينزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت المناسب الذي يؤمر بتنزيله فيه؟ الجواب: نعم، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه ولكن ظواهر القرآن تردُّه، ونحن لا نُطالَب إلا بما دل عليه القرآن، فأما قوله تعالى: {بل هو قرآنٌ مجيد، في لوحٍ محفوظ} (البروج 21 - 22)، فإنه لا يتعين أن يكون القرآن نفسه مكتوباً في اللوح المحفوظ لفظاً، بل يكون الذي في اللوح المحفوظ ذكره دون ألفاظه...،كما في قوله تعالى: {وإنه لفي زبر الأولين}؛ حيث معنى {وإنه} أي القرآن، {لفي زبر الأولين} والمراد بلا شك ذكره في زبر الأولين؛ لأنه ما نزل القرآن على أحد قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن المراد ذكره».
2 - الموقف الثاني: التراجع عن القول السابق:
حيث صرَّح الشيخ -رحمه الله- بذلك قائلاً: «وكنت قبلاً أقول: إن الذي في اللوح المحفوظ (ذكر القرآن)، لا (القرآن)؛ بناءً على أنه يعرج بلفظ المضي قبل الوقوع، وأن هذا كقوله تعالى - عن القرآن -: {وإنه لفي زبر الأولين} والذي في زبر الأولين ليس القرآن وإنما ذكر القرآن والتنويه عنه، ولكن بعد أن اطلعت على قول شيخ الإسلام -رحمه الله-(1) انشرح صدري إلى أنه مكتوبٌ في اللوح المحفوظ ولا مانع من ذلك، ولكن الله تعالى عند إنزاله إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم يتكلم به ويلقيه إلى جبريل، هذا قول السلف وأهل السنة في القرآن». اهـ كلامه من شرح الأربعين النووية (ص351 ط: ابن حزم، القاهرة).
قلتُ: وهذا القول الأخير الذي رجع إليه الشيخ رحمه الله يؤيده القرآن والأثر والإجماع؛ حيث يقول تعالى: {بل هو قرآنٌ مجيدٌ في لوحٍ محفوظٍ} وفي قراءة نافع {في لوحٍ محفوظٌ} أي إن القرآن محفوظ في اللوح. (انظر: شرح الشاطبية للشيخ القاضي، ص379).
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: «نزل القرآن كله مرة واحدة (من السماء العليا) في ليلة القدر في رمضان إلى السماء الدنيا – في رواية: (فجُعِل في بيت العزة) - فكان الله إذا أراد أن يحدث في الأرض شيئًا أنزله منه حتى جمعه». (انظر: تفسير الطبري (3/ 455، 23/ 147، 24/ 531).
ويقول القرطبي -رحمه الله- في تفسيره (2/ 297) - بعدما أشار لأثر ابن عباس رضي الله عنه- ما نصُّه: «ولا خلاف أن القرآن أُنزل من اللوح المحفوظ ليلة القدر، فوُضِع في بيت العزة في سماء الدنيا، ثم كان جبريل \ ينزل به». اهـ.
الهامش
(1) لعل كلامه المشار إليه هو ما جاء في مجموع الفتاوى (12/ 126 – 127): «ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره من السلف في تفسير قوله: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} أنه أنزله إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم أنزله بعد ذلك منجما مفرقا بحسب الحوادث، لا ينافي أنه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل نزوله كما قال تعالى: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ}، وقال تعالى: {إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون}، وقال تعالى: {كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة}، فإن كونه مكتوبا في اللوح المحفوظ. وفي صحف مطهرة بأيدي الملائكة لا ينافي أن يكون جبريل نزل به من الله سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل أو بعد ذلك، وإذا كان قد أنزله مكتوبا إلى بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر فقد كتبه كله قبل أن ينزله، والله تعالى يعلم ما كان وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، وهو سبحانه قد قدر مقادير الخلائق وكتب أعمال العباد قبل أن يعملوها كما ثبت ذلك في صريح الكتاب والسنة وآثار السلف». اهـ.
اعداد: محمد أحمد العباد