الأربعون الوقفية (16)
جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله؛ وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكام وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها.
أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملاً, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.
والحديث السادس عشر بيان لجواب بني النجار حين طلب منهم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أن يبيعوا أرضاً تخصهم لتكون موضع مسجد الرسول في المدينة، فقالوا: لا نأخذُ لهُ ثمناً أبدًا.
الحديث السادس عشر:
وقف بني النجار
عن أنس رضي الله عنه قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد، فقال: «يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هذا». قالوا: لا والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله.
حينما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأمر ببناء المسجد، أرسل إلى أعيان وكبار بني النجار، وطلب إليهم أن يبيعوا أرضاً لهم، ليبني عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجداً، فكان جوابهم أنهم جعلوا تلك الأرض وقفاً لله تعالى، لا يطلبون ثمناً لها من أحد، إلا الأجر والثواب من الله تعالى.
وفي لفظ آخر، قال أنس رضي الله عنهُ: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وأمر ببناء المسجد، فقال: «يا بني النجار، ثامنوني»، فقالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، فأمر بقبور المشركين فنبشت، ثم بالخرب فسويت، وبالنخل فقطع، فصفوا النخل قبلة المسجد».
وبنو النجار قبيلة من الأنصار وبطن من الخزرج، وهم بنو تَيْم اللات بن ثعلبة بن عمرو بن الجَمُوح، والحَائِط هو البستان المزروع بالنخيل إذا كان محاطاً، وثامنوني: أي بايعوني، وقدروا لي ثمن حائطكم لأذكر لكم الثمن الذي أختاره؛ بمعنى أعطوني حائطكم بالثمن على سبيل المساومة؛ وثامنه بكذا أي قدر معه الثمن.
فكان جواب بني النجار للنبي صلى الله عليه وسلم سريعاً، فالأمر لا يحتمل التأخير وطول المشورة؛ بأنهم لا يرغبون بثمنه من أحد إلا من الله، والمعنى لا نطلب الثمن بل نتبرَّع بِه، ونطلب الثمن أي الأجر من اللَّه تعالى.
وبهذا الفعل وفق الله تعالى بني النجار أن كان لهم بذلك الوقف أجراً إلى يوم الدين، فكل من شد الرحال من سائر أنحاء الدنيا إلى مسجد رسول الله امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم : «لا تشد الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول، ومسجد الأقصى». قال النووي في شرح حديث لا تشد الرحال: «فيه بيان عظيم فضيلة هذه المساجد الثلاثة، وميزتها على غيرها؛ لكونها مساجد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ولفضل الصلاة فيها، وفضيلة شد الرحال إليها».
وقال الحافظ في «الفتح»: «وفي الحديث فضيلة هذه المساجد، ومزيتها على غيرها؛ لكونها مساجد الأنبياء، ولأن الأول: قبلة الناس وإليه حجهم، والثاني: كان قبلة الأمم السالفة، والثالث: أسس على التقوى».
ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم هو المسجد الذي أسس على التقوى، وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام».
وقد اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه البقعة لتكون مسجداً يجتمع المسلمون فيه لأداء صلواتهم وعباداتهم، وشرع مع أصحابه في بنائه، فاستغرق ذلك شهوراً عدة، وأسس النبي صلى الله عليه وسلم المسجد في ربيع الأول من العام الأول من هجرته، وكان طوله سبعين ذراعاً، وعرضه ستين ذراعاً، أي ما يقارب 35 متراً طولاً، و30 عرضاً وارتفاع جدرانه: 2م، ومساحته الكلية: 1060 متراً مربعاً تقريباً، وجعل أساسه من الحجارة والدار من اللَّبِن وهو الطوب الذي لم يحرق بالنار، وكان النبي يبني معهم اللَّبِن والحجارة، وسقفه من الجريد، وكانت إنارة المسجد تتم بواسطة مشاعل من جريد النخل، توقد في الليل. وجعل للمسجد ثلاثة أبواب: الأول: في الجهة الجنوبية، والثاني: في الجهة الغربية، ويسمى باب عاتكة، ثم أصبح يعرف بباب الرحمة. والثالث: من الجهة الشرقية، ويسمى باب عثمان، ثم أصبح يعرف بباب جبريل.
منذ تلك اللحظة صار المسجد منارة تشع في أرجاء دولة الإسلام الناشئة، كما كان أيضاً بداية الانطلاقة جيوش الإسلام التي فتحت مشارق الأرض ومغاربها في عهده [ وعهد من جاء بعده من خلفاء المسلمين، ولبني النجار أجر جار منذ أن بني المسجد النبوي إلى يومنا هذا، بل إلى آخر الزمان؛ فكلما صلى فيه المصلون؛ واعتكف فيه المعتكفون؛ وقُرئ فيه القرآن، وعقدت في جنباته حلقات العلم، منذ أكثر من أربعة عشر قرناً إلى ما يشاء الله تعالى، لا يحصي أجورهم على أرضهم تلك إلا الله تعالى، وهذه بركة من بركات الوقف لله تعالى؛ فهنيئاً لبني النجار على هذا الأجر العظيم.
جاء في الفتح: «أن بني النجار تصدقوا بالأرض لله عز وجل، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولم ينكر قولهم، وهذا دليل على أنه إذا أوقف جماعة أرضًا مشَاعًا فهو جائز. فلو كان وقف المشاع لا يجوز لأنكر عليهم وبين لهم الحكم، واستدل بهذه القصة على أنه حكم المسجد يثبت للبناء إذا وقع بصورة المسجد ولو لم يصرح الباني بذلك، وعن بعض المالكية إن أذن فيه ثبت له حكم المسجد، وعن الحنفية إن أذن للجماعة بالصلاة فيه ثبت والمسألة مشهورة، ولا يثبت عند الجمهور إلا إن صرح الباني بالوقفية أو ذكر صيغة محتملة ونوى معها. وجاء أيضاً: «ومراد البخاري أن الوقف يصح بأي لفظ دل عليه إما بمجرده وإما بقرينة والله أعلم».
وفي الحديث فوائد نذكر منها: فيه جواز التصريح بالوقف وإشهاره وإعلانه، والجهر بطلب أجر ذلك العمل من الله تعالى.
وفيه مشروعية وقف الأرض للمسجد، وهذا هو الحائط الذي بني فيه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه صحة وقف المشاع الذي ينتفع به، والأرض المشاع يصح وقفها كما فعل بنو النجار وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وفيه أن الوقف يعقد بالتصريح، وأنه قد تم انعقاد الوقف قبل البناء، فيؤخذ منه أن من وقف أرضاً على أن يبنيها مسجداً، انعقد الوقف قبل البناء.
وفيه أهمية بناء المساجد، وأن إقامة المساجد أول وأهم ركيزة في بناء المجتمع الإسلامي. امتثالاً لقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}. وقول النبي صلى الله عليه وسلم : «من بنى مسجداً لله تعالى يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة». وما كان هذا الفضل من الله إلا لعظمة هذه المساجد وأهمية وجودها في الأرض للمسلمين، ولقد كان السلف الصالح -رضوان الله عليهم- إذا فتحوا بلاداً بنوا فيها المساجد، وتركوا فيها من يعلم الناس الخير، ويؤدي رسالة هذه المساجد، باعتبارها مركزاً إسلامياً لتفقيه المسلمين في شؤون دنياهم وآخرتهم، لم تكن لتنتشر المساجد هذا الانتشار في تاريخ الإسلام كله إلا بطريق الأوقاف.
ونظام الوقف في الإسلام يعد أحد أهم النظم التي أسهمت في تحقيق المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، وفي مقدمتها حفظ الدين من عقائد وعبادات وأحكام شرعها الله سبحانه وتعالى، والوقف حفظ الضرورات الخمس وفي مقدمتها حفظ الدين للمسلمين، بإقامة المساجد وحفظها ورعايتها، وفي حفظ الهوية الإسلامية، ونشر العلم.
والوقف وعاءٌ تصب فيه خيرات العباد، ويفيض بالخيرات على البلاد، وقد تنافس أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على الوقف الذي هو من أنفع أنواع الصدقات وأفضلها وأكثرها أجراً.
ومن إبداعات الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وروائعه حينما حرر القدس وفلسطين من أيدي الصليبيين، أنه أعاد الحياة إلى القدس بأن أوقف الأوقاف التي تصرف على إمام المسجد الأقصى والعاملين فيه، ثم تتالت الأوقاف التي طالت كل ما يصلح البلاد والعباد، لتسهيل شد الرحال والمكوث في القدس وتوفير الطعام والشراب والمأوى والتعليم والطبابة لأهل القدس وما حولها، وبذلك عادت الحياة إلى القدس سريعاً بعد أن غُيب عنها المسلمون 91 عاماً وهي في ظل رماح الاحتلال الصليبي.
وخلال أقل من سنة كانت القدس تُقصَد ويشد إليها الرحال ويتقرب إلى الله في مجاورة المسجد الأقصى وهو ثالث المساجد التي يشد إليها الرحال، وهذا من فقه الناصر صلاح الدين وحنكته أن أعاد الحياة الاقتصادية للقدس وبعودتها عاد النبض لكل مناحي الحياة.
وقد تتابع المسلمون جيلاً بعد جيل يوقفون الأراضي والبساتين والدور وأعمال الخير والبر، مما ملأ الدولة الإسلامية بالمنشآت والمؤسسات والتي بلغت حداً من الكثرة يصعب إحصاؤه والإحاطة به، وكان في مقدمة تلك البيوت المساجد التي تنافس المسلمون وما زالوا في إقامتها، لتكون ذخراً لهم في آخرتهم، وما من عهد من العهود الإسلامية إلا امتاز بإبداعات وقفية تفي بحاجات وضرورات لازمة لعهدهم.
اعداد: عيسى القدومي