كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
صفية الشقيفي
(17) محاولة عبد الجبار الهمداني وعبد القاهر الجرجاني بيان بلاغة القرآن
قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (17)
6- ثم جاء الرجل السادس، وهو معاصر للرماني المعتزلي، وللخطابي والباقلاني من أهل السنة، وهو قاضي القضاة (عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني)، البحر المتكلم المعتزلي، عمر دهرًا طويلاً قارب المئة، وتوفى سنة 415 من الهجرة، وكان في المعتزلة، كالقاضي الباقلاني في الأشاعرة من أهل السنة. وهو الذي نافح عن الاعتزال، وألف الكتب الكبار الجامعة للمذهب، وصحح منه وزاد فيه. ولكنه لم يكن كالقاضي الباقلاني في التذوق، وإن ضارعه في التكلم (أي في علم الكلام)، وقد كتب القاضي كتابه الكبير: (المغني)، فعقد جزءًا من أجزائه للكلام في مسألة (خلق القرآن)، وعقد جزءًا آخر للكلام في (إعجاز القرآن) وحشد في هذا الجزء مذاهب أهل الاعتزال في (إعجاز القرآن). وقد سلك قاضي القضاة عبد الجبار سبيل من سبقه من المتكلمين في الإعجاز، ولكنه في خلال ذلك أراد أن يزيد الإبهام عن معنى (الفصاحة) و(البلاغة)، ويفعل ما لم يفعله أحد قبله ممن كتب في (إعجاز القرآن). وكان سبيله إلى ذلك مجرد النظر على أسلوب المتكلمين، وهو أسلوب يعلوه صدأ كثير يجلب من الضرر أضعاف
[مداخل إعجاز القرآن: 88]
ما يجلب من النفع، ولا سيما فيما يتعلق بآداب اللسان وتذوق النفوس. وقد كان كلام القاضي خالصًا لعلم الكلام منذ بدأ ذلك في كتابه المغني (16: 197 – 315). ولكن هذه المحاولة في كشف (الإبهام) والتي تجاوزها القاضي الباقلاني، سوف يكون لها أثر عظيم في تاريخ اللغات والألسنة، والظاهر أن أقوال القاضي عبد الجبار المعتزلي، كانت قد استفاضت وأثارت ضروبًا من الصراع والمناقشة بين المعتزلة والأشاعرة، في شأن البلاغة والفصاحة، وامتد الصراع والنظر إلى من يخصهم تفسير (الفصاحة) و(البلاغة) من الأدباء والعلماء وأصحاب اللغة والشعر، ولكنه كان مشوبًا بالعصبية للمذهب والتأثر به، وهذا شيء ينبغي أن يتتبعه باحث حتى يقول فيه قولاً مرضيًا، من خلال دراسة كتب الآداب والنقد، فيما بين زمن حياة القاضي عبد الجبار، وزمن حياة عبد القاهر.
7- ثم جاء الرجل السابع، جاء أمة وحده، جاء ليضع ميسمه على علم قائم برأسه، لم يسبقه إلى مثله أحد، ثم جاء من بعده ليتموا عمله ببراعة واقتدار ومع ذلك ظل عمله هو منفردًا بسجاياه عن أعمالهم: هو الإمام أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني، لعله أدرك أواخر القرن الرابع، ثم توفى في
[مداخل إعجاز القرآن: 89]
القرن الخامس سنة 471 من الهجرة، وعبد القاهر فقيه شافعي، ومتكلم على مذهب أبي الحسن الأشعري، كان إمامًا في النحو واللغة والأدب، استوعب ما كان من علم أبي علي الفارسي وأبي الفتح بن جني، وهو الذي تولى شرح كتاب (الإيضاح) في النحو لأبي علي الفارسي، وسماه (المغني) وهو في ثلاثين مجلدًا. كانت نشأة عبد القاهر في زمن يموج موجًا بالعلم، وبالصراع بين المذاهب، وبعصبية صاحب كل بضاعة من العلم لبضاعته، وتناثرت أقوال غريبة وتضاربت، إذ كان الفساد قد دخل على الناس، فأصاب منه حصته كل عالم وجاهل، وقد وصف بعض هذا عبد القاهر نفسه في أول كتابه (دلائل الإعجاز)، وأفرد منهم بالذكر طائفة ترى أن (البيان) هو الإفهام لا غير، أما ما يسمونه (الفصاحة والبلاغة والبراعة) فلا معنى لها سوى الإطناب في القول، وأن غاية (البيان) أن تعرف أوضاع اللغة، ومغزى كل لفظة وأن تتجنب ظاهر اللحن في الإعراب فإذا فعلت ذلك فأنت (كامل الأداة، بالغ من البيان المبلغ الذي لا مزيد عليه، منته إلى الغاية التي لا مذهب بعدها!.
وقد طعنت هذه الطائفة في شيئين: في الشعر (فليس فيه كثير طائل، وأنه ليس إلا ملحة أو فكاهة، أو بكاء منزل أو طلل.
[مداخل إعجاز القرآن: 90]
أو إسراف قول في مدح أو هجاء وإنه ليس بشيء تمس الحاجة إليه في دين أو دنيا)، [دلائل الإعجاز: 6] = وطعنت في النحو. (فهو ضرب من التكلف، وباب من التعسف، وشيء لا يستند إلى أصل، ولا يعتمد فيه على عقل، وأن ما زاد منه على معرفة الرفع والنصف والجر وما يتصل بذلك، مما تجده في المبادئ، فهو فضل (أي زيادة) لا يجدى نفعًا، ولا يحصل منه على فائدة)، [دلائل الإعجاز: 6]، هكذا قال عبد القاهر. وأقول: هذا كله شبيه بما يقوله جهلة زماننا عن الشعر، وعن تبسيط النحو واختصاره، والبلاء واحد، ولكنه اليوم أخطر وأبشع وأخبث، لأن الحق اليوم أضعف ناصرًا وأقل عددًا].
وكان عبد القاهر نحويًا متكلمًا، ولكنه استودع قدرًا باهرًا من تذوق البيان، فلم يطمس عليه صدأ الكلام والمتكلمين، وزاده تذوقه بصيرة في (النحو). وقريب جدًا أن يكون منذ نشأته قد شارك في معمعة الصراع بين الأشاعرة والمعتزلة في كل أبواب (الكلام) التي شغلوا بها واصطرعوا عليها، ولكن يظهر أن عبد القاهر كان يجعل مشاركته هذه مشوبةً دائما بالحس المتذوق للبيان، فلما استوى واشتد، واتسع علمه بالأدب والشعر واللغة حتى صار فيها إمامًا، كانت تشغله قضية (إعجاز القرآن) التي هي جزء
[مداخل إعجاز القرآن: 91]
من أجزاء (علم الكلام)، وجزء مما اختلف فيه المختلفون من المتكلمين، وكتب عبد القاهر: (دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة)، وبعض رسائله، وكلها تدل على أنه لم يفته شيء مما قاله الجاحظ، وأبو عبد الله الواسطي، والرماني، والخطابي، والباقلاني، وعبد الجبار، فوقف على ألفاظ الجاحظ الموحية المثيرة، والتي كان ينعت بها ما يجده في نفسه من تذوق القرآن، واستوعب ما زاد عليه فيها الباقلاني، وهو يحاول أن يكشف الإبهام عن معنى (البلاغة).
وأنا أرجح أن الذي أرق عبد القاهر دهرًا طويلاً منذ أول اشتغاله بالعلم والأدب هو ما قاله الخطابي في افتتاح كتابه (انظر ص: 87 – 89)، حيث ذكر أن (البلاغة) معنى مبهم غامض، وأن المتكلمين، حين طلبوا وجه (إعجاز القرآن) اقترحوا أن يكون وجه الإعجاز هو (البلاغة)، وأن الناس قد جروا في تسليم هذه الصفة للقرآن على نوع من التقليد وضرب من غلبة الظن، وأنهم عاجزون عن تحديدها وتصويرها، وأن الكلامين يتفاضلان بالعذوبة في السمع وبهشاشة النفس له، ولكنهم لا يقفون على العلة التي تجعل لأحدهما على الآخر فضيلة ومزية.
فلما جاء القاضي عبد الجبار، رأس المعتزلة، حاول كشف الإبهام والغموض عن معنى (البلاغة) و(الفصاحة)، وسلك في
[مداخل إعجاز القرآن: 92]
ذلك مسلك المتكلمين، فطرح (الكلام) صدأه على ما كتب، ولم يستطع أن يزيد على ضروب من تشقيق الكلام، تجعل البلاغة والفصاحة ضربًا من الكلام، لا دروة من درى البيان. وظاهر أن أقوال القاضي عبد الجبار، كانت مما دخل في نزاع المتكلمين وغير المتكلمين من الأدباء والشعراء، وأن عبد القاهر كان قد شارك الأشاعرة، منذ نشأته، في حوارهم وحديثهم وجدالهم وفي كل ما نازعوا فيه المعتزلة، إلا أنه كان في خلال ذلك كله أديبًا متذوقًا، قبل أن يكون أشعريًا متكلمًا. ومع الأيام، ظهر له قدر الفساد الذي أحدثه القاضي عبد الجبار، ببعض ما قاله فيما حاول به كشف الإبهام عن (الفصاحة والبلاغة). هذا، فضلاً عما وصفه قبل من فساد الناس، وفساد أقوالهم في الشعر والنحو. وقد هيج هذا كله تذوقه الذي كان يزداد على الأيام صقلاً، فعزم عندئذ على أن يقول قولاً في كشف هذا الإبهام الذي يكتنف (الفصاحة والبلاغة). وقد دل عبد القاهر نفسه على صحة ما قلت، في أول كتابه (دلائل الإعجاز) (ص34 – 38) حيث يقول، في فصل مهم جدًا:
1- ولم أزل منذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلماء في معنى الفصاحة والبلاغة، والبيان والبراعة، وفي بيان المغزى من
[مداخل إعجاز القرآن: 93]
هذه العبارات وتفسير المراد بها، فأجد بعض ذلك كالرمز والإيماء والإشارة في خفاء، وبعضه كالتنبيه على مكان الخبئ ليطلب، وموضع الدفين ليبحث عنه ويخرج، وكما يفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه، وتوضع لك القاعدة لتبنى عليها. ووجدت المعول على أن ههنا نظمًا وترتيبًا، وتأليفًا وتركيبًا، وصياغة وتصويرًا، ونسجًا وتحبيرًا = وأن سبيل هذه المعاني في الكلام الذي هي مجاز فيه، سبيلها في الأشياء التي هي حقيقة فيها ...)، ثم يقول (ص30 – 31).
2- ولا يكفي في علم الفصاحة أن تنصب لها قياسًا ما، وأن تصفها وصفًا مجملاً، وتقول فيها قولاً مرسلاً، بل لا تكون من معرفتها في شيء حتى تفصل القول وتحصل، وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم، وتعدها واحدة واحدة، وتسميها شيئًا شيئًا، وتكون معرفتك معرفة الصنع الحاذق الذي يعلم علم كل خيط من الإبريسم الذي في الديباج، وكل قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطع، وكل آجرة من الأجر في البناء البديع).
فالفقرة الأولى دالة على أن كلام الخطابي في إبهام (البلاغة) كان يشغله ويهمه، والفقرة الثانية تشير إلى محاولة
[مداخل إعجاز القرآن: 94]
القاضي عبد الجبار في كشف الإبهام، وما في محاولته من العيب، فضلاً عن بعض أقواله الفاسدة التي أشار إليها عبد القاهر في مواضع من كتابه غير هذا الموضع. بيد أن الذي يهمني هنا أن أشير إليه، هو هذه الألفاظ الثمانية التي وضعت تحتها خطا في الفقرة الأولى. فهذه الألفاظ، كما ترى، هي نفس ألفاظ أبي عثمان الجاحظ. ومن بعده القاضي الباقلاني. كان أبو عثمان ينعت بها وبأخوات لها ما كان يجده في نفسه من تذوق هذا القرآن العظيم، حين أفزعته النتائج التي أفضت إليها (الصرفة) من سلب القرآن كل فضيلة، [كما بينت ذلك آنفًا ص65 – 69] وهي أيضًا ألفاظ الباقلاني، مع أخوات لها، كان يفزع إليها الباقلاني، حين يخامر قلبه الشك في إبهام هذه (البلاغة) ما هي؟ ولا يجد عند نفسه قدرة على الإبانة عنها، فيلجأ هو أيضًا عند ذلك إلى نعت ما يجد في نفسه من تذوق القرآن، بألفاظ الجاحظ، وبألفاظ أخرى استخرجها ببيانه وبراعته.
وقد قلت آنفًا إن أبا عثمان قد استطاع ببراعته وبيانه وتدفقه، أن يستخرج من أعماق اللغة نعوتًا لأقصى ما يجده في أغوار نفسه من أثر تذوق القرآن العظيم، فجاءته ألفاظ عظيمة الوقع في النفوس بإبهامها واستثارتها، وكان يبثها في سيا كلامه
[مداخل إعجاز القرآن: 95]
حاملة صدقه وإخلاصه وتدفقه ونفاذ تذوقه، فتألقت تألقًا يثير كوامن الخواطر. من مثل قوله (نظم القرآن، وبديع تركيبه، وغريب تأليفه ...) = فالذي لا أشك فيه أن هذه الألفاظ في كلام الجاحظ، ومن بعده الباقلاني، هي التي ظلت تقع في نفس عبد القاهر موقعًا بعد موقع، كما وصفها في الفقرة (1)، بأنها كالرمز الإيماء والتنبيه على مكان الخبيء إلى آخر ما قال الشيخ الإمام، وصدق. وكان عليه أن يحل رموز هذه الألفاظ، ويكشف عن خباياها، ويذهب المذاهب مع كل إيماءة وإشارة، فكانت تستجيب له مفاتحها، شيئًا بعد شيء، وذلك لأنها كانت تحمل صدق النعت ودقته، عن إحساس مرهف صادق، ببيان هذا القرآن العظيم. ومن تأمل هذه النعوت الصادقة الدقيقة، المعبرة عن أقصى الحقيقة في نفس أبي عثمان، وقد وصف هو نفسه ما بذله من الجهد فيها، فيما سلف (ص: 69 – 76] من تأملها استخرج عبد القاهر أصول كتابيه العظيمين: (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز)، وانفرد وحده في تاريخ آداب الأمم جميعًا بتأسيس علم لم يسبقه إلى مثله أحد، ولم يزل ما يتضمنه هذان الكتابان ساميًا سامقًا تعيي أقلام الدارسين والكتاب عن بلوغ بعض دراه الشامخة).
[مداخل إعجاز القرآن: 88-96]