عرض مشاركة واحدة
  #35  
قديم 29-02-2024, 09:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمة ضالة المؤمن (37)

إنك لا تهدي من أحببت



لو تفحص العاقل نعم الله عليه - ولن يحصيها عدا - فلن يجد أعظم نعمة من نعمة الهداية، قال ابن القيم: «فإن أفضل ما يقدر الله بعبده وأجل ما يقسمه له (الهدى)، وأعظم ما يبتليه به ويقدره عليه (الضلال)، وكل نعمة دون نعمة الهدى، وكل مصيبة دون مصيبة الضلال»، ولهذا قال عز وجل: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين}.
ومن عظمة الهداية أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة ورأوا ما فيها من أنواع النعيم فإن أول ما يقولونه: {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}، وأعظم ما يتحسر عليه المفرط حين يرى العذاب أنه لم يكن من المهتدين كما قال تعالى: {أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين}، وقال[: «كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول : لولا أن الله هداني، فيكون له شكرا، وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول: لو أن الله هداني، فيكون عليه حسرة». أخرجه أحمد والحاكم.
وقد ذكر الله عز وجل في مواضع كثيرة من كتابه أن الهدى والضلال بيده سبحانه وتعالى فقال: {من يهد الله فهو المهتِد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا}، وهذَا من عظمته وكمال تفرده بالخلق والتدبير أنه يصطفي من يشاء من عباده فيوفقه للخير وهذا من فضله كما قال عز وجل في الحديث القدسي: «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم».
وقد يشكل على بعض الأفهام آيتان قرآنيتان تثبت إحداهما الهداية لرسول الله[ والأخرى تنفيها عنه، فالآية الأولى قوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}، والأخرى قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت}.
قال الشيخ ابن سعدي: «يخبر تعالى أنك يا محمد - وغيرك من باب أولى- لا تقدر على هداية أحد، ولو كان من أحب الناس إليك، فإن هذا أمر غير مقدور للخلق هداية للتوفيق، وخلق الإيمان في القلب، وإنما ذلك بيد اللّه سبحانه تعالى، يهدي من يشاء، وهو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه، ممن لا يصلح لها فيبقيه على ضلاله.
وأما إثبات الهداية للرسول في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ فتلك هداية البيان والإرشاد، فالرسول[ يبين الصراط المستقيم، ويرغب فيه، ويبذل جهده في سلوك الخلق له، وأما كونه يخلق في قلوبهم الإيمان، ويوفقهم بالفعل، فحاشا وكلا.
ولهذا، لو كان قادرا عليها، لهدى من وصل إليه إحسانه، ونصره ومنعه من قومه، عمه أبا طالب، ولكنه أوصل إليه من الإحسان بالدعوة للدين والنصح التام، ما هو أعظم مما فعله معه عمه، ولكن الهداية بيد اللّه تعالى.»اهـ.
ومما يزيد الأمر وضوحا ويزيل ما قد يطرأ على الأذهان من تساؤلات، أن نعلم أن الهداية ليست نوعا واحدا بل إنها أقسام عديدة ومراتب متنوعة.
فالمرتبة الأولى: الهداية العامة:
وهي هداية كل نفس إلى مصالح معايشها وما يقيمها وهي أعم المراتب ، وهو ما فطر الله عليه عباده من الأعمال الفطرية التي فيها مصالحهم والبعد عن مضارهم، كما قال عز وجل: {الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى}، وقال على لسان موسى عليه السلام: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}، فإعطاء الخلق هو إيجاده في الخارج الموجود، والهداية هي التعليم والدلالة على سبيل بقائه وما يحفظه وما يقيمه.
المرتبة الثانية: هداية الإرشاد والبيان للمكلفين:
وهي هداية المكلفين ببيان الحق من الباطل وتمييز طريق الرشد من طريق الغواية وبيان الخير من الشر ، وهذه المرتبة أخص من التي قبلها؛ لأنها تختص بالمكلفين فقط وهي حجة الله عز وجل على خلقه التي لا يعذب أحدا إلا بعد إقامتها عليه كما قال عز وجل: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}، وقال: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}.
وهذه الهداية هداية بيان وتوجيه وإرشاد وتعليم ولا تستلزم حصول التوفيق واتباع الحق في الأمر نفسه، فلا دخل لها بإدخال الهداية في القلوب وشرح الصدور كما قال عز وجل: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى}؛ فقد تمت هدايتهم ببعثة الرسول المبين لهم، وقال عز وجل: {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون}، فهداهم الله تعالى هداية البيان والدلالة فلم يهتدوا؛ فأضلهم الله عقوبة لهم بعد أن عرفوا الحق فأعرضوا عنه، وقال عز وجل: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا}، فقد أودع الله في كل نفس حب الخير وكراهية الشر كما قال عز وجل: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها}.
المرتبة الثالثة: هداية التوفيق والإلهام:
وهي أخص من التي قبلها، وتتحقق هذه الهداية بأن يوفق الله عز وجل العبد إلى سلوك طريق الحق والاستقامة ويبعده عن طريق الانحراف، كما قال عز وجل: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام}، وقال: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه}، وقال: {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان}، وهذه الهداية هي فعل الله عز وجل الذي اختص به وقد نفاه عن رسوله الكريم[ فقال: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين}، وقال: {إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل}، فالرسول[ يهدي هداية البيان والتوجيه، وهي المرتبة الثانية، كما قال تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}، لكنه لا يملك هداية التوفيق وشرح الصدور كما تقدم.
وحيث تقرر أن الهداية بيد الله عز وجل وجب على العبد أن يسعى في تحصيلها ويجتهد في اكتسابها، تماما كما يسعى في تحصيل الرزق والبحث عن أسباب الشفاء مع إيمانه التام واعتقاده الجازم بأن الرزق بيد الله والشفاء من عنده وحده عز وجل.
وأول أسباب تحصيل الهداية سؤال الله عز وجل أن يرزق العبد الهداية وأن يوفقه للحق علما وإرادة وقبولا، كما أن الاعتصام بالله ودينه والقيام بالأعمال الصالحة سبيل لتحصيل الهداية كما قال عز وجل: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم}، وقال عز وجل: {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم}، وأيضا فإن التوبة النصوح سبب للهداية؛ قال عز وجل: {قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب}.
نسأل الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل، وأن يوفقنا لصالح الأعمال والأخلاق، وأن يتقبل منا اليسير، وأن يتجاوز عن التقصير، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 07-05-2024 الساعة 08:23 PM.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 19.82 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 19.16 كيلو بايت... تم توفير 0.66 كيلو بايت...بمعدل (3.33%)]