عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 24-02-2024, 09:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,353
الدولة : Egypt
افتراضي رد: منهجية صلاح الدين الأيوبي في التغيير.. دروسٌ وعِبَر




منهجية صلاح الدين الأيوبي في التغيير.. دروسٌ وعِبَر (2من 2)


استكمالاً لما بدأناه في المقال السابق عن دور صلاح الدين الأيوبي الإصلاحي ومنهجيته في التغيير، نقول بداية: إنَّ المعاهد والمدارس الشرعيَّة أدت دورًا بارزًا ومؤثرًا في الحفاظ على هويَّة الأمَّة الإٍسلاميَّة عبر عصورها المختلفة، حيث صمدت هذه المعاهد بقوة أمام جهود المستعمرين في تغريب الأمَّة ومسخ هويتها في كثير من البلدان الإسلاميَّة، ومنها على سبيل المثال بلاد المغرب العربي، حيث كانت تلك المدارس سببًا رئيسًا في الحفاظ على اللغة العربية التي لجأ المستعمر الفرنسي إلى كل الأساليب والإجراءات لوأدها.
كما لعبت كذلك دورًا مهمًا في الحفاظ على الأصالة العربيَّة والإسلاميَّة في ليبيا حيث لجأ الإيطاليون أثناء استعمارها إلى محاربة كل الزوايا الدينية والكتاتيب التي دأبت على إمداد الشيخ عمر المختار – رحمه الله - قائد الثورة الليبية بعناصر لا تأبه بالموت في سبيل الحفاظ على مقدسات الشعب الليبي الإسلاميَّة والعربيَّة، وفي تونس أدَّى جامع الزيتونة أدوارًا كبيرة في تاريخ هذا البلد الذي سعت فرنسا للقضاء عليه لكنّها لم تتمكن من ذلك، بل بقي صامدًا يرفد الساحة التونسية بمصلحين منذ خير الدين الثعالبي – رحمه الله- ومن جاء بعده.
وتمكنت هذه المؤسسات التربويَّة بهذا الصمود من الحفاظ على الهويَّة العربيَّة والإسلاميَّة وعلى الانتماء العربي والإسلامي في كثير من البلدان التي وقعت تحت نيران الاستعمار فترات من الزمن.
وقد عرف العالم الإسلامي المدرسة قبل القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، وكانت أول مدرسة بنيت في ديار الإسلام هي المدرسة البيهقية في نيسابور، ثم المدرسة النظاميَّة في بغداد، ثم أخذت المدارس تنتشر في العراق وخراسان وغيرهما من البلدان الإسلاميَّة.
وقد أثَّرت هذه المؤسسات بوضوح في واقع الحياة السياسيَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة من خلال التوعية المتوقدة التي قامت بها، وكانت نتيجة ذلك أنها أحدثت انقلابًا فكريًا شاملاً، من خلال تربية جيل متميز صالح يرغب في طاعة الله عز وجل ويراعي أمره ونهيه.
وقد هدف صلاح الدين من إنشاء المدارس التي شيّدها إلى مجموعة من الأهداف أهمها:
• القضاء على المناهج الفاسدة التي انتشرت في هذا الوقت.
• إيجاد الإنسان المؤمن بربه من خلال تعليم الناس وتثقيفهم بأمور دينهم.
• نشر اللغة العربية والاعتناء بها.
• تبصير الناس بما يحيق بهم وبالأمة من مخاطر من خلال تربية الأمة على الجهاد وحثهما عليه.
• إعادة بناء المجتمع وفق أصول ومنهج أهل السنة والجماعة.
• نشر الأخلاق الحميدة والقضاء على ما أفسدته المناهج السابقة من أخلاق الناس.
طريق شاقة
ولا شك أن الطريق لم تكن مفروشة بالورود أمام صلاح الدين لإحداث هذا التغيير، فقد كان أمامه عدد من العقبات والتحديات التي لابد أن يتغلب عليها للبدء في مشروعه الإصلاحي، وقد أدرك أنَّ عليه واجبًا كبيرًا وأنَّ مسائل جِساما تقف أمامه بحاجة إلى حل جذري وكان من أهمها:
• فساد المؤسسات التربوية الموجودة التي كانت تمثل مصدر التلقي الوحيد للناس آنذاك.
• فساد المناهج التربوية التي كانت تمثل تشريعًا خاصًا لنشر العقائد التي تخالف عقائد المسلمين من أهل السنة والجماعة.
• وجود زعماء ورؤساء على رأس هذه المؤسسات التربوية يحاولون تولي زمام الأمور وعرقلة جهود صلاح الدين الإصلاحية.
وبرغم هذه التحديات إلا أنَّ صلاح الدين – رحمه الله – استطاع بتوفيق الله التغلب عليها وتحقيق الأهداف التي كان يصبو لها، وإحداث التغيير الشامل الذي يريد، من خلال استغلال التعليم وفق المفاهيم والاتجاهات التي حددها التصور الإسلامي، والسعي نحو ترجمة هذه المفاهيم إلى أهداف تعليمية قابلة للتطبيق، وقد استعان على ذلك بعدد من المؤسسات التربوية التي تمثلت في:
• أولاً: المساجد.
• ثانيًا: الكتاتيب.
• ثالثًا: المدارس الشرعية.
• رابعًا: المراكز التعليمية الخاصة (البيمارستانات ).
• أولاً: الـمساجد: حيث كان يشكل المسجد المحور المهم في جميع أشكال النشاط الاجتماعي، حيث كانت المساجد أماكن للعبادة، والقضاء، والتدريس، ومأوى لابن السبيل والغرباء، ومن هذا المرتكز انطلق صلاح الدين – رحمه الله – من المسجد باعتباره مؤسسة تربوية تؤدي دورها الكامل من خلال التدريس، فاعتنى – رحمه الله - بكل المساجد وحولها إلى مؤسسات تربوية، وبهذا أعاد للمسجد دوره الريادي في التغيير.
ثانيًا: الكتاتيب: اهتم صلاح الدين بالصغار لأهميتهم في المجتمع الإسلامي، وليقينه أنَّ الكُتَّاب مؤسسة تربوية ومنظمة مهمة تؤديه دورًا مهمًا في تربية وإعداد أطفال المسلمين فعمل على فتح وبناء الكتاتيب لهم.
ثالثًا: الـمدارس الشرعية: وللمدارس الشرعية في سيرة صلاح الدين شأنٌ خاص، حيث تميَّزت عن غيرها من المؤسسات الأخرى من حيث استقلال البناء، وتخصيص الوقف اللازم لها، والنظام الداخلي، والأقسام الملحقة، وإدارتها، ورواتب المدرسين، ومعايير قبول الطلبة بها.
المدارس
وقد اهتم صلاح الدين – رحمه الله – ووزراؤه والعلماء والأمراء والتجار والقضاة ووجهاء الناس بالمدارس، فقدموا المال اللازم لبناءها وتأثيثها، وخصصوا لها الوقف اللازم والذي كان يصرف بدوره على المدرسين والطلاب، وكان يقدم للطلاب الرواتب الشهرية، والمأكل والمشرب والمسكن المجاني، وذلك لضمان ديمومة هذه المدارس بعد وفاة مؤسسيها.
ومن هذا المنطلق اهتم صلاح الدين ببناء المدارس وشجع عليها وعمل على انتشارها بكافة السبل، وكان من أبرزها:
• الـمدرسة الناصرية: أسسها السلطان صلاح الدين على أصول المذهب الشافعي.
• الـمدرسة القمحية: أنشأها أيضًا الناصر صلاح الدين بالقرب من مسجد عمرو بن العاص وأوقفها على فقهاء المالكية.
• الـمدرسة السيوفية: أنشأها صلاح الدين وعرفت بالسيوفية لقربها من سوق السيوف وأوقفها على علماء الحنفية.
• الـمدرسة الناصرية بالقرافة: أنشأها أيضًا صلاح الدين وأوقفها على فقهاء الشافعية، وغيرها العديد من المدارس التي تزيد عن العشرين مدرسة بناها - رحمه الله – في مصر.
رابعًا: الـمراكز التعليمية الخاصة (البيمارستانات): ويذكر ابن جبير واصفًا هذه النوعية من المؤسسات فيقول: «ومما شاهدناه من مفاخر هذا السلطان، البيمارستان الذي بناه بمدينة القاهرة، وهو قصر من القصور الرائعة حسنًا واتساعًا، وعين فيها أهل المعرفة ووضع لهم خزائن العقاقير ومكنهم من استعمالها»؛ وقد عيَّن صلاح الدين أطباء مشرفين ومدرسين يقومون بتعليم الأطباء فيه.
كما شيَّد بالإسكندرية بيمارستان آخر وفعل به كما فعل بالأول، حيث كان اهتمام صلاح الدين مُنْصبًا على استقطاب أهل الاختصاص لتعليم تخصصهم ونشره بين أبناء الشعب.
وبهذا الجهد الكبير استطاع – رحمه الله – أن يُعجِّل ويسارع في عملية التغيير والإصلاح المنشود لما تؤدية هذه النوعية من المؤسسات في إحداث هذا التغيير.
التمويل والدعم
اهتم صلاح الدين بتمويلها ودعمها، ولا سيما أن الشعب المصري كان فقيرًا وقد أُرهق بكثرة الضرائب، وجزء آخر من الشعب كان من المغاربة والسودان وغيرهم من الغرباء وطلبة العلم الفقراء، وقد تنبه صلاح الدين لذلك فعمل على توفير قدر من الاستقرار المادي للمعلمين والطلاب وتقديم التسهيلات المناسبة لهم ليستطيعوا التفرغ للتعليم والتعلم، وقد اعتمد على مصادر عدة للتمويل أهمها:
• التمويل من قبل الدولة (بيت مال المسلمين): قال ابن جبير: «إن كل مسجد تم بناؤه أو مدرسة، يعين لها السلطان صلاح الدين أوقافًا تقوم بها وساكنيها والملتزمين بها»، وقال في موطن آخر: «وألحق بالمسجد النظام الداخلي، حيث كان مأوى للغرباء وأجرى عليهم الأرزاق في كل شيء».
وبهذا أمَّن صلاح الدين بصفته سلطانًا وولي أمر المسلمين تمويل هذه المؤسسات، فكان يعطي أربعين دينارًا في كل شهر على التدريس، وعشرة دنانير للنظر في أوقاف المدرسة، وستين رطلاً مصريًا من الخبز يوميًا، ويجعل راويتين – سقاءين - للمدرسة كل يوم.
• ثانيًا: التمويل من قبل الأمراء والوزراء والقضاة: اقتدى الأمراء والوزراء والقضاة بفعل السلطان صلاح الدين، فشرعوا في إقامة المؤسسات التربوية وتمويلها، ومن هؤلاء (القاضي الفاضل) الذي أشرف وأنفق على المدرسة الفاضلية المنسوبة إليه وأوقف لها الوقف اللازم، وغيره الكثير.
• ثالثًا: التمويل من قبل عامة الناس: حيث مول التجار وغيرهم من عامة الشعب المؤسسات التربوية بمصر مثل ابن الأرسوفي.
مما سبق يتضح أن صلاح الدين الأيوبي – رحمه الله – أولى المؤسسات التربويَّة عناية خاصة وغطى جوانب المجتمع المصري كاملة بكافة طبقاته، لأنه قصد إحداث تغيير شامل في واقع المجتمع، فصهر جميع الاتجاهات نحو الاتجاه التربوي، واستطاع أن ينهض بالأمة من خلال هذا الاتجاه؛ وقد تميزت جهوده التربوية بعدة مزايا يجب أن تؤخذ في الاعتبار، وهي :
(1) أصَّل صلاح الدين جميع المناهج التي وضعها على منهج الكتاب والسُنَّة.
(2) حافظ على هذه الأصول وذلك بالقضاء على البدع والمخالفات الشرعية.
(3) نشر مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية.
(4) ربط الأمة بواقعها من خلال التربية الجهادية العملية.
(5) اعتمد مبدأ التوازن والشمولية سمة بارزة في جهوده ومساعيه.
(6) اهتم بالمؤسسات التربوية عامة من مساجد وكتاتيب ومدارس وغيرها.
(7) وفر التمويل للمؤسسات التربوية، وحافظ عليها، وعمل على بقائها، حيث اعتنى بالمدرسين والطلاب وأمَّن الأرزاق لهم على حدِّ سواء، وبذلك ضمن ديمومة تلك المؤسسات.
ومن خلال هذه الخطوات ارتقى صلاح الدين بجهوده نحو بناء نظرية للتغيير والإصلاح الاجتماعي تتمثل بتبني الحاكم المسلم التربية وسيلة للتغيير، فمجموعة الإجراءات التي قام بها لبناء الأمة قطف ثمارها باسترجاع بيت المقدس من أيدي الصليبيين، وتغيير واقع المجتمع المصري الذي وقع تحت الاحتلال الإسماعيلي قرابة الثلاثمائة عام.
الخلاصة
وخلاصة ما سبق: فإنَّ تجربة صلاح الدين الأيوبي – رحمه الله - تدفعنا أن نربط بين واقع العصر الذي عاش فيه بواقعنا المعاصر؛ لأن الأمَّة تعيش اليوم الصعاب والتحديات نفسها التي عاشها وواجهها صلاح الدين على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والفكرية وغيرها.
ولمَّا كان الأمر كذلك، واليوم شبيهًا بالبارحة، وفي ظل هذا الفراغ التربوي الكامل الذي تعيشه الأمَّة، كان لابد للحركات الإسلامية وبشكل مُلِحٍّ أن تضع في قمة أولوياتها «العناية بالمؤسسات التربويَّة والفكريَّة» التي تبدأ من رياض الأطفال حتى آخر مراحل التعليم الجامعي، وتجعلها نقطة الانطلاق للتغيير شامل؛ بغية إخراج «فقهاء» راسخين في ميادين العلم كافة سواء الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وسائر ميادين الحياة، وأن تبحث كذلك عن الموهوبين من الأجيال الناشئة، وتعمل على تنمية مواهبهم ورعايتها حتى تبرز «القيادات الحكيمة» التي تعيد للأمَّة مجدها.
ومن هنا فإن أهم التوصيات التي نخرج بها من هذا الـمقال هي:
• ضرورة التزام التربية في إطارها الإسلامي أداة لتغيير الواقع المظلم.
• إعطاء الفرصة لعلماء الأمَّة الثقات في كافة التخصصات بوضع الترتيبات اللازمة لإحداث التطوير الشامل للمناهج التعليمية والتربوية.
• ضرورة العمل على إحياء فريضة طلب العلم الشرعي ودعم المؤسسات التعليمية التي تقوم بذلك.
• اعتماد مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية وفرض القوانين اللازمة لذلك.
• تربية الأمة تربية جهادية - بالضوابط الشرعية التي أقرها علماؤنا - وذلك لحفظ الدين والعرض والهوية.
• إحياء دور المسجد والعودة به لما كان عليه في صدر الإسلام وأزمان العزة.
• الاهتمام بالبحث العلمي وتشجيعه ونشره ودعمه.
• نشر المكتبات العلمية وإحياء دورها في بناء المجتمعات.
• تكريم العلماء وإجراء الأوقاف اللازمة لهم لنضمن لهم العيش الكريم والتفرغ للتعليم.
وختامًا: فإن الأمَّة التي تحترم نفسها وهويتها وكينونتها، لا تقبل أبدًا أن تُخضع ثوابتها الإستراتيجية وأهمها التعليم ومستقبل أجيالها لهيمنة وعقلية الغرب الكافر المحتل؛ لأن النتيجة في النهاية ستكون مأساوية وكارثية بكل المقاييس وستؤدي حتما إلى تفسخ وانهيار هذه الأمة، والله المستعان.
المراجع:
• كتاب: (هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس) – للدكتور/ ماجد عرسان الكيلاني.
• كتاب: (أثر جهود صلاح الدين الأيوبي التربوية في تغيير واقع المجتمع المصري) - لمحمد حمدان القيسي.



اعداد: وائل عبدالغفار




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 27.31 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 26.68 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.30%)]