عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 24-02-2024, 03:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,939
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المعاني الإيمانية لأسماء الله: الصبور - الحليم - الشكور



فلك الحمدُ على ذلك حمدًا كثيرًا، لك الحمدُ بكلِّ نعمةٍ أنعمتَ بها علينا في قديمٍ أو حَديثٍ، أو سِرٍّ أو علانيةٍ، أو خاصَّةٍ أو عامَّةٍ، أو حيٍّ أو ميتٍ، أو شاهدٍ أو غائبٍ، لك الحمدُ حتى ترضَى، ولك الحمدُ إذا رَضِيتَ».

وقال الحسَنُ: «قال موسى: يا ربِّ، كيف يَستطيعُ آدمُ أَنْ يؤدِّيَ شُكرَ ما صنعتَ إليه، خلقتَه بيدِك، ونفختَ فيه من روحِك، وأسكنتَه جنَّتك، وأمرتَ الملائكةَ فسجدوا له؟ فقال: يا موسى، عَلِمَ أنَّ ذلك منِّي فحَمِدَني عليه، فكان ذلك شكرَ ما صنعتُ إليه»[34].

وقال سعدُ بنُ مسعودٍ الثَّقَفِيُّ: «إنما سُمِّي نوحٌ عبدًا شكورًا لأنه لم يَلْبَسْ جديدًا ولم يأكلْ طعامًا إلا حَمِدَ اللهَ».

وكان عليُّ بنُ أبي طالبٍ إذا خرجَ مِن الخلاءِ مَسَحَ بطْنَه بيدِه وقال: «يا لها مِن نعمةٍ لو يَعلمُ العبادُ شكرَها».

وقال مَخْلَدُ بنُ الحسينِ: «كان يُقال: الشُّكْرُ تَرْكُ المعاصي».

وقال أبو حازمٍ: «كلُّ نعمةٍ لا تُقرِّبُ مِن اللهِ فهي بَلِيَّةٌ».

وقال سليمانُ: «ذِكْرُ النِّعمِ يُورثُ الحبَّ للهِ».

وقال حمَّادُ بنُ زيدٍ: حدَّثنا ليثُ، عن أبي بُردة، قال: قدمتُ المدينةَ، فلقيتُ عبدَ اللهِ بنَ سلامٍ، فقال لي: ألا تدخلُ بيتًا دخلَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ونطعمُك سَوِيقًا وتمرًا؟ ثم قال: «إنَّ الله إذا جمعَ الناسَ غدًا ذكَّرهم بما أنعمَ عليهم، فيقولُ العبدُ: ما آيةُ ذلك؟

فيقولُ: آيةُ ذلك أنَّك كنتَ في كُربةِ كذا قد دعوتَني فكشفتُها، وآيةُ ذلك أَنَّك كنتَ في سفرِ كذا وكذا فاستَصْحَبْتَني فصحبتُك، قال: يذكِّرُه حتى يذَّكرَ.

فيقولُ: آيةُ ذلك أنَّك خطبتَ فلانةَ ابنةَ فُلانٍ وخطبَها معك خُطَّابٌ فزوجتُك ورَددتُهم... يقفُ عبدُه بين يديه، فيعدِّدُ عليه نِعَمَه»، فبكى، ثم بكَى ثم قال: «إِنّي لأرجو اللهَ ألا يُقعِدَ عبدًا بين يديه فيُعَذِّبَهُ».

وذكر ابنُ أبي الدُّنيا، عن صدقةَ بنِ يسارٍ، قال: «بينما داودُ؛ في محرابِه، إذْ مرَّتْ به ذَرَّةٌ، فنظر إليها وفكَّرَ في خلْقِها وعجِبَ منها، وقال: ما يعبَؤُ اللهُ بهذِه؟ فأنطَقَها اللهُ فقالتْ: يا داودُ، أتُعجبُك نفسُك، فوالذي نفسي بيدِه لأنا على ما آتاني اللهُ مِن فضْلِهِ أَشْكَرُ منك على ما آتاك اللهُ مِن فضْلِهِ».

وقال أيوبُ: «إِنَّ مِنْ أعظمِ نعمةِ اللهِ على عبدِه أَنْ يكونَ مأمونًا على ما جاءَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم».

وقال سفيانُ الثوريُّ: «كان يُقالُ: ليس بفقيهٍ مَنْ لم يعُدُّ البلاءَ نعمةً، والرخاءَ مُصيبةً».

وقال زازانُ: «مما يجبُ لله على ذي النِّعمةِ بحقِّ نعمته ألَّا يَتَوَصَّلَ بها إلى معصيةٍ».

قال ابن أبي الدُّنيا: أنشدني محمودُ الورَّاقُ:
إِذَا كَانَ شُكْرِي نِعْمَةَ اللهِ نِعْمَةً
عَلَيَّ لَهُ فِي مِثْلِهَا يَجِبُ الشُّكْرُ
فَكَيْفَ وُقُوعُ الشُّكْرِ إِلَّا بِفَضْلِهِ
وَإِنْ طَالَتِ الأَيَّامُ وَاتَّصَلَ العُمْرُ
إِذَا مَسَّ بِالسَّرَّاءِ عَمَّ سُرُورُهَا
وَإِنْ مَسَّ بِالضَّرَّاءِ أَعْقَبَهَا الأَجْرُ
وَمَا مِنْهُمَا إِلَّا لَهُ فِيهِ مِنَّةٌ
تَضِيقُ بِهَا الأَوْهَامُ وَالبَرُّ وَالبَحْرُ


ومرَّ محمدُ بنُ المنكدِرِ بشابٍّ يغامِزُ امرأةً فقال: «يا فتى ما هذا جزاءُ نِعَمِ اللهِ عليك».

وقال حمَّاد بنُ سلمةَ عن ثابتٍ قال: قال أبو العاليةَ: «إِنّي لأرجو ألَّا يَهلِكَ عبدٌ بين اثنتين: نعمةٍ يَحمدُ اللهَ عليها، وذنبٍ يستغفرُ منه».

وكتبَ ابنُ السَّماكِ إلى محمدِ بنِ الحسَنِ حين وَليَ القضاءَ بالرَّقَّةِ: «أمَّا بعدُ؛ فلتكُنِ التقوى مِن بالِك على كلِّ حالٍ، وخفِ اللهَ مِنْ كلِّ نعمةٍ أنعمَ بها عليك مِنْ قلَّةِ الشُّكرِ عليها مع المعصيةِ بها، فإنَّ في النِّعمِ حُجَّةً وفيها تَبِعَةً، فأمَّا الحُجَّةُ بها فالمعصيةُ بها، وأما التَّبِعةُ فيها فقلةُ الشكرِ عليها، فعفا اللهُ عنك كلَّما ضيعتَ من شكرٍ، أو رَكِبتَ مِن ذنبٍ، أو قصَّرتَ مِن حقٍّ».

ومرَّ الربيعُ بنُ أبي راشدٍ برجُلٍ به زَمانَةٌ، فجلس يحمدُ اللهَ ويبكي، قِيلَ له: ما يُبكيك؟ قال: «ذكرتُ أهلَ الجَنَّةِ وأهلَ النّارِ، فشبَّهتُ أهلَ الجَنَّةِ بأهلِ العافيةِ، وأهلَ النَّارِ بأهلِ البلاءِ، فذلك الذي أبكاني».

وقد روى أبو هُريرةَ رضي الله عنه، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَرَى قَدْرَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَى مَنْ فَوْقَهُ»[35]، قال عبدُ الله ابنُ المبارك: أخبرني يحيى بنُ عبدِ اللهِ، قال: سمعتُ أبي قال: سمعتُ أبا هُريرةَ؛ فذكرَهُ.

وقال ابنُ المبارك: حدثنا يزيدُ بنُ إبراهيمَ، عن الحسنِ، قال: قال أبو الدَّرداءِ: «مَنْ لم يَعرِفْ نعمةَ اللهِ عليه إلَّا في مَطْعمِه ومَشْرَبِه فقد قلُّ عملُه وحضرَ عذابُه».

قال ابنُ المباركِ: أخبرَنا مالكُ بنُ أنسٍ، عن إسحقَ بنِ عبد اللهِ بن أبي طلحةَ، عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: سمعتُ عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه سَلَّمَ على رجُلٍ، فرَدَّ عليه السلامَ، فقال عمرُ للرَّجلِ: كيف أنتَ؟ قال الرَّجُلُ: أحمدُ إليك اللهَ، قال: هذا الذي أردْتُ منك.

قال ابنُ المبارك: وأخبرنا مسعودٌ، عن علقمةَ بنِ مرقدٍ، عن ابن عُمَر رضي الله عنهما، قال: لعلنا نلتقي في اليومِ مرارًا يسألُ بعضُنا عن بعضٍ، ولم يُرِدْ بذلك إلا ليحمدَ اللهَ عز وجل.

وقال مجاهدٌ في قولِهِ تعالى: ﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان: 20]، قال: «لا إله إلا الله».

وقال ابنُ عُيَينة: «ما أَنعَمَ اللهُ على العبادِ نعمةً أفضلَ مِن أَنْ عرَّفَهُم لا إله إلا الله»، قال: «وإنَّ لا إله إلا الله لهم في الآخرةِ كالماءِ في الدُّنيا».

وقال بعضُ السَّلفِ في خُطبتِه يومَ عيدٍ: «أصبحتم زُهْرًا وأصبحَ النَّاسُ غُبرًا، أصبحَ النَّاسُ يَنسِجون وأنتم تَلبسُون، وأصبحَ النَّاسُ يُعطون وأنتم تأخذون، وأصبحَ النَّاسُ يُنتِجون وأنتم تَرْكبون، وأصبحَ النَّاسُ يَزرعون وأنتم تأكلون»، فبكى وأبكاهُمْ.

وقال عبدُ الله بن قُرطٍ الأزدي - وكان مِنَ الصحابةِ - على المنبرِ، وكان يومَ أضحى، ورأى على النَّاسِ ألوانَ الثيابِ: «يا لها مِن نعمةٍ ما أَشبعَها، ومِن كرامةٍ ما أَظهرَها، ما زال عن قومٍ شيءٌ أشدُّ مِن نعمةٍ لا يستطيعون ردَّها، وإنما تثبتُ النعمةُ بشُكْر المُنْعَم عليه للمُنْعِم».

وقال سَلمانُ الفارسيُّ رضي الله عنه: «إِنَّ رجُلًا بُسِطَ له مِن الدُّنيا، فانتزعَ ما في يديه، فجعلَ يحمدُ اللهَ ويُثني عليه، حتى لم يكُنْ له فِراشٌ إلا باريةٌ»، قال: «فجعلَ يحمدُ اللهَ ويُثني عليه، وبُسِطَ لآخرَ من الدُّنيا، فقال لصاحب الباريةِ: أرأيتَك أنت على ما تحمَدُ اللهَ؟ قال: أحمدُه على ما لو أُعطِيتُ به ما أُعطي الخلقُ لم أعطِهمْ إياه، قال: وما ذاك؟ قال: أرأيتَك بصرَك، أرأيتَك لسانَك، أرأيتَك يديك، أرأيتَك رجليك».

وجاء رَجُلٌ إلى يونسَ بنِ عُبيدٍ، يَشكو ضِيقَ حالِه، فقال له يونسُ: أيسرُّك ببصرِك هذه مائةُ ألفِ درهمٍ؟ قال الرجل: لا، قال: فبيدك مائةُ ألفٍ؟ قال: لا، قال: فبرجليك مائةُ ألفٍ؟ قال: لا؟ قال: فذكَّره نِعَمَ الله عليه، فقال يونسُ: أرى عندك مئينَ الألوفِ وأنتَ تشكو الحاجةَ.

وكان أبو الدرداء يقول: «الصِّحَّةُ المُلْكُ».

وقال جعفرُ بنُ محمَّدٍ رضي الله عنه: فَقَدَ أبي بغلةً له، فقال: إِنْ رَدَّها اللهُ لأحمدَنَّه، وضَمَّ إليه ثيابَه ورفعَ رأسَه إلى السماءِ ثم قال: الحمدُ للهِ، لم يَزِدْ عليها، فقيل له في ذلك، فقال: هل تركتُ وأبقيتُ شيئًا جعلتُ الحمدَ كلَّه للهِ.

وروى ابن أبي الدُّنيا، مِن حديثِ سعد بن إسحاقَ بن معدِّ بن عُجرةَ، عن أبيه، عن جدِّه، قال: بعثَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْثًا مِن الأنصارِ، وقال: «إِنْ سَلَّمَهُمُ اللهُ وَغَنَّمَهُمْ فَإِنَّ للهِ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ شُكْرًا»، قال: فلم يَلبَثوا أن غنِموا وسلِموا، فقال بعضُ أصحابِهِ سمعناك تقولُ: «إِنْ سَلَّمَهُمُ اللهُ وَغَنَّمَهُمْ فَإِنَّ للهِ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ شُكْرًا»، قال: «قَدْ فَعَلْتُ، اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ شُكْرًا، وَلَكَ المَنُّ فَضْلًا».

وقال عبدُ الرَّحمنِ بنِ زيدِ بنِ أسلمَ: قال محمَّدُ بنُ المنكدِر لأبي حازمٍ: يا أبا حازمٍ، ما أكثرَ مَنْ يَلقاني فيدعو لي بالخيرِ، وما صنعتُ إليهم خيرًا قطُّ؟

فقال أبو حازم: لا تَظُنَّ أنَّ ذلك مِن قِبَلِكَ، ولكن انظرْ إلى الذي ذلك مِنْ قِبَلِهِ فاشكرْهُ، وقرأ أبو عبد الرحمن: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم: 96].

وقال عليُّ بنُ الجعدِ: حدَّثَنا عبدُ العزيزِ بنُ أبي سَلمةَ الماجِشون، حدثني مَنْ أُصدِّقُه: أنَّ أبا بكرٍ الصديق رضي الله عنه كان يقول في دعائِه: «أسألُكَ تمامَ النِّعمة في الأشياءِ كلِّها، والشكرَ لك عليها حتى ترضَى وبعد الرِّضا والخِيَرة في جميعِ ما تكونُ فيه الخِيَرةُ».

وقال الحسَنُ: ما أَنعَمَ اللهُ على عبدٍ نعمةً فقال: الحمدُ للهِ إلا كان ما أُعطى أكثرَ مما أُخِذَ، قال ابنُ أبي الدُّنيا: وبَلغَني عن سفيانَ بنِ عُيينة؛ أنه قال: هذا خطأٌ؛ لا يكونُ فعلُ العبدِ أفضلَ من فعلِ اللهِ، ثم قال: وقال بعضُ أهلِ العِلْمِ: إنما تفسيرُ هذا: أَنَّ الرَّجُلَ إذا أَنعَمَ اللهُ عليه نعمةً وهو ممّنْ يجبُ عليه أن يحمدَهُ، عرَّفه ما صنَعَ به فيشكرُ اللهَ كما ينبغي له أَنْ يشكُرَه، فكان الحمدُ له أفضلَ.

قلتُ: لا يلزمُ الحسَن ما ذُكرَ عن ابن عُيينة، فإِنَّ قولَهُ: الحمدُ للهِ نعمةٌ مِن نعمِ اللهِ، والنعمةُ التي حَمِدَ اللهَ عليها أيضًا نعمةٌ مِن نِعَمِ اللهِ، وبعضُ النِّعمِ أجلُّ مِن بعضٍ، فنعمةُ الشكرِ أجلُّ مِن نعمةِ المالِ والجاهِ والولدِ والزوجةِ ونحوِها... والله أعلم.

وهذا لا يَستَلزمُ أن يكونَ فعْلُ العبدِ أفضلَ مِن فعْلِ اللهِ، وإِنْ دلَّ على أَنَّ فِعْلَ العبدِ للشكرِ قد يكونُ أفضلَ مِن بعضِ مفعولِ اللهِ، وفعْلُ العبدِ هو مفعولُ اللهِ، ولا ريبَ أنَّ بعضَ مفعولاتِه أفضلُ مِن بعضٍ.

وقال بعضُ أهلِ العِلْمِ: «لَنِعَمُ اللهِ علينا فيما زُوي عنا مِن الدُّنيا أفضلُ مِن نعمِه علينا فيما بُسِط لنا منها؛ وذلك أن اللهَ لم يَرْضَ لِنَبيِّه الدُّنيا، فإِنْ أكُنْ فيما رضي اللهُ لِنبيِّه وأحبَّ له أحبُّ إليَّ مِن أَنْ أكونَ فيما كرِهَ له وسَخِطَه».

وقال ابنُ أبي الدُّنيا: بلَغَنِي عن بَعْضِ العلماءِ أنَّه قال: «يَنبغي للعالِمِ أَنْ يحمدَ اللهَ على ما زُوي عنه مِن شهواتِ الدنيا، كما يحمدُ على ما أعطاه، وأين يقعُ ما أعطاه الله، والحسابُ يأتي عليه، إلى ما عافاه اللهُ ولم يَبْتَلِهِ به، فيشغَلُ قلبَه ويُتعِبُ جوارِحَه، فيشكر اللهَ على سُكونِ قلبِه وجمْعِ همِّه».

وحدَّث عن ابنِ أبي الحواريِّ، قال: جلَس فُضيلُ بنُ عياضٍ وسفيانُ ابنُ عُيينةَ ليلةً إلى الصباح يتذكرانِ النِّعمَ، فجعل سفيانُ يقول: أنعمَ اللهُ علينا في كذا وكذا، أنعم الله علينا في كذا، فعلَ بنا كذا.

وحدثنا عبدُ الله بنُ داودَ، عن سفيانَ في قوله: ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ [الأعراف: 182]، قال: «يُسْبِغُ عليهم النِّعَمَ، ويمنعُهم الشُّكرَ».

وقال غيرُ سفيانَ: «كلَّما أحدثوا ذنبًا أحدثَ لهم نِعْمةً».

وسُئِل ثابتٌ البُناني عن الاستدراجِ، فقال: «ذلك مَكْرُ اللهِ بالعبادِ المُضيِّعين».

وقال يونسُ في تفسيرِها: «إِنَّ العبدَ إذا كانت له عند اللهِ منزلةٌ فحفِظَها وبقي عليها، ثم شكرَ اللهَ بما أعطاهُ، أعطاه أشرفَ منها، وإذا هو ضيَّع الشكرَ استدرجَهُ اللهُ، وكان تضييعُه الشكرَ استدراجًا».

وقال أبو حازمٍ: «نعمةُ اللهِ فيما زُوي عنِّي مِنَ الدُّنيا أعظمُ مِن نعمتِه فيما أعطاني منها، إنِّي رأيتُه أعطاها أقوامًا فهَلكوا، وكلُّ نعمةٍ لا تُقرِّبُ مِنَ اللهِ فهي بليَّةٌ، وإذا رأيتَ اللهَ يتابِعُ عليكَ نعمَهُ وأنتَ تعصيهِ فاحذرْهُ».

وذكر كاتبُ اللَّيْثِ، عن هقل، عن الأوزاعي، أَنَّه وعَظَهُم، فقال في موعظتِه: «أيها الناسُ تَقَوَّوْا بهذه النِّعم التي أصبحتُم فيها، على الهربِ مِن نارِ اللهِ الموقدةِ التي تطَّلِعُ على الأفئدةِ، فإنَّكم في دارٍ الثَّوَى فيها قليلٌ، وأنتم فيها مُرجَون خلائِفُ مِن بعد القرونِ الذين استَقبَلوا مِن الدُّنيا أنفعَها وزهرتَها، فهم كانوا أطوَلَ منكم أعمارًا، وأمدَّ أجسامًا، وأعظمَ آثارًا، فقطعوا الجبالَ، وجابوا الصخورَ، ونقَّبوا في البلادِ مؤيَّدين ببطشٍ شديدٍ، وأجسامٍ كالعمادِ، فما لبِثَتِ الأيامُ والليالي أَنْ طوَتْ مُدَدَهُم، وعفَتْ آثارَهُم، وأَخْوَتْ منازِلهُم، وأنْسَتْ ذكْرَهم، فما تُحِسُّ منهم مِنْ أحدٍ، ولا تسمعُ لهم رِكزًا، كانوا يَلْهُون آمنين، لِبياتِ قومٍ غافلينَ، أو لصباحِ قومٍ نادمينَ، ثم إِنَّكم قد علِمتُم الذي نزَل بساحتِها بَيَاتًا مِن عقوبةِ اللهِ، فأصبحَ كثيرٌ منهم في دارِهم جاثمين، وأصبحَ الباقون يَنْظرون في آثارِهم نقمةً، وزوالَ نعمةٍ، ومساكنَ خاويةً، فيها آيةٌ للذين يخافون العذابَ الأليمَ، وعِبرةٌ لمَنْ يخشَى، وأصبحتُم مِنْ بعدِهم في أجلٍ منقوصٍ، ودنيا مقبوضةٍ، وزمانٍ قد ولَّى عفْوُه وذهبَ رخاؤُهُ، فلم يبقَ منه إلا حَمأةُ شرٍّ، وصُبابَةُ كَدَرٍ، وأهاويلُ عِبَرٍ، وعقوباتُ غِيَر، وإرسالُ فِتَنٍ، وتتابعُ زلازل، ورَذَلةُ خلَفٍ، بهم ظهَر الفسادُ في البرِّ والبحرِ، ولا تكونوا أشباهًا لِمَن خدَعَهُ الأملُ، وغرَّه طولُ الأجلِ، وتبلَّغَ بطولِ الأمانيِّ، نسألُ اللهَ أَنْ يجعلَنا وإياكم ممَّن وعى إِنذارَه وعَقل بُشراه فمَهَدَ لِنفسِه».

وكان يُقالُ: «الشُّكْرُ تَرْكُ المعصيةِ».

وقال ابنُ المباركِ: قال سفيانُ: «ليس بفقيهٍ مَنْ لم يَعُدَّ البلاءَ نعمةً والرخاءَ مُصيبةً».

وكان مروانُ بنُ الحكمِ إذا ذكَر الإسلامَ قال: «بنعمةِ ربي وصلتُ إليه لا بما قدَّمتْ يدي ولا بإرادتي إِنِّي كنتُ خاطئًا».
وكم مِنْ مَدْخلٍ لو مُتَّ فيه
لكنتَ به نكالًا في العشيرَهْ
وقيتَ السُّوءَ والمكروهَ فيهِ
ورُحْتَ بنعمةٍ فيه سَتِيرَهْ
وكم من نعمة للهِ تُمسِي
وتصبحُ في العَيان وفي السريرَهْ


ودُعي عثمانُ بنُ عفان رضي الله عنه إلى قومٍ على رِيبة، فانطلق ليأخُذَهم، فتفرَّقوا قبْل أَنْ يَبْلغَهُمْ، فأعتقَ رقبةً شكرًا لله ألَّا يُكونَ جَرَى على يديه خزيُ مسلم.

وقال رَجُلٌ لأبي حازمٍ: ما شُكْرُ العينين يا أبا حازم؟ قال: إِنْ رأيتَ بهما خيرًا أَعلنْتَهُ، وإِنْ رأيتَ بهما شرًّا سَترْتَه، قال: فما شكرُ الأذُنين؟ قال: إِنْ سَمِعْتَ بهما خيرًا وَعَيْتَه، وإِنْ سَمِعْتَ بهما شرًّا دفعْتَهُ، قال: فما شكْر اليدين؟ قال: لا تأخُذْ بهما ما ليس لهما، ولا تمنعْ حقًّا للهِ هو فيهما، قال: فما شُكرُ البطن؟ قال: أن يكونَ أسفلُه طعامًا، وأعلاه عِلمًا، قال: فما شكر الفَرْج؟ قال: قال الله: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون: 5 - 7]، قال: فما شُكْرُ الرِّجْلين؟ قال: إِنْ علِمْتَ ميتًا تغبِطُهُ استعملتَ بهما عمَلَهُ، وإِنْ مقتَّه رغبتَ عن عملِه وأنت شاكرٌ لله.

وأمَّا مَنْ شَكَرَ بلسانِه، ولم يَشكُرْ بجميعِ أعضائِه، فمثَلُه كمثَلِ رَجُلٍ له كِساءٌ فأخذَ بطرفِه ولم يلبَسْهُ، فما ينفعه ذلك مِن الحَرِّ والبردِ والثلجِ والمطرِ.

وذكَرَ عبدُ اللهِ بنُ المباركِ: أنَّ النجاشيَّ أرسلَ ذاتَ يومٍ إلى جعفرٍ وأصحابِه، فدخلوا عليه وهو في بيتٍ عليه خلقانُ جالسٌ على التراب، قال جعفر: فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحالِ، فلمَّا رأى ما في وجوهِنا قال: إني أُبشّركم بما يَسُرُّكم، إنه جاءني مِن نحوِ أرضِكم عَينٌ لي فأخبرني أنَّ اللهَ قد نصر نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وأَهْلَكَ عَدُوَّه، وأُسِرَ فلانٌ وفلانٌ، وقُتِلَ فلانٌ وفلانٌ، التَقَوا بوادٍ يُقالُ له: بدرٌ كثيرُ الأراكِ، كأني أنظرُ إليه كنتُ أرعى به لسيدي رجلٍ مِن بني ضَمرةَ.

فقال له جعفرُ: ما بالك جالسًا على التُّرابِ، ليس تحتك بِساطٌ، وعليك هذه الأخلاقُ، قال: إنا نجدُ فيما أَنزَل اللهُ على عيسى صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّ حقًّا على عبادِ اللهِ أَنْ يُحْدِثوا للهِ تواضُعًا عند كلِّ ما أَحْدَثَ اللهُ لهم مِن نعمة، فلما أحدثَ اللهُ لي نَصْرَ نبيِّه أحدثتُ للهِ هذا التواضعَ.

وقال حبيبُ بنُ عُبيدٍ: «ما ابتلى اللهُ عبدًا ببلاءٍ إلا كان له عليه فيه نعمةٌ ألا يكونَ أشدَّ منه».

وقال عبدُ الملِك بنُ إسحاقَ: «ما مِنَ الناسِ إلا مبتلًى بعافيةٍ لينظرَ كيف شُكْرُه، أو بليَّةٍ لينظرَ كيف صبرُه».

وقال سفيانُ الثَّوري: «لقد أَنعَمَ اللهُ على عبدٍ في حاجةٍ أكثرَ مِن تضرُّعِه إليه فيها».

وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا جاءَه أمرٌ يَسُرُّه خرَّ للهِ ساجدًا شكرًا له عز وجل. ذكرَهُ أحمدُ.

وقال عبدُ الرحمن بنُ عوفٍ رضي الله عنه: خرجَ علينا النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فتوجَّه نحو صَدَقَتِه، فدخلَ فاستقبلَ القبلةَ فخرَّ ساجدًا، فأطال السجودَ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، سجدتَ سجدةً حسبتُ أَنْ يكُونَ اللهُ قد قبضَ نفسَك فيها، فقال: «إِنَّ جبريل أتاني فبشَّرني أَنَّ اللهَ عز وجل يقولُ لك: مَنْ صَلَّى عليك صليتُ عليه، ومن سَلَّم عليك سلَّمتُ عليه، فسجدتُ لله شُكرًا»[36]. ذكره أحمدُ.

وذكر محمدُ بنُ إسحاق في كتابِ «الفتوح» قال: لما جاء المُبشِّرُ يومَ بدرٍ بقتْلِ أبي جهلٍ استَحْلفَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةَ أيمانٍ باللهِ الذي لا إله إلا هو لقد رأيتَه قتيلًا، فحلفَ له، فخرَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ساجدًا.

وذكر سعيدُ بنُ منصورٍ: أنَّ أبا بكرٍ الصديقَ رضي الله عنه سجدَ حين جاءَهُ قتْلُ مسيلِمَةَ.

وذكر أحمدُ: أنَّ عليًّا رضي الله عنه سجدَ حين وجد ذا الثُّدَيَّةِ في الخوارج.

وسجد كعبُ بنُ مالكٍ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا بُشّر بتوبةِ اللهِ عليه، والقِصَّةُ في الصحيحين.

فإِنْ قِيل: فنِعَمُ اللهِ دائمًا مُستَمرَّةٌ على العبدِ، فما الذي اقتَضَى تخصيصَ النعمةِ الحادثةِ بالشُّكرِ دونَ الدائمةِ، وقد تكونُ المستدامةُ أعظمَ.

قيل الجوابُ مِن وُجوهٍ:
أحدُها: أَنَّ النِّعمَة المتجدِّدةَ تُذكِّرُ بالمستدامَةِ، والإنسانُ موكَّلٌ بالأدنى.

الثاني: أَنَّ هذه النعمةَ المتجدِّدةَ تستدعي عُبوديةً مجدَّدةً، وكان أسهلُها على الإنسانِ وأحبُّها إلى اللهِ السجودَ شكرًا له.

الثالث: أَنَّ المتجدِّدةَ لها وَقْعٌ في النّفوسِ، والقلوبُ بها أَعْلَقُ، ولهذا يُعنى بها ويُعزَّى بفقدِها.

الرابعة: أَنَّ حُدوثَ النِّعمِ تُوجِبُ فرحَ النَّفسِ وانبساطَها، وكثيرًا ما يجرُّ ذلك إلى الأَشَرِ والبَطَرِ، والسجودُ ذلٌّ للهِ وعبوديةٌ وخضوعٌ، فإذا تلقَّى به نعمتَه لِسرورِه وفرحِ النفس وانبساطِها، فكان جديرًا بدوامِ تلك النعمَةِ، وإذا تَلَقَّاها بالفرحِ الذي لا يحبُّه اللهُ، والأشَرِ والبطَرِ، كما يفعلُه الجهَّالُ عندما يُحدِثُ اللهُ لهم مِن النِّعَمِ، كانت سريعةَ الزوالِ، وَشِيكة الانتقالِ، وانقلبتْ نقمةً، وعادتِ استِدراجًا، وقد تقدَّم أَمْرُ النجاشيِّ، فإن اللهَ إذا أَحدَثَ لعبدِه نعمةً أَحَبَّ أَنْ يُحْدِثَ لها تواضعًا.

وقال ابنُ المغيرةِ: بُشِّر الحسنُ بموتِ الحجَّاجِ، وهو مُختفٍ، فخرَّ للهِ ساجدًا.

ومِن دقيقِ نِعمِ اللهِ على العبدِ، التي لا يكادُ يفطِنُ لها، أنَّه يُغلق عليه بابَه، فيرسلُ اللهُ إليه مَنْ يَطْرقُ عليه البابَ يسألُه شيئًا مِن القَتَتِ، ليعرِّفَه نعمتَه عليه.

وقال سلامُ بنُ أبي مُطيعٍ: دخلتُ على مريضٍ أَعُودُه، فإذا هو يَئِنُّ، فقلتُ له: اذكُرِ المطروحينَ على الطريقِ، اذكُرِ الذين لا مأوى لهم، ولا لهم مَنْ يخدمُهم، قال: ثم دخلتُ عليه بعد ذلك فسمعتُه يقول لنفسِه: اذكُري المطروحين في الطريقِ، اذكُري مَنْ لا مأوى له، ولا لهُمْ مَنْ يخدمُهم.

وقال عبدُ اللهِ بنُ أبي نوحٍ: قال لي رَجُلٌ على بعضِ السَّواحلِ: كم عاملْتَهُ تبارك اسمُه بما يكْرهُ فعَامَلَكَ بما تحبُّ؟ قلت: ما أُحصي ذلك كثرةً.

قال: فهل قصدتَ إليه في أمرِ كَرْبِكَ فخذَلَك؟ قلتُ: لا واللهِ، ولكنَّه أَحْسَنَ إليَّ وأعانني.

قال: فهل سألتَه شيئًا فلم يُعْطِكَهُ؟ قلتُ: هل منعني شيئًا سألتُه؟ ما سألتُه شيئًا قطُّ إلا أعطاني، ولا استعنتُ به إلا أعانني.

قال: أرأيتَ لو أنَّ بعضَ بني آدمَ فعلَ بك بعضَ هذه الخِلالِ، ما كان جزاؤهُ عندك؟ قلتُ: ما كنتُ أقدِّرُ له مكافأةً ولا جزاءً.

قال: فربُّك أحقُّ وأحرى أن تدأبَ نفسُك له في أداءِ شُكرِه، وهو المُحْسِنُ قديمًا وحديثًا إليك، واللهِ لَشُكْرُهُ أيسَرُ مِنْ مكافأة عبادِه، إنه تبارك وتعالى رَضِيَ مِن العبادِ بالحَمْدِ شُكْرًا.

وقال سفيانُ الثوريُّ: «ما كان اللهُ لِيُنْعِمَ على عبدٍ في الدُّنيا فيفضحَهُ في الآخرةِ، ويحِقُّ على المُنعِمِ أَنْ يُتِمَّ النعمةَ على مَنْ أنعمَ عليه».

وقال ابنُ أبي الحواري: قلتُ لأبي معاويةَ: ما أعظمَ النعمةَ علينا في التوحيدِ، نسألُ اللهَ ألَّا يَسْلبَنا إياهُ، قال: يحقُّ على المُنعِم أنْ يُتمَّ النعمةَ على مَنْ أَنعَمَ عليه، واللهُ أَكرَمُ مِن أَنْ يُنعِمَ بنعمةٍ إلَّا أتمَّها، ويَستَعمِلَ بعملٍ إلا قَبِلَه.

وقال ابنُ أبي الحواري: قالتْ لي امرأةٌ: أنا في بيتي قد شُغِلَ قلبي، قلتُ: وما هو؟ قالت: أريدُ أَنْ أعرفَ نِعَم اللهِ عليَّ في طرفةِ عينٍ، أو أعرفَ تقصيري عن شُكرِ النّعمةِ عليَّ في طرفةِ عينٍ، قلتُ: تُريدين ما لا تهتدي إليه عقولُنا.

وقال ابنُ زيدٍ: إنه لَيكُونُ في المجلسِ الرَّجُلُ الواحِدُ يحمدُ اللهَ عز وجل، فيقضيَ لذلك المجلسِ حوائجَهم كلَّهُمْ، قال: وفي بعضِ الكتبِ التي أنزلها اللهُ تعالى أنَّه قال: سُرُّوا عبديَ المؤمنَ، فكان لا يأتيه شيءٌ إلا قال: الحمدُ للهِ ما شاءَ اللهُ، قال: رَوِّعوا عبدي المؤمنَ، فكان لا يَطلعُ عليه طليعةٌ مِن طلائعِ المكروهِ إلا قال: الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ، فقال اللهُ تبارك وتعالى: إِنَّ عبدي يحمدُني حين روَّعْتُه كما يحمدُنِي حين سَرَرْتُه، أَدْخِلوا عبدي دارَ عِزِّي كما يحمدُني على كلِّ حالاتِهِ.

وقال وهبٌ: عَبَدَ اللهَ عابدٌ خمسينَ عامًا، فأوحى اللهُ إليه: إني قد غفرتُ لك، قال: أي ربِّ وما تغفرُ لي ولم أُذنِبْ؟ فأَذِنَ اللهُ لِعِرْقٍ في عُنِقِه يضربُ عليه، فلم يَنَمْ ولم يُصَلِّ، ثم سكنَ فنامَ، ثم أتاه ملكُ فشكا إليه فقال: ما لقيتُ مِن ضربانِ العِرْقِ، فقال المَلَكُ: إِنَّ ربَّك يقولُ: إنَّ عبادَتَك خمسينَ سَنةً تَعْدِلُ سكونَ العِرْقِ.

وذكر ابنُ أبي الدُّنيا: أنَّ داودَ قال: يا رَبَّ، أخبرني ما أدنى نِعمِك عليَّ، فأوحى اللهُ إليه: يا داود، تنفَّسْ، قال: هذا أدنى نِعمي عليك.

وبهذا يتبيَّنُ معنى الحديثِ، الذي رواه أبو داود مِن حديثِ زيدِ بنِ ثابتٍ وابنِ عبَّاسٍ: «إِنَّ اللهَ لو عذَّبَ أهلَ سماواتِه وأهلَ أرضِه لعذَّبَهم وهو غيرُ ظالمٍ لهم، ولو رحمهم لكانت رحمتُه خيرًا لهم مِن أعمالِهم».

والحديثُ الذي في الصحيح: «لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ»، قالوا: ولا أنتَ يا رسولَ اللهِ؟ قال: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ»[37]؛ فَإِنَّ أَعْمَالَ العَبْدِ لَا تُوَافِي نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِ.

أما قولُ بعضِ الفُقهاءِ: إِنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ يَحْمدَ اللهَ بأفضلِ أنواعِ الحمدِ، كان برُّ يَمينِه أَنْ يقولَ: الحمدُ للهِ حمدًا يُوافي نِعمَه ويكافئُ مزيدَه، فهذا ليس بحديثٍ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحدٍ مِن الصَّحابةِ، وإنما هو إسرائيليٌّ عن آدمَ، وصَحَّ منه: «حمدٌ لله غيرُ مكفي ولا مُودعٍ ولا مُستغني عنه ربَّنا»[38]، ولا يُمكنُ حمْدُ العبدِ وشكرُه أَنْ يوافيَ نِعمَةً مِن نِعَمِ اللهِ، فضْلًا عن موافاتِه جميعَ نِعمِهِ، ولا يكُونُ فعلُ العبدِ وحمدُه مكافئًا للمزيدِ، ولكن يُحْمل على وجهٍ يصحُّ، وهو أَنَّ الذي يَستَحقُّه اللهُ سُبْحَانَهُ مِن الحمدِ حمْدٌ يكُون مُوافيًا لِنِعمِه ومكافئًا لمزيدِه، وإنْ لم يَقْدِرِ العبدُ أَنْ يأتيَ به، كما إذا قال: الحمدُ للهِ ملءَ السماواتِ، وملءَ الأرضِ، وملءَ ما بينهما، وملءَ ما شئتَ مِن شيءٍ بعدُ، وعددَ الرمالِ والترابِ والحصى والقَطرِ، وعددَ أنفاسِ الخلائقِ، وعددَ ما خَلَقَ اللهُ وما هو خالقٌ، فهذا إخبارٌ عما يستحِقُّ مِن الحمدِ، لا عمَّا يقعُ مِن العبدِ مِن الحمْدِ.

وقال أبو المليح: قال موسى: يا ربِّ، ما أفضلُ الشكرِ؟ قال: أَنْ تشكرَني على كلِّ حالٍ.

وقال بكرُ بنُ عبدِ اللهِ قلتُ لأخٍ لي: أوصِني، فقال: ما أدري ما أقولُ غيرَ أَنَّه ينبغي لهذا العبدِ ألا يَفْتُرَ مِن الحمدِ والاستغفارِ، فإِنَّ ابنَ آدمَ بينَ نعمةٍ وذَنْبٍ، ولا تَصْلحُ النعمةُ إلا بالحمدِ والشُّكرِ، ولا يصلح الذنبُ إلا بالتوبةِ والاستغفارِ، فأوسعني علمًا ما شئت.

وقال عبدُ العزيزِ بنُ أبي داود: رأيتُ في يدِ مُحمَّدِ بنِ واسعٍ قُرحةً، فكأنَّه رأى ما شَقَّ عليَّ منها، فقال لي: أتدري ماذا للهِ على هذه القرحةِ مِن نعمةٍ حين لم يجعلْها في حدقتي، ولا طَرفِ لساني، ولا طرفِ ذاكرتي، فهانت عليَّ قرحتُه.

وقال سَهْمُ بنُ سلمةَ: حُدِّثْتُ أَنَّ الرَّجُلَ إذا ذكرَ اسمَ اللهِ على أوَّلِ طعامِهِ وحَمِدَهُ على آخرِه، لم يُسألْ عن نعيمِ ذلك الطعامِ.

ويَدخُلُ على فضلِ الشُّكرِ على الصبرِ، أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يحبُّ أَنْ يُسألَ العافيةَ، وما يُسألُ شيئًا أَحبَّ عليه مِن العافيةِ، كما في المسند عن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: قام أبو بكرٍ رضي الله عنه على المِنْبرِ، ثُمَّ قال: «سَلُوا اللهَ العافيةَ؛ فإِنَّه لم يُعْطِ عبدًا بَعْدَ اليقينِ خيرًا مِن العافيةِ»[39].
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.63 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.01 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.67%)]