عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 21-01-2024, 12:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,703
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الغني جل جلاله وتقدست أسماؤه



وَالتَّعَبُّدُ بِهَذِهِ الأسْمَاءِ رُتْبَتَانِ: الرُّتْبَةُ الأُولَى أَنْ تَشْهَدَ الأَوَّلِيَّةَ مِنْهَ تَعَالَى فِي كُلِّ شَيءٍ، وَالآخِرِيَّةَ بَعْدَ كُلِّ شَيءٍ، وَالعُلُوَّ وَالفَوْقِيَّةُ فَوْقَ كُلِّ شَيءٍ، وَالقُربَ وَالدُّنُوَ دَوُنَ كُلِّ شَيءٍ، فَالمَخْلُوقُ يَحْجُبُهُ مِثْلُهُ عَمَّا هُوَ دُونَهُ فَيَصِيرُ الحَاجِبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المَحْجُوبِ، وَالرَّبُّ جل جلاله وتقدست أسماؤه لَيْسَ دُونَهُ شَيءٌ أَقْرَبُ إِلَى الخَلْقِ مِنْهُ، وَالمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ التَّعَبُّدِ أَنْ يُعَامَلَ كُلُّ اسْمٍ بِمُقْتَضَاهُ، فَيُعَامَلُ سَبْقُهُ تَعَالَى بِأوَّلِيَّتِهِ لِكُلِّ شَيءٍ، وَسَبْقُهُ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ الأسْبَابَ كُلَّهَا بِمَا يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ مِنْ إِفْرَادِهِ وَعَدَمِ الالتِفَاتِ إِلَى غَيْرِهِ وَالوُثُوقِ بِسِوَاهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِهِ، فَمَنْ ذَا الذِي شَفَعَ لِكَ فِي الأَزَلِ حِيْثُ لَمْ تَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا حَتَّى سَمَّاكَ بِاسْمِ الإسْلَامِ، وَوَسَمَكَ بِسِمَةِ الإيمَانِ، وَجَعَلَكَ مِنْ أَهْلِ قَبْضَةِ اليَمِينِ، وَأَقْطَعَكَ فِي ذَلِكَ الغَيْبِ عَمَالَاتِ المُؤْمِنِينَ، فَعَصَمَكَ عَنِ العِبَادَةِ لِلْعَبِيدِ، وَأَعْتَقَكَ مِنَ التِزَامِ الرِّقِّ لِمَنْ لَهُ شَكْلٌ وَنَدِيدٌ، ثُمَّ وَجِّهْ وِجْهَةَ قَلْبِكَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ، فَاضْرَعْ إِلَى الذِي عَصَمَكَ مِنَ السُّجُودِ لِلصَّنَمِ، وَقَضى لَكَ بِقَدَمِ الصِّدْقِ فِي القِدَمِ، أَنْ يُتِمَّ عَلَيْكَ نِعْمَةً هُوَ ابْتَدَأَهَا، وَكَانَتْ أَوَّلِيَّتُهَا مِنْهُ بِلَا سَبَبٍ مِنْكَ، وَاسْمُ بِهِمَّتِكَ عَنْ مُلَاحَظَةِ الاخْتِيَارِ، وَلَا تَرْكَنَنَّ إِلَى الرُّسُومِ وَالآثَارِ، وَلا تَقْنَعْ بِالخَسِيسِ الدُّونِ، وَعَلَيْكَ بِالمَطَالِبِ العَاليَةِ وَالمَراتِبِ السَّامِيَةِ التِي لاَ تُنَالُ إِلَّا بِطَاعَةِ اللهِ؛ فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَضَى أَنْ لَا يُنَالَ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَمَنْ كَانَ للهِ كَمَا يُرِيدُ كَانَ اللهُ لَهُ فَوْقَ مَا يُرِيدُ، فَمَنْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ تَلَقَّاهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَمَنْ تَصَرَّفَ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ أَلَانَ لَهُ الحَدِيدَ، وَمَنْ تَرَكَ لأَجْلِهِ أَعْطَاهُ فَوْقَ المَزِيدِ، وَمَنْ أَرَادَ مُرَادَهُ الدِّينِيَّ أَرَادَ مَا يُرِيدُ، ثُمَّ اسْمُ بِسِرِّكَ إِلَى المَطْلَبِ الأَعْلَى، وَاقْصِرْ حُبَّكَ وَتَقَرُّبَكَ عَلَى مَنْ سَبَقَ فَضْلُهُ وَإِحْسَانُهُ إِلَيْكَ كُلَّ سَبَبٍ مِنْكَ، بَلْ هُوَ الذِي جَادَ عَلَيْكَ بِالأسْبَابِ، وَهَيأ لَكَ وَصَرَفَ عَنْكَ مَوَانِعَهَا، وَأَوْصَلَكَ بِهَا إِلَى غَايَتِكَ المَحْمُودَةِ، فَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، وَعَامِلْهُ وَحْدَهُ، وَآثِرْ رِضَاهُ وَحْدَهُ، وَاجْعَلْ حُبَّهُ وَمَرْضَاتَهُ هُوَ كَعْبَةُ قَلْبِكَ التِي لَا تَزَالُ طَائِفًا بِهَا، مُسْتَلِمًا لأَرْكَانِهَا، وَاقِفًا بِمُلْتَزِمِهَا.

فَيَا فَوْزَكَ وَيَا سَعَادَتَكَ إِنِ اطَّلعَ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَلْبِكَ، مَاذَا يَفِيضُ عَلَيْكَ مِنْ مَلَابِسِ نِعَمِهِ وَخِلَعِ أَفْضَالِهِ، «اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ»[29]، ثُمَّ تَتَعبَّدَ لَهُ بِاسْمِهِ الآخِرِ بِأنْ تَجْعَلَهُ وَحْدَهُ غَايَتَكَ التِي لَا غَايَةَ لَكَ سِوَاهُ، وَلَا مَطْلُوبَ لَكَ وَرَاءَهُ، فَكَمَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ الأوَاخِرُ وَكَانَ بَعْدَ كُلِّ آخِرٍ فَكَذَلِكَ اجْعَلْ نِهَايَتَكَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ إِلَى رَبِّكِ المُنْتَهَى، إِلَيْهِ انْتَهَتِ الأَسْبَابُ وَالغَايَاتُ فَلَيْسَ وَرَاءَهُ مَرْمَى يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى التَّعَبُّدِ بِاسْمِهِ الظَّاهِرِ.

وَأَمَّا التَّعَبُّدُ بِاسْمِهِ البَاطِنِ فَإِذَا شَهِدْتَ إِحَاطَتَهُ بِالعَوَالِمِ وَقُرْبَ العَبِيدِ مِنْهُ وَظُهُورَ البَواطِنِ لَهُ وَبُدُوَّ السَّرَائِرِ وَأَنَّهُ لَا شَيءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَعَامِلْهُ بِمُقْتَضَى هَذَا الشُّهُودِ، وَطَهِّرْ لَهُ سَرِيرَتَكَ؛ فَإِنَّهَا عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ، وَأَصْلِحْ لَهْ غَيْبَكَ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، وَزَكِّ لَهُ بَاطِنَكَ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ ظَاهِرٌ.

فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَتْ هَذِهِ الأَسْمَاءُ الأرْبعَةُ جِمَاعَ المَعْرِفَةِ بِاللهِ، وَجِمَاعَ العُبُودِيَّةِ لَهُ، فَهُنَا وَقَفَتْ شَهَادَةُ العَبْدِ مَعَ فَضْلِ خَالِقِهِ وَمِنَّتِهِ فَلَا يَرَى لِغَيْرِهِ شَيْئًا إِلَّا بِهِ وَبِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَغَابَ بِفَضْلِ مَوْلَاهُ الحَقِّ عَنْ جَمِيعِ مَا مِنْهُ هُوَ مِمَّا كَانَ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ أَوْ يتَحَلَّى بِهِ أَوْ يَتَّخِذُهُ عُقْدَهُ أَوْ يَرَاهْ لِيَوْمِ فَاقَتِهِ أَوْ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِمْ فِي مُهِمٍّ مِنْ مُهِمَّاتِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ قُصُورِ نَظَرِهِ وَانْعِكَاسِهِ عَنِ الحَقَائِقِ وَالأصُولِ إِلَى الأسْبَابِ وَالفُرُوعِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الطَّبِيعَةِ وَالهَوَى وَمُوْجِبِ الظُّلْمِ وَالجَهْلِ، وَالإِنْسَانُ ظَلُومٌ جَهُولٌ، فَمَنْ جَلَى اللهُ سُبْحَانَهُ صَدَأَ بَصِيرَتِهِ وَكَمَّلَ فِطْرَتَهُ وَأَوْقَفَهُ عَلَى مَبَادِئِ الأُمُورِ وَغَايَاتِهَا وَمَنَاطِهَا وَمَصَادِرِهَا وَمَوَارِدِهَا أَصْبَحَ كَالمُفْلِسِ حَقًّا مِنْ عُلُومِهِ وَأَعْمَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَأذْوَاقِهِ، يَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْ عِلْمِي وَمِنْ عَمَلِي، أَيْ مِنَ انْتِسَابِي إِليْهِمَا وَغَيْبَتِي بِهِمَا عَنْ فَضْلِ مَنْ ذَكَرنِي بِهِمَا وَابْتَدَأنِى بإعْطَائِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ سَبَبٍ مِنِّي يُوجِبُ ذَلِكَ، فَهُوَ لَا يَشْهَدُ غَيْرَ فَضْلِ مَوْلَاهُ وَسَبْقِ مِنَّتِهِ وَدَوَامِهِ، فَيُثِيبُهُ مَوْلَاهُ عَلَى هَذِهِ الشَّهَادَةِ العَالِيَةِ بِحَقِيقَةِ الفَقْرِ الأوْسَطِ بَيْنَ الفَقْرَيْنِ الأدْنَى وَالأعْلَى ثَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا الخَلَاصُ مِنْ رُؤْيَةِ الأعْمَالِ حَيْثُ كَانَ يَرَاهَا وَيَتَمَدَّحُ بِهَا وَيَسْتَكْثِرُهَا فَيَسْتَغْرِقُ بِمُطَالَعَةِ الفَضْلِ غَائِبًا عَنْهَا ذَاهِبًا عَنْهَا فَانِيًا عَنْ رُؤْيَتِهَا، الثَّوَابُ الثَّانِي أَنْ يَقْطَعَهُ عَنْ شُهُودِ الأحْوالِ، أَيْ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ فِيهَا مُتَكَثِّرةً بِهَا، فَإِنَّ الحَالَ مَحَلُّهُ الصَّدْرِ، وَالصَّدْرُ بَيْتُ القَلْبِ وَالنَّفْسِ، فَإِذَا نَزَلَ العَطَاءُ فِي الصَّدْرِ لِلْقَلْبِ ثَبَتَتِ النَّفْسُ لِتَأَخُذَ نَصِيبَهَا مِنَ العَطَاءِ، فَتَتَمَدَّحَ بِه وَتُدِل به وَتَزهو وَتسْتَطِيلَ وَتُقَرِّرَ أَنَانِيَّتَهَا لأَنَّهَا جَاهِلةٌ ظَالِمَةٌ، وَهَذَا مُقْتَضَى الجَهْلِ وَالظُّلْمِ.

فَإِذَا وَصَلَ إِلَى القَلْبِ نُورُ صِفَةِ المِنَّةِ، وَشَهِدَ مَعْنَى اسْمِهِ المَنَّانِ، وَتَجَلَّى سُبْحَانَهُ عَلَى قَلْبِ عَبْدِهِ بِهَذَا الاسْمِ مَعَ اسْمِهِ الأوَّلِ، ذَهَلَ القَلْبُ وَالنَّفْسُ بِهِ، وَصَارَ العَبْدُ فَقِيرًا إِلَى مَوْلاهُ بِمُطَالَعَةِ سَبْقِ فَضْلِهِ الأَوَّلِ، فَصَارَ مَقْطُوعًا عَنْ شُهُودِ أَمْرٍ أَوْ حَالٍ يَنْسِبُهُ إِلَى نَفْسِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ بِشَهَادَتِهِ لِحَالِهِ مَفْصُومًا عَنْ رُؤْيَةِ مِنَّةِ خَالِقِهِ وَفَضْلِهِ وَمُشَاهَدَةِ سَبْقِ الأَوَّلِيَةِ لِلْأسْبَابِ كُلِّهَا، وَغَائِبٌ بِمُشَاهَدَةِ عِزَّةِ نَفْسِهِ عَنْ عِزَّةِ مَوْلَاهُ، فَيَنْعَكِسُ هَذَا الأمْرُ فِي حَقِّ هَذَا العَبْدِ الفقيرِ وَتَشْغَلُهُ رُؤْيَةُ عِزَّةِ مَوْلَاهُ وَمِنَّتِهِ وَمُشَاهَدَةُ سَبْقِهِ بِالأوَّليَّةِ عَنْ حَالٍ يَعْتَزُّ بِهَا العَبْدُ أَوْ يَشْرُفُ بِهَا، وَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ إِلَى السَّبْقِ بِمُطَالَعَةِ الفَضْلِ يُمَحِّصُ مِنْ أدْنَاسِ مُطَالَعَاتِ المَقَامَاتِ، فَالمَقَامُ مَا كَانَ رَاسِخًا فِيهِ، وَالحَالُ مَا كَانَ عَارِضًا لَا يَدُومُ، فَمُطَالَعَاتُ المَقَامَةِ وَتَشَوَّفُهُ بِهَا وَكَوْنُهُ يَرَى نَفْسِهِ صَاحِبَ مَقَامٍ قَدْ حَقَّقَهُ وَكَمَّلَهُ فَاسْتَحَقَّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ وَيُوصَفَ بِهِ، مِثْلُ أَنْ يُقَالَ زَاهِدٌ صَابِرٌ خَائِفٌ رَاجٍ مُحِبٌّ رَاضٍ، فَكَوْنُهُ يَرَى نَفْسَهُ مُسْتَحِقًّا بِأَنْ تُضَافَ المَقَامَاتُ إِلَيْهِ وَبِأَنْ يُوصَفَ بِهَا - عَلَى وَجْهِ الاسْتِحْقَاقِ لِهَا - خُرُوجٌ عَنِ الفَقْرِ إِلَى الغِنَى، وَتَعَدٍّ لِطَوْرِ العُبُودِيَةِ، وَجَهْلٌ بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، فَالرُّجُوعُ إَلَى السَّبْقِ بِمُطَالَعَةِ الفَضْلِ يَسْتَغْرِقُ هِمَّةَ العبدِ وَيُمَحِّصُهُ وَيُطَهِّرُهُ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الأَدْنَاسِ، فَيَصِيرُ مُصَفًّى بِنُورِ اللهِ سُبْحَانَهُ عَنْ رَذَائِلِ هَذِهِ الأرْجَاسِ.

قَوْلُهُ «وَالدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ صِحَّةُ الاضْطِرَار، وَالوُقُوعُ فِي يَدِ التَّقَطُّعِ الوَحْدَانِيِّ، وَالاحِتِباسُ فِي بَيْدَاءَ قَيْدُ التَّجْرِيدِ، وَهَذَا فَقْرُ الصُّوِفيَّةِ»، وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ فَوْقَ الدَّرَجَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ عِنْدَ أَرْبَابِ السُّلُوكِ، وَهِيَ الغَايَةُ التِي شَمَّرُوا إِلَيْهَا وَحَامُوا حَوْلَهَا؛ فَإنَّ الفَقْرَ الأوَّلَ فَقْرٌ عَنِ الأعْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالفَقْرَ الثَّانِي فَقْرٌ عَنْ رُؤْيَةِ المَقَامَاتِ وَالأحْوَالِ، وَهَذَا الفَقْرُ الثَّالِثُ فَقْرٌ عَنْ مُلاَحَظَةِ المَوجُودِ السَّاتِرِ لِلْعَبْدِ عَنْ مُشَاهَدَةِ الوُجُودِ، فَيَبْقَى الوجُودُ الحَادِثُ فِي قَبْضَةِ الحَقِّ سُبْحَانَهُ كَالهَبَاءِ المَنْثُورِ فِي الهَوَاءِ، يَتَقَلَّبُ بِتَقلِيبِهِ إِيَّاهُ، وَيَسِيرُ فِي شَاهِدِ العَبْدِ كَمَا هُوَ فِي الخَارِجِ، فَتَمْحُو رُؤْيَةُ التَّوْحِيدِ عَنِ العَبْدِ شَوَاهِدَ اسْتِبْدَادِهِ وَاسْتِقْلَالِهِ بِأَمْرٍ مِنَ الأُمُورِ، وَلَوْ فِي النَّفَسِ وَاللَّمْحَةِ وَالطَّرْفَةِ وَالهِمَّةِ وَالخَاطِرِ وَالوسْوَسَةِ، إِلَّا بِإِرَادَةِ المُرِيدِ الحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَدْبِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَيَبْقَى العَبْدُ كَالكُرَةِ المُلْقَاةِ بَيْنَ صَوْلَجَانَاتِ القَضَاءِ وَالقَدَرِ تُقَلِّبُهَا كَيْفَ شَاءَتْ بِصِحَّةِ شَهَادَةِ قَيُّومِيَّةِ مَنْ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ وَتَفَرُّدُهُ بِذَلِكَ دُونَ مَا سِوَاهُ.

وَهَذَا الأَمْرُ لَا يُدْرَكُ بِمُجَرَّدِ العِلْمِ، وَلَا يَعْرِفُهُ إِلا مَنْ تَحَقَّقَ بِهِ أَوْ لَاحَ لُهْ مِنْه بَارِقٌ، وَرُبَّمَا ذَهَلَ صَاحِبُ هَذَا المَشْهَدِ عَنِ الشُّعُورِ بِوُجُودِهِ لِغَلَبَةِ شُهُودِ وُجُودِ القَيُّومِ عَلَيْهِ، فَهُنَاكَ يَصِحُّ مِنْ مِثْلِ هَذَا العَبْدِ الاضْطِرَارُ إِلَى الحَيِّ القَيُّومِ، وَشَهدَ فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ فَقْرًا تَامًّا إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ رَبًّا وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ إِلَهًا مَعْبُودًا لَا غِنَي لَهُ عَنْهُ كَمَا لَا وُجُودَ لَهُ بِغَيْرِهِ، فَهَذَا هُوَ الفَقْرُ الأَعْلَى الذِي دَارَتْ عَلَيْهِ رَحَى القَوْمِ، بَلْ هُوَ قُطْبُ تِلْكَ الرَّحَى، وَإِنَّمَا يَصِحُّ لَهُ هَذَا بِمَعْرِفَتَيْنِ لاَ بُدَّ مِنْهُمَا: مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالإلِهيَّةِ، وَمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ النَّفْسِ وَالعُبُودِيَّةِ، فَهُنَالِكَ تَتِمُّ لَهُ مَعْرِفَةُ هَذَا الفَقْرِ، فَإِنْ أَعْطَى هَاتَيْنِ المَعْرِفَتَيْنِ حَقَّهُمَا مِنَ العُبُودِيَّةِ اتَّصَفَ بِهَذَا الفَقْرِ حَالًا، فَمَا أَغْنَاهُ حِينَئِذٍ مَنْ فَقِيرٍ، وَمَا أَعَزَّهُ مِنْ ذَلِيلٍ، وَمَا أَقَواهُ مِنْ ضَعِيفٍ، وَمَا آنَسَهُ مِنْ وَحِيدٍ، فَهُوَ الغَنِيُّ بَلا مَالٍ، القَوِيُّ بَلَا سُلْطَانٍ، العَزِيزُ بِلَا عَشِيرةٍ، المَكْفِيُّ بِلَا عَتَادٍ، قَدْ قَرَّتْ عَيْنُهُ بِاللهِ فَقَرَّتْ بِهِ كُلُّ عَيْنٍ، وَاسْتَغْنَى بِاللهِ فَافْتَقَرَ إِلَيْهِ الأَغْنِيَاءُ وَالمُلُوكُ، وَلاَ يَتِمُّ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالبَرَاءَةِ مِنْ فَرْثِ الجَبْرِ وَدَمِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ طَرَقَ بَابَ الجَبْرِ انْحَلَّ عَنْهُ نِظَامُ العُبُودِيَّةِ، وَخَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ، وَشَهِدَ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا طَاعَاتٍ لِلْحُكْمِ القَدَرِيِّ الكَوْنِيِّ، وَأَنْشَدَ:
أَصْبَحْتُ مُنْفَعِلًا لمَا يَخْتَارُهُ
مِنِّى فَفِعْلِي كُلُّه طَاعَاتٌ

وإِذَا قِيلَ لَهُ: اتَّقِ اللهَ وَلَا تَعْصِهِ، يَقُولُ: إِنْ كُنْتُ عَاصِيًا لأَمْرِهِ فَأَنَا مُطِيعٌ لِحُكْمِهِ وَإِرَادَتِهِ! فَهَذَا مُنْسَلِخٌ مِنَ الشَّرَائِعِ، بَرِيءٌ مِنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، شَقِيقٌ لِعَدُوِّ اللهِ إِبْليسَ، بَلْ وَظِيفَةُ الفَقِيرِ فِي هَذَا المَوْضِعِ وَفِي هَذِهِ الضَّروُرَةِ مُشَاهَدَةُ الأَمْرِ وَالشَّرْعِ، وَرُؤْيَةُ قِيَامِهِ بِالأفْعَالِ وَصُدُورِهَا مِنْهُ كَسْبًا واخْتِيَارًا، وَتَعَلُّقُ الأمْرِ وَالنَّهْيِ بِهَا طَلَبًا وَتَرْكًا، وَتَرَتُّبِ الذمِّ وَالمَدْحِ عَلَيْهَا شَرْعًا وَعَقْلًا، وَتَعَلُّقُ الثَّوَابِ وَالعِقَابِ بِهَا آجِلًا وَعَاجِلًا، فَمَتَى اجْتَمَعَ لَهُ هَذَا الشُّهُودُ الصَّحِيحُ إِلَى شُهُودِ الاضْطِرَارِ فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ، وَالفَاقَةُ التَّامَّةُ إِلَى مُقَلِّبِ القُلُوبِ وَمَنْ بِيَدِهِ َأزِمَّةُ الاخْتِيَارِ وَمَنْ إِذَا شَاءَ شَيْئًا وَجَبَ وُجُودُهُ وَإِذَا لَمْ يَشَأِ امْتَنَعَ وُجُودُهُ، وَأَنَّهُ لاَ هَادِيَ لِمَنْ أَضَلَّهُ وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَاهُ، وَأَنَّهُ هُوَ الذِي يُحَرِّكُ القُلوبَ بِالإرَادَاتِ وَالجَوَارِحَ بِالأعْمَالِ، وَأنَّهَا مُدَبَّرَةٌ تَحْتَ تَسْخِيرِهِ مُذَلَّلَةٌ تَحْتَ قَهْرِهِ، وَأنَّهَا أَعْجَزُ وَأَضْعَفُ مِنْ أَنْ تَتَحَرَّكَ بِدُونِ مَشِيئَتِهِ، وَأَنَّ مَشِيئَتَهُ نَافِذَةٌ فِيهَا كَمَا هِيَ نَافِذَةٌ فِي حَرَكَاتِ الأفْلَاكِ وَالمِياهِ وَالأشْجَارِ، وَأَنَّهُ حَرَّكَ كُلًّا مِنُهَا بِسَبَبٍ اقْتَضَى تَحْرِيكَهُ، وَهُوَ خَالِقُ السَّبَبِ المُقْتَضِي، وَخَالِقُ السَّبَبِ خَالِقٌ لِلْمُسَبَّبِ، فَخَالِقُ الإرَادَةِ الجَازِمَةِ التِي هِيَ سَبَبُ الحَرَكَةِ وَالفِعْلِ الاخْتِيَارِيِّ خَالِقٌ لَهُـمَا، وَحُدُوثُ الإرَادَةِ بِلَا خَالِقٍ مُحْدِثٍ مُحَالٌ، وَحُدُوثُهَا بِالعَبْدِ بِلَا إِرَادَةٍ مِنْهُ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ بِإِرَادَةٍ فَإِرَادَتُهُ كَذَلِكَ، وَيَسْتَحِيلُ بِهَا التَّسَلْسُلُ، فَلَا بُدَّ مِنْ فَاعِلٍ أَوْجَدَ تِلْكَ الإِرَادَةَ التِي هِيَ سَبَبُ الفِعْلِ.

فَهُنَا يَتَحَقَّقُ الفَقْرُ وَالفَاقَةُ وَالضَّرُورَةُ التَّامَّةُ إِلَى مَالِكِ الإرَادَاتِ وَرَبِّ القُلُوبِ وَمُصَرِّفِهَا كَيْفَ شَاءَ، فَمَا شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ مِنْهَا أَزَاغَهُ وَمَا شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ مِنْهَا أَقَامَهُ: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8]، فَهَذَا هُوَ الفَقْرُ الصَّحِيحُ المُطَابِقُ لِلْعَقْلِ وَالفِطْرَةِ وَالشَّرْعِ، وَمَنْ خَرَجَ عَنْهُ وَانْحَرَفَ إِلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ زَاغَ قَلْبُهُ عَنِ الهُدَى، وَعَطَّلَ مُلْكَ المَلِكِ الحَقِّ وَانْفِرَادَهُ بِالتَّصَرُّفِ وَالرُّبُوبِيَّةِ عَنْ أَوَامِرِهِ وَشَرْعِهِ وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ.

وَحُكْمُ هَذَا الفَقِيرِ المُضْطَرِّ إِلَى خَالِقِهِ فِي كُلِّ طَرْفَةِ عَيْنٍ وَكُلِّ نَفَسٍ أَنَّهُ إِنْ حَرَّكَ بِطَاعَةٍ أَوْ نِعْمَةٍ شَكَرَهَا وَقَالَ: هَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَمَنِّهِ وَجُودِهِ فَلهُ الحَمْدُ، وَإِنْ حَرَّكَ بِمَبَادِي مَعْصِيَتِهِ صَرَخَ وَلجَأَ وَاسْتَغَاثَ وَقَالَ: أَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، يَا مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّفْ قَلْبِي عَلَى طَاعَتِكَ، فَإِنْ تَمَّ تَحْريكُهُ الْتَجَأَ بِالمَعْصِيةِ التَجَاءَ أَسِيرٍ قَدْ أَسَرَهُ عَدُوُّهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا خَلَاصَ لَهُ مِنْ أَسْرِهِ إِلَّا بِأن يَفْتَكَّهُ سَيِّدُهُ مِنَ الأَسْرِ، فَفِكَاكُهُ فِي يَدِ سَيِّدِهِ لَيْسَ فِي يَدِهِ مِنْهُ شَيءٌ البَتَّةَ، وَلَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، فَهُوَ فِي أَسْرِ العَدُوِّ نَاظِرٌ إِلَى سَيِّدِهِ وَهُوَ قَادِرٌ، قَدِ اشْتَدَّتْ ضَرُورَتُهُ إِلَيْهِ، وَصَارَ اعْتِمَادُه كُلُّهُ عَلَيْهِ، قَالَ سَهْلٌ: «إِنَّمَا يَكُونُ الالتِجَاءُ عَلَى مَعْرِفَةِ الاِبْتِلَاءِ»، يَعْنِى: وَعَلَى قَدْرِ الابْتِلَاءِ تَكُونُ المَعْرِفَةُ بِالمُبْتَلِي.

وَمَنْ عَرَفَ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ»[30]، وَقَامَ بِهَذِهِ المَعْرِفَةِ شُهُودًا وَذَوْقًا، وَأَعْطَاهَا حَقَّهَا مِنَ العُبُودِيَّةِ فَهُوَ الفَقِيرُ حَقًّا، وَمَدَارُ الفَقْرِ الصَّحِيحِ عَلَى هَذِهِ الكَلِمَةِ، فَمَنْ فَهِمَ سِرَّ هَذَا فَهِمَ سِرَّ الفَقْرِ المُحَمَّدِيِّ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الذِي يُنْجِي مِنْ قَضَائِهِ، وَهُوَ الذِي يُعِيذُ بِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَدْفَعَ مَا مِنْهُ بِمَا مِنْهُ، فَالخَلْقُ كُلُّهُ لَهُ، وَالأمْرُ كُلُّه لَهُ، وَالحُكْمُ كُلُّهُ لَهُ، وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَمَا شَاءَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلا مَشِيئَتُهُ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَجْلِبَهُ إِلَّا مَشِيئَتُهُ، فَلَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا هُوَ، وَلَا يَذْهَبُ بالسَّيِّئَاتِ إِلَّا هُوَ، وَلَا يَهْدِي لِأحْسَنِ الأعْمَالِ والأَخْلَاقِ إِلَّا هُوَ، وَلَا يَصْرِفُ سَيِّئَهَا إِلَّا هُوَ ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس: 107].

والتَّحَقُّقُ بِمَعْرِفَةِ هَذَا يُوجِبُ صِحَّةَ الاضْطِرَارِ وَكَمالَ الفَقْرِ والفَاقَةِ، وَيَحُولُ بَيْنَ العَبْدِ وَبَيْنَ رُؤْيَةِ أَعْمَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَالِاسْتِغْنَاءِ بِهَا عَنْ رُفْقَةِ العُبُودِيَّةِ إِلَى دَعْوَى مَا لَيْسَ لَهُ، وَكَيْفَ يَدَّعِي مَعَ اللهِ حَالًا أَوْ مَلَكَةً أَوْ مقَامًا مَنْ قَلْبُهُ وَإِرَادَتُهُ وَحَرَكَاتُهُ الظَّاهِرَةُ والبَاطِنَةُ بِيَدِ رَبِّهِ وَمَلِيكِهِ لَا يَمْلِكُ هُوَ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا هِيَ بِيَدِ مُقَلِّبِ القُلُوبِ ومُصَرِّفِهَا كَيْفَ يَشَاءُ، فَالإِيْمَانُ بِهَذَا والتَّحَقُّقُ بِهِ نِظَامُ التَّوْحِيدِ، وَمَتَى انْحَلَّ مِنَ القَلْبِ انْحَلَّ نِظَامُ التَّوْحِيدِ، فَسُبْحَان مَنْ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِهِ، وَلَا يُطاعُ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ، وَلَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الكَرَامَةِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَلَا سَبِيلَ إِلى طَاعَتِهِ إِلًّا بِتَوْفِيقِهِ وَمَعُونَتِهِ، فَعَادَ الأمْرُ كُلُّه إِلَيْهِ كَمَا ابْتَدَأَ الْأمرُ كُلُّه مِنْهُ، فَهُوَ الأوَّلُ والآخِرُ وإِنَّ إِلى رَبِّكَ المُنْتَهَى.

وَمَنْ وَصَلَ إِلَى هَذَا الْحَالِ وَقَعَ فِي يَدِ التَّقَطُّعِ وَالتَّجْرِيدِ، وَأَشْرَفَ عَلَى مَقَامِ التَّوْحِيدِ الخَاصِّيِّ، فَإِنَّ التَّوْحِيدَ نَوْعَانِ: عَامِّي وَخَاصِّي، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ نَوْعَانِ، وَالذِّكْرَ نَوْعَانِ، وسَائِرُ الْقُرَبِ كَذَلِكَ خَاصِّيَّةٌ وَعَامِّيَّةٌ، فَالْخاصِيَّةُ مَا بَذَلَ فِيهَا الْعَامِلُ نُصْحَهُ وَقَصْدَهُ بِحَيْثُ يُوقِعُهَا عَلَى أَحْسَنِ الوجُوهِ وَأَكْمَلِهَا. والعَامِيَّةُ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَالمُسْلِمُونَ كُلُّهُم مُشتَرِكُونَ فِي إِتْيَانِهِمِ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ عز وجل، وَقَدْ ظَنَّ كَثِيرٌ مِنَ الصُّوفيَّةِ أَنَّ التَّوحِيدَ الخَاصِّي أَنْ يَشْهَدَ العَبْدُ المُحَرِّكَ لَهُ وَيَغِيبُ عِنِ المُتَحَرِّكِ وَعَنِ الحَرَكَةِ، فَيَغِيبُ بِشُهُودِهِ عَنْ حَرَكَتِهِ، وَيَشْهَدُ نَفْسَهُ شَبَحًا فَانِيًا يَجْرِي عَلَى تَصَارِيفِ المَشِيئَةِ، كَمَنْ غَرَقَ فِي البَحْرِ فأمْوَاجُهُ تَرفَعُهُ طَوْرًا وتُخْفِضُهُ طَوْرًا، فَهُو غَائِبٌ بِهَا عَنْ مُلاحَظَةِ حَرَكَتِهِ فِي نَفْسِهِ، بَلْ قَدِ انْدَرَجَتْ حَرَكَتُهُ فِي ضِمْنِ حَرَكَةِ المَوْجِ وَكَأنَّهُ لَا حَرَكَةَ لَهُ بِالْحَقِيقَةِ، وَهَذَا وَإنْ ظَنَّهُ كَثِيرٌ مِنَ القَومِ غَايَةً وَظَنَّهُ بَعْضُهُمْ لازِمًا مِنْ لَوازِمِ التَّوحِيدِ فَالصَّوَابُ أَنَّ مِنْ وَرَائِهِ مَا هُوَ أَجَلُّ مِنْهُ، وغَايَةُ هَذَا الفْنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهُوَ أنْ لَا يَشْهَدَ رَبًّا وخَالِقًا وَمُدَبِّرًا إِلَّا اللهُ، وَهَذَا هُوَ الحَقُّ، وَلَكِنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهُوَ لَا يَكْفِي فِي النَّجَاةِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ شُهُودُه والفَنَاءُ فِيه هُوَ غَايَةَ المُوحِّدِينَ ونِهَايَةَ مَطْلَبِهِمْ، فَالغَايَةُ الَّتِي لَا غَايَةَ وَرَاءَهَا وَلا نِهَايَةَ بَعْدَهَا الفَنَاءُ فِي توحِيدِ الإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَفْنَى بِمَحَبَّةِ رَبِّه عَنْ مَحَبَّةِ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَبِتَألُّهِهِ عَنْ تَأَلُّهِ مَا سِواهُ، وبِالشَّوْقِ إِليْهِ وإِلَى لِقائِهِ عَنِ الشَّوْقِ إِلَى مَا سِوَاهُ، وبالذُّلِّ لَهُ والفَقْرِ إِليهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَعْبُودِهِ وإِلَهِهِ وَمَحْبُوبِهِ عَنِ الذُّلِّ إِلى كُلِّ مَا سِواهُ، وَكَذَلِكَ يَفْنَى بِخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ عَنْ خَوْفِ ما سِواهُ وَرَجَائِهِ، فَيَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الوُجُودِ مَا يَصْلُحُ لَهُ ذَلِك إِلَّا اللهُ، ثُمَّ يَتَّصِفُ بِذَلِكَ حَالًا وَيَنْصَبغُ بِهِ قَلْبُهُ صِبْغَةً ثُمَّ يَفْنَى بِذَلِكَ عَمَّا سِواهُ، فَهَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الخَاصِّي الَّذِي شَمَّرَ إِلَيْهِ العَارِفُونَ، والوِرْدُ الصَّافِي الَّذِي حَامَ حَوْلَهُ المُحِبُّونَ.

وَمَتَى وَصَلَ إِلَيْهِ العَبْدُ صَارَ فِي يَدِ التَّقَطُّعِ والتَّجْرِيدِ، واشْتَمَلَ بِلِبَاسِ الفَقْرِ الحَقِيقِيِّ، وفَرَّقَ حُبُّ اللهِ مِنْ قَلْبِهِ كُلَّ مَحَبَّةٍ وَخَوْفُهُ كُلَّ خَوْفٍ وَرَجاؤُهُ كُلَّ رَجَاءٍ، فَصَارَ حُبُّهُ وَخَوفُهُ ورَجَاؤُهُ وذُلُّهُ وإِيثَارُهُ وإِرَادَتُهُ ومُعَامَلَتُهُ كُلُّ ذَلكَ واحِدٌ لِواحِدٍ، فَلمْ يَنْقَسِمْ طَلَبُهُ وَلَا مَطْلُوبُهُ، فَتَعَدُّدُ المَطْلُوبِ وانْقِسَامُهُ قَادِحٌ فِي التَّوْحِيدِ والإِخْلاصِ، وانْقِسَامُ الطَّلَبِ قَادِحٌ فِي الصِّدْقِ وَالإِرَادَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْحِيدِ الطَّلَبِ وَالإِرَادَةِ وتِوْحِيدِ المَطْلُوبِ المُرَادِ، فَإِذَا غَابَ بِمَحْبُوبِهُ عَنْ حُبِّ غَيْرِهِ وبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ وبِمَأْلُوهِهِ عَنْ تَأَلُّهِ غَيْرِهِ صَارَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ الخَاصِّيِّ، وَصَاحِبُهُ مُجَرَّدٌ عَنْ مُلَاحَظَةِ سِوَى مَحْبِوبِهِ أَوْ إِيثَارِهِ أَوْ مَعَامَلَتِهِ أَوْ خَوْفِهِ أَوْ رَجَائِهِ.

وَصَاحِبُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ فِي قَيدِ التَّجْرِيدِ عَنْ مُلَاحَظَةِ فَاعِلٍ غَيْرِ اللهِ، وَهُوَ مُجَرَّدٌ عَنْ مُلَاحَظَةِ وُجُودِهِ، وَهُوَ كَمَا كَانَ صَاحِبُ الدَّرَجَةِ الأُولَى مُجَرَّدًا عَنْ أَمْوَالِهِ، وَصَاحِبُ الثَّانِيَةِ مُجَرَّدًا عَنْ أَعْمَالِهِ وَأَحْوالِهِ، فَصَاحِبُ الفَنَاءِ فِي تَوحِيدِ الإلَهَّيةِ مُجَرَّدٌ عَنْ سِوَى مَرَاضِي مَحْبُوبِهِ وَأوَامِرِهِ، قَدْ فَنَى بِحُبِّهِ وابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ عَنْ حَبِّ غَيْرِهِ وابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ، وَهَذَا هُوَ التَّجْريدُ الَّذِي سَمَتْ إِلَيْهِ هِمَمُ السَّالِكِينَ، فَمْنَ تَجَرَّدَ عَنْ مَالِهِ وحَالِهِ وِكَسْبِهِ وَعَمَلِهِ، ثُمَّ تَجَرَّدَ عَنْ شُهُودِ تَجْرِيدِهِ فَهُوَ المُجَرَّدُ عِنْدَهُمِ حَقًّا، وَهَذَا تَجْرِيدُ القَوْمِ الَّذِي عَلَيْهِ يَحُومُونَ، وَإيَّاهُ يَقْصُدُونَ، وَنِهَايَتُهُ عِنْدَهُمْ التَّجْرِيدُ بِفَنَاءِ وُجُودِهِ، وَبَقَاؤُهُ بِمَوْجُودِهِ، بِحَيْثُ يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزلْ، وَلَا غَايَةَ عِنْدَهُمْ وَرَاءَ هَذَا.

وَلَعَمْرُ اللهِ إِنَّ وَرَاءَهُ تَجْرِيدًا أكْمَلَ مِنْهُ، وَنِسْبَتُهُ إِلَيْهِ كَتَفْلَةٍ فِي بَحْرٍ وَشَعْرَةٍ فِي ظَهْرِ بَعِيرٍ، وَهُوَ تَجْرِيدُ الحُبِّ والإِرَادَةِ عَنِ الشَّوائِبِ وَالعِلَلِ وَالحُظُوظِ، فَيَتَوحَّدَ حُبُّهُ كَمَا تَوحَّدَ مَحْبُوبُهُ، وَيَتَجَرَّدُ عَنْ مُرَادِهِ مِنْ مَحْبُوبِهِ بِمُرَادِ مَحْبُوبِهِ مِنْهُ، بَلْ يَبْقَى مُرَادُ مَحْبُوبِهِ هُوَ مِنْ نَفْسِ مُرَادِهِ، وَهُنَا يُعْقَلُ الاتِّحَادُ الصَّحِيحُ وَهُوَ اتِّحَادُ الُمرَادِ، فَيَكُونُ عَيْنُ مُرَادِ المَحْبُوبِ هُوَ عَيْنُ مَرَادِ المُحِبِّ، وَهَذَا هُوَ غايَةُ المُوَافَقَةِ وَكَماَلُ العُبُودِيةِ.

وَلَا تَتَجَرَّدُ المَحَبَّةُ عَنِ العِلَلِ والحُظُوظِ وَالَّتِي تُفْسِدُهَا إِلَّا بِهَذَا، فَالفَرْقُ بَيْنَ مَحَبَّةِ حَظِّكَ وَمُرَادِكَ مِنَ المَحْبُوبِ وَأِنَّكَ إِنَّمَا تُحِبُّهُ لِذَلِكَ وَبَيْنَ مَحَبَّةِ مُرَادِ المَحْبُوبِ مِنْكَ وَمَحَبَّتِكَ لَهُ لِذَاتِهِ أَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُحَبَّ.

وَأَمَّا الاتِّحَادُ فِي الإِرَادَةِ فَمُحَالٌ، كَمَا أَنَّ الاتِّحَادَ فِي المُرِيدِ مُحَالٌ، فَالإِرَادَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ، وَأَمَّا مُرَادُ المُحِبِّ والمَحْبُوبِ إِذَا خَلُصَتِ المَحَبَّةُ مِنَ العِلَلِ والحُظُوظِ فَواحِدٌ، فَالفَقْرُ وَالتَّجْرِيدُ والْفَنَاءُ مِنْ وادٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ جَعَلَهُ صَاحِبُ (مَنَازِلِ السَّائِرِينَ) مِنْ قِسْمِ النِّهَايَاتِ، وَحَدَّهُ بِأَنَّهُ الانْخِلَاُع عَنْ شُهُودِ الشَّواهِدِ، وَجَعَلَهُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: الدَّرَجَةُ الأُولَى: تَجْرِيدُ الْكَشْفِ عَنْ كَسْبِ الْيَقِينِ، والثَّانِيَةُ: تَجْرِيدُ عَيْنِ الجَمْعِ عَنْ دَرْكِ العِلْمِ، وَالثَّالِثَةُ: تَجْرِيدُ الخَلَاصِ مِنْ شُهُودِ التَّجْرِيدِ.

فَقَوْلَهُ فِي الأُولَى: «تَجْرِيدُ الكَشْفِ عَنْ كَسْبِ اليَقِينِ» يُرِيدُ كَشْفَ الإِيمَانِ وَمُكَافَحَتَهُ لِلْقَلبِ، وَهَذَا وإِنْ حَصَلَ باكتِسَابِ اليَقِينِ مِنْ أَدِلَّتِهِ وَبرَاهِينهِ، فَالتَّجْرِيدُ أَنْ يَشْهَدَ سَبْقَ اللهِ بِمِنَّتِهِ لِكُلِّ سَبَبِ يُنَالُ بِهِ اليَقِينُ أَوِ الإِيمَانُ، فَيُجَرِّدُ كَشْفَهُ لِذَلِكَ عَنْ مُلاحَظَةِ سَبَبٍ أَوْ وَسِيلَةٍ، بَلْ يَقْطَعُ الأسْبَابَ والوَسَائِلَ وَيْنتَهِي نَظَرُهُ إِلَى المُسَببِ، وَهَذِهِ إِنْ أُرِيدَ تَجْرِيدُهُا عَنْ كَوْنِهَا أسْبَابًا فَتَجْرِيدٌ بَاطِلٌ، وَصَاحِبُهُ ضَالٌّ، وَإِنْ أُريدَ تَجْرِيدُهَا عَنِ الوُقُوفِ عَنْدَهَا ورُؤَيَةُ انتِسَابِهَا إِلَيْهِ وَصَيْرُورَتُها عِنْوانُ اليَقِينِ إِنَّمَا كَانَ بِهِ وَحْدُهُ فَهَذَا تَجْرِيدٌ صَحِيحٌ وَلَكِنْ عَلَى صَاحبِهِ إِثْبَاتُ الأَسْبَابِ، فَإِنْ نَفَاهَا عَنْ كُوْنِهَا أسْبَابًا فَسَدَ تَجْرِيدُهُ.

وَقَولُهُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيةِ: «تَجْرِيدُ عَيْنِ الجَمْعِ عَنْ دَرَكِ العَلْمِ» لَمَّا كَانَتِ الدَّرجَةُ الأُولَى تَجْرِيدًا عَنِ الكَسْبِ وانْتِهَاءً إِلَى عَيْنِ الجَمْعِ الَّذِي هُوَ الغَيْبَةُ بِتَفَرُّدِ الرَّبِّ بالحُكْمِ عَنْ إِثْبَاتِ وَسِيلةٍ أَوْ سَبَبٍ، اقْتَضَتْ تَجْرِيدًا آخَرَ أَكْمَلَ مِنَ الأوَّلِ، وَهُوَ تَجْرِيدُ هَذَا الجَمْعِ عَنْ عِلْمِ العَبْدِ بِهِ، فالأُولَى تَجْرِيدٌ عَنْ رُؤْيَةِ السَّبَبِ والفِعْلِ، والثَّانِيةُ تَجْرِيدٌ عَنِ العِلْمِ والإِدْرَاكِ.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.66 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.04 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.71%)]