عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 21-01-2024, 12:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,481
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الغني جل جلاله وتقدست أسماؤه



كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6، 7]، وَلَمْ يَقُلْ: إِنِ اِسْتَغْنَى، بَلْ جَعَلَ الطُّغْيَانَ نَاشِئًا عَنْ رُؤْيَةِ غِنَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ فِي سُورَةِ اللَّيْلِ، بَلْ قَالَ: ﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل: 8 - 10]، وَهَذَا - وَاللهُ أَعْلَمُ - لَأَنَّهُ ذَكَرَ مُوجِبَ طُغْيَانِهِ وَهُوَ رُؤْيَةُ غِنَى نَفْسِهِ، وَذَكَرَ فِي سُورَةِ اللَّيْلِ مُوجِبَ هَلَاكِهِ وَعَدَمَ تَيْسِيرِهِ لِلْيُسْرَى، وَهُوَ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ رَبِّهِ بِتَرْكِ طَاعَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ اِفْتَقَرَ إِلَيْهِ لَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِمَا أَمَرَهُ مِنْ طَاعَتِهِ فِعْلَ المَمْلُوكِ الَّذِي لَا غِنَى لَهُ عَنْ مَوْلَاهُ طَرْفَةُ عَيْنٍ وَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنَ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ مَعَهُ بُخْلَهُ وَهُوَ تَرْكُهُ إِعْطَاءَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَأَدَاءِ المَالِ، وَجَمَعَ إِلَى ذَلِكَ تَكْذِيبَهُ بِالحُسْنَى، وَهِيَ الَّتِي وَعَدَ بِهَا أَهْلَ الْإِحْسَانِ بِقَوْلِهِ: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26]، وَمَنْ فَسَّرَهَا بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فَلَأَنَّهَا أَصْلُ الْإِحْسَانِ، وَبِهَا تُنَالُ الْحُسْنَى، وَمَنْ فَسَّرَهَا بِالْخُلْفِ فِي الْإِنْفَاقِ فَقَدْ هَضَمَ المَعْنَى حَقَّهُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْخُلْفُ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْحُسْنَى، وَالمَقْصُودُ أَنَّ الْاسْتِغْنَاءَ عَنِ اللهِ سَبَبُ هَلَاكِ الْعَبْدِ وَتَيْسِيرِهِ لِكُلِّ عُسْرَى، وَرُؤْيَتَهُ غِنَى نَفْسِهِ سَبَبُ طُغْيَانِهِ، وَكِلَاهُمَا مُنَافٍ لِلْفَقْرِ وَالْعُبُودِيَّةِ.

قَوْلُهُ: «الدَّرَجَةُ الْأُولَى: فَقْرُ الزُّهَّادِ، وَهُوَ نَفْضُ الْيَدَيْنِ مِنَ الدُّنْيَا ضَبْطًا أَوْ طَلَبًا، وَإِسْكَاتُ اللِّسَانِ عَنْهَا ذَمًّا أَوْ مَدْحًا، وَالسَّلَامَةُ مِنْهَا طَلَبًا أَوْ تَرْكًا، وَهَذَا هُوَ الْفَقْرُ الَّذِي تَكَلَّمُوا فِي شَرَفِهِ»، فَحَاصِلُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ فَرَاغُ الْيَدِ وَالْقَلْبِ مِنَ الدُّنْيَا، وَالذُّهُولُ عَنِ الْفَقْرِ مِنْهَا وَالزُّهْدِ فِيهَا، وَعَلَامَةُ فَرَاغِ الْيَدِ نَفْضُ الْيَدَيْنِ ضَبْطًا أَوْ طَلَبًا، فَهُوَ لَا يَضْبِطُ يَدَهُ مَعَ وُجُودِهَا شُحًّا وَضَنًّا بِهَا، وَلَا يَطْلُبُهَا مَعَ فَقْدِهَا سُؤَالًا وَإِلْحَافًا وَحِرْصًا، فَهَذَا الْإِعْرَاضُ وَالنَّفْضُ دَالٌّ عَلَى سُقُوطِ مَنْزِلَتِهَا مِنَ الْقَلْبِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ لَهَا فِي الْقَلْبِ مَنْزِلَةٌ لَكَانَ الْأَمْرُ بِضِدِّ ذَلِكَ، وَكَانَ يَكُونُ حَالُهُ الضَّبْطَ مَعَ الْوُجُودِ لِغِنَاهُ بِهَا، وَلَكَانَ يَطْلُبُهَا مَعَ فَقْدِهَا لِفَقْرِهِ إِلَيْهَا.

وَأَيْضًا مِنْ أَقْسَامِ الْفَرَاغِ إِسْكَاتُ اللِّسَانِ عَنْهَا ذَمًّا وَمَدْحًا؛ لَأَنَّ مَنِ اِهْتَمَّ بِأَمْرٍ وَكَانَ لَهَ فِي قَلْبِهِ مَوْقِعٌ اِشْتَغَلَ اللِّسَانُ بِمَا فَاضَ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ أَمْرِهِ مَدْحًا أَوْ ذَمًّا، فَإٍِنَّهُ إِنْ حَصَلَتْ لَهُ مَدَحَهَا، وَإِنْ فَاتَتهُ ذَمَّهَا، وَمَدْحُهَا وَذَمُّهَا عَلَامَةُ مَوْضِعِهَا مِنَ الْقَلْبِ وَخَطَرِهَا، فَحَيْثُ اشْتَغَلَ اللِّسَانُ بِذَمِّهَا كَانَ ذَلِكَ لِخَطَرِهَا فِي الْقَلْبِ؛ لَأَنَّ الشَيءَ إِنَّمَا يُذَمُّ عَلَى قَدْرِ الْاهْتِمَامِ بِهِ وَالْاعْتِنَاءُ شِفَاءٌ لِغَيْظٍ مِنْهُ بِالذَّمِّ، وَكَذَلِكَ تَعْظِيمُ الزُّهْدِ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى قَدْرِ خَطَرِهَا فِي الْقَلْبِ؛ إِذْ لَوْلَا خَطَرُهَا وَقَدْرُهَا لَمَا صَارَ لِلزُّهْدِ فِيهَا خَطَرٌ، وَكَذَلِكَ مَدْحُهَا دَلِيلٌ عَلَى خَطَرِهَا وَمَوْقِعِهَا مِنْ قَلْبِهِ؛ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ، وَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ لَا يَضْبِطُهَا مَعَ وُجُودِهَا، وَلَا يَطْلُبُهَا مَعَ عَدَمِهَا، وَلَا يَفِيضُ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ مَدْحٌ لَهَا يَدُلُّ عَلَى مَحَبَّتِهَا، وَلَا يَفِيضُ مِنَ الْقَلْبِ عَلَى اللِّسَانِ ذَمٌّ يَدُلُّ عَلَى مَوْقِعِهَا وخَطَرِهَا؛ فَإِنَّ الشَّيْءَ إِذَا صَغُرَ أَعْرَضَ الْقَلْبُ عَنْهُ مَدْحًا أَوْ ذَمًّا، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ سَالِمٌ عَنِ النَّظَرِ إِلَى تَرْكِهَا، وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ خَطَرِ الزُّهْدِ فِيهَا؛ لَأَنَّ نَظَرَ الْعَبْدِ إِلَى كَوْنِهِ تَارِكًا لَهَا زَاهِدًا فِيهَا تَتَشَرَّفَ نَفْسُهُ بِالتَّرْكِ، وَذَلِكَ مِنْ خَطَرِهَا وَقَدْرِهَا، وَلَوْ صَغُرَتْ فِي الْقَلْبِ لَصَغُرَ تَرْكُهَا وَالزُّهْدُ فِيهَا، وَلَوِ اِهْتَمَّ الْقَلْبُ بِمُهِمٍّ مِنَ المُهِمَّاتِ المَطْلُوبَةِ الَّتِي هِيَ مَذَاقَاتُ أَهْلِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ لَذَهُلَ عَنِ النَّظَرِ إِلَى نَفْسِهِ بِالزُّهْدِ وَالتَّرْكِ.

فَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ مُعَافًى مِنْ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ كُلِّهَا: مِنْ مَرَضِ الضَّبْطِ، وَالطَّلَبِ، وَالذَّمِّ، وَالمَدْحِ، وَالتَّرْكِ، فَهِيَ بِأَسْرِهَا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا مَمْدُوحًا فِي الْعِلْمِ مَقْصُودًا يَسْتَحِقُّ المُتَحَقِّقُ بِهِ الثَّوَابَ وَالمَدْحَ، لَكِنَّهَا آثَارٌ وَأَشْكَالٌ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ صاحِبَهَا لَمْ يَذُقْ حَالَ الْخُلُوِّ وَالتَّجْرِيدِ الْبَاطِنِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَحَقَّقَ مِنَ الْحَقَائِقِ المُتَوَقَّعَةِ المُتَنَافَسِ فِيهَا.

فَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ دَرَجَتَي الدَّاخِلِ بِكُلِّيَّتِهِ فِي الدُّنْيَا قَدْ رَكِنَ إِلَيْهَا وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهَا وَاتَّخَذَهَا وَطَنًا وَجَعَلَهَا لَهُ سَكَنًا، وَبَيْنَ مَنْ نَفَضَهَا بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، وَتَخَلَّصَ مِنْ قُيُودِهَا وَرُعُونَاتِهَا وَآثَارِهَا، وَارْتَقَى إِلَى مَا يَسُرُّ الْقَلْبَ وَيُحْيِيهِ وَيُفْرِحُهُ وَيُبْهِجُهُ مِنْ جَذَبَاتِ الْعِزَّةِ، فَهُوَ فِي الْبَرْزَخِ كَالْحَامِلِ المُقَرَّبِ يَنْتَظِرُ وِلَادَةَ الرُّوُحِ وَالْقَلْبِ صَبَاحًا وَمَسَاءً؛ فَإِنَّ مَنْ لَمْ تُولَدْ رُوحُهُ وَقَلْبُهُ وَيَخْرُجُ مِنْ مَشِيمَةِ نَفْسِهِ وَيَتَخَلَّصُ مِنْ ظُلُمَاتِ طَبْعِهِ وَهَوَاهُ وَإِرَادَتِهِ فَهُوَ كَالْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ الَّذِي لَمْ يَرَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، فَهَكَذَا هَذَا الَّذِي بَعْدُ فِي مَشِيمَةِ النَّفْسِ، وَالظُّلُمَاتُ الثَّلَاثُ هِيَ: ظُلْمَةُ النَّفْسِ، وَظُلْمَةُ الطَّبْعِ، وَظُلْمَةُ الْهَوَى، فَلَا بُدَّ مِنَ الْوُلَادَةِ مَرَّتَينِ كَمَا قَالَ المَسِيحُ لِلْحَوَارِيينَ: «إِنَّكُم لَنْ تَلِجُوا مَلَكُوتَ السَّمَاءِ حَتَى تُولَدُوا مَرَّتَينِ»؛ وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبًا لِلمُؤمِنِينَ كَمَا فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِم وَهُوَ أَبٌ لَهم)[23]، وَلِهَذَا تَفَرَّعَ عَلَى هَذِهِ الْأُبُوَّةِ أَنْ جُعِلَتْ أَزْوَاجُهُ أُمَهَاتِهِمْ؛ فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ وَقُلُوبَهُمْ وُلِدَتْ بِهِ وِلَادَةً أُخْرَى غَيْرَ وِلَادَةِ الْأُمَّهَاتِ؛ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ أَرْوَاحَهُمْ وَقُلُوبَهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالْغَيِّ، إِلَى نُورِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَفَضَاءِ المَعْرِفَةِ وَالتَّوْحِيدِ، فَشَاهَدَتْ حَقَائِقَ أُخَرَ وَأُمُورًا لَمْ يَكُنْ لَهَا بِهَا شُعُورٌ قَبْلَهُ.

قَالَ تَعَالَى: ﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [إبراهيم: 1].

وَقَالَ: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 2].

وَقَالَ: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [آل عمران: 164].

وَالمَقْصُودُ أَنَّ الْقُلُوبَ فِي هَذِهِ الْوِلَادَةِ ثَلَاثَةٌ: قَلْبٌ لَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَأْنِ لَهُ بَلْ هُوَ جَنِينٌ فِي بَطْنِ الشَّهَوَاتِ وَالْغَيِّ وَالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، وَقَلْبٌ قَدْ وُلِدَ وَخَرَجَ إِلَى فَضَاءِ التَّوْحِيدِ وَالمَعْرِفَةِ وَتَخَلَّصَ مِنْ مَشِيمَةِ الطِّبَاعِ وَظُلُمَاتِ النَّفْسِ وَالْهَوَى، فقَرَّتْ عَيْنُهُ بِاللهِ، وَقَرَّتْ عُيُونٌ بِهِ وَقُلُوبٌ، وَأَنَسَتْ بِقُرْبِهِ الْأَرْوَاحُ، وَذَكَّرَتْ رُؤْيَتُهُ بِاللهِ، فَاطْمَأَنَّ بِاللهِ، وَسَكَنَ إِلَيْهِ، وَعَكَفَ بِهِمَّتِهِ عَلَيْهِ، وَسَافَرَتْ هِمَمُهُ وَعَزَائِمُهُ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، لَا يُقَرُّ بِشَيءٍ غَيْرَ اللهِ، وَلَا يَسْكُنُ إِلَى شَيءٍ سِوَاهُ، وَلَا يَطْمَئِنُّ بِغَيْرِهِ، يَجِدُ مِنْ كُلِّ شَيءٍ سِوَى اللهِ عِوَضًا، وَمَحَبَّتُهُ قُوَّتُهُ، لَا يَجِدُ مِنَ اللهِ عِوَضًا أَبَدًا، فَذِكْرُهُ حَيَاةُ قَلْبِهِ، وَرِضَاهُ غَايَةُ مَطْلَبِهِ، وَمَحَبَّتُهُ قُوتُهُ، وَمَعْرِفَتُهُ أَنِيسُهُ، عَدُوُّهُ مَنْ جَذَبَ قَلْبَهُ عَنِ اللهِ «وَإِنْ كَانَ الْقَرِيبَ المُصَافِيَ»، وَوَلِيُّهُ مَنْ رَدَّهُ إِلَى اللهِ وَجَمَعَ قَلْبَهُ عَلَيْهِ «وَإِنْ كَانَ الْبَعِيدَ المُنَاوِيَ».

فَهَذَانِ قَلْبَانِ مُتَبَايِنَانِ غَايَةَ التَّبَايُنِ، وَقَلْبٌ ثَالِثٌ فِي الْبَرْزَخِ يَنْتَظِرُ الْوِلَادَةَ صَبَاحًا وَمَسَاءً، قَدْ أَصْبَحَ عَلَى فَضَاءِ التَّجْرِيدِ، وَأَنَسَ مِنْ خِلَالِ الدِّيَارِ أَشِعَّةَ التَّوْحِيدِ، تَأْبَى غَلَبَاتُ الْحُبِّ وَالشَّوْقِ إِلَّا تَقَرُّبًا إِلَى مَنِ السَّعَادَةُ كُلُّهَا بِقُرْبِهِ، وَالْحَظُّ كُلُّ الْحَظِّ فِي طَاعَتِهِ وَحُبِّهِ، وَتَأْبَى غَلَبَاتُ الطِّبَاعِ إِلَّا جَذْبَهُ وَإِيقَافَهُ وَتَعْوِيقَهُ، فَهُوَ بَيْنَ الدَّاعِيَيْنِ تَارَةً وَتَارَةً، قَدْ قَطَعَ عَقَبَاتٍ وَآفَاتٍ، وَبَقَى عَلَيْهِ مَفَاوِزٌ وَفَلَوَاتٌ، وَالمَقْصُودُ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا المَقَامِ إِذَا تَحَقَّقَ بِهِ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا، وَسَلِمَ عَنْ نَظَرِ نَفْسِهِ إِلَى مَقَامِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِهِ وَوُقُوفِهِ عِنْدَهُ، فَهُوَ فَقِيرٌ حَقِيقيٌّ، لَيْسَ فِيهِ قَادِحٌ مِنَ الْقَوَادِحِ الَّتِي تَحُطُّهُ عَنْ دَرَجَةِ الْفَقْرِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَحْسُنُ إِعْمَالُ اللِّسَانِ فِي ذَمِّ الدُّنْيَا فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَوْضِعُ التَّزْهِيدِ فِيهَا لِلرَّاغِبِ، وَالثَّانِي: عِنْدَمَا يَرْجِعُ بِهِ دَاعِي الطَّبْعِ وَالنَّفْسِ إِلَى طَلَبِهَا وَلَا يَأْمَنُ إِجَابَةَ الدَّاعِي، فَيَسْتَحْضِرُ فِي نَفْسِهِ قِلَّةَ وَفَائِهَا وَكَثْرَةَ جَفَائِهَا وَخِسَّةَ شُرَكَائِهَا، فَإِنَّهُ إِنْ تَمَّ عَقْلُهُ وَحَضَرَ رُشْدُهُ زَهَدَ فِيهَا وَلَا بُدَّ.

وَقَوْلُهُ: «الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الرُّجُوعُ إِلَى السَّبْقِ بِمُطَالَعَةِ الْفَضْلِ، وَهُوَ يُورِثُ الْخَلَاصَ مِنْ رُؤْيَةِ الْأَعْمَالِ، وَيَقْطَعُ شُهُودَ الْأَحْوَالِ، وَيُمَحِّصُ مِنْ أَدْنَاسِ مُطَالَعَةِ المَقَامَاتِ» فَهَذِهِ الدَّرَجَةُ أَرْفَعُ مِنَ الْأُولَى وَأَعْلَى، وَالْأُولَى كَالْوَسِيلَةِ إِلَيْهَا؛ لَأَنَّ فِي الدَّرَجِةِ الْأُولَى يَتَخَلَّى بِفَقْرِهِ عَنْ أَنْ يَتَأَلَّهَ غَيْرَ مَوْلَاهُ الحَقِّ، وَأَنْ يُضَيِّعَ أَنْفَاسَهُ فِي غَيْرِ مَرْضَاتِهِ، وَأَنْ يُفَرِّقَ هُمُومَهُ فِي غَيْرِ مَحَابِّهِ، وَأَنْ يُؤْثِرَ عَلَيْهِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَيُوجِبُ لَهُ هَذَا الْخَلْقُ وَهَذِهِ المُعَامَلَةُ صَفَاءَ الْعُبُودِيَّةِ، وَعِمَارَةَ السِّرِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ وَخُلُوصَ الْوُدِّ، فَيُصْبِحُ وَيُمْسِي وَلَا هَمَّ لَهُ غَيْرُ رَبِّهِ، قَدْ قَطَعَ هَمُّهُ بِرَبِّهِ عَنْهُ جَمِيعَ الْهُمُومِ، وَعَطَّلَتْ إِرَادَتُهُ جَمِيعَ الْإِرَادَاتِ، وَنَسَخَتْ مَحَبَّتُهُ لَهُ مِنْ قَلْبِهِ كُلَّ مَحَبَّةٍ لِسِوَاهُ، كَمَا قِيلَ:
لَقَدْ كَانَ يُسْبِي الْقَلْبَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ
ثَمَانُونَ بَلْ تِسْعُونَ نَفْسًا وَأَرْجَحُ
يَهِيمُ بِهَذَا ثُمَّ يَأْلَفُ غَيْرَهُ
وَيَسْلُوهُمْ مِنْ فَوْرِهِ حِينَ يُصْبِحُ
وقَدْ كَانَ قَلْبِي ضَائِعًا قَبْلَ حُبِّكُمْ
فَكَانَ بِحُبِّ الخَلْقِ يلْهُو وَيَمرَحُ
فَلَمَّا دَعَا قَلْبِي هَوَاكَ أَجَابَهُ
فَلَسْتُ أَرَاهُ عَنْ خِبَائِكَ يَبْرَحُ
حَرمْتُ مُنَائِي مِنَكَ إِنْ كُنْتُ كَاذِبًا
وَإِنْ كُنْتُ فِي الدُّنْيَا بِغيرِكَ أَفرحُ
وَإِنْ كَانَ شَيءٌ فِي الوجُودِ سِوَاكمُ
يُقِرُّ بِه القَلْبُ الجَرِيحُ وَيَفرحُ


وَاللهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَينِ فِي جَوْفِهِ، فَبِقَدْرِ مَا يَدْخُلُ القَلْبَ مِنْ هَمٍّ وَإِرَادَةٍ وَحُبٍّ يَخْرُجُ مِنْهُ هَمٌّ وَإِرَادَةٌ وَحُبٌّ يُقَابِلُهُ، فَهُوَ إِنَاءٌ وَاحِدٌ وَالأَشْرِبَةُ مُتَعَدِدَةٌ، فَأَيُّ شَرابٍ مَلَأهُ لَمْ يَبقْ فِيهِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَمْتَلِئُ الإنَاءُ بِأَعْلَى الأشْرِبَةِ إِذَا صَادَفَهُ خَالِيًا، فَأَمَّا إِذَا صَادَفَهُ مُمْتَلِئًا مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يُسَاكِنْهُ حَتَى يُخْرِجَ مَا فِيهِ ثُمَّ يَسْكُنَ مَوْضِعَهُ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ:
أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الهَوَى
فَصَادَفَ قَلْبًا خَالِيًا فَتَمَكَّنَا



فَفَقْرُ صَاحِبِ هَذِه الدَّرَجَةِ تَفْرِيِغُهُ إِنَاءَهُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ غَيْرِ شَرَابِ المَحَبَّةِ وَالمَعْرِفَةِ، لأَنَّ كُلَّ شَرَابٍ فَمُسْكِرٌ وَلَا بُدَّ، «وَمَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيُله حَرَامٌ»[24]، وَأَيْنَ سُكْرُ الهَوَى وَالدُّنْيَا مِنْ سُكْرِ الخَمْرِ، وَكَيْفَ يُوضَعُ شَرَابُ التَّسْنِيمِ - الذِي هُوَ أَعْلَى أَشْرِبةِ المُحِبِّينَ - فِي إِنَاءٍ مَلآنَ بِخمرِ الدُّنْيَا وَالهَوَى، وَلاَ يَفِيقُ مِنْ سُكْرِهِ وَلاَ يَسْتَفِيقُ، وَلَو فَارَقَ هَذَا السُّكْرُ القَلْبَ لَطَارَ بِأَجْنِحَةِ الشَّوْقِ إِلَى اللهِ وَالدَّارِ الآخِرَةِ، وَلكِنْ رَضِي المِسْكِينُ بِالدُّونِ، وَبَاعَ حَظَّهُ مِنْ قُرْبِ اللهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَكَرَامَتِهِ بِأَخَسِّ الثَّمَنِ صَفْقَةَ خَاسِرٍ مَغْبُونٍ، فَسَيَعْلَمُ أَيَّ حَظٍّ أَضَاعَ إِذَا فَازَ المُحِبُّونِ، وَخَسِرَ المُبْطِلُونَ.

حَقِيقَةُ الافتِقَارِ إِلَى اللهِ:
وَإِذَا كَانَ التَّلَوُّثُ بِالْأَعْراضِ قَيْدًا يُقَيِّدُ القُلَوبَ عَنْ سَفَرِهَا إِلَى بَلَدِ حَيَاتِهَا وَنَعِيمِهَا الذِي لَا سَكَنَ لَهَا غَيْرُهُ، وَلَا رَاحَةَ لَهَا إِلَّا فِيهِ، وَلَا سُرُورَ لَهَا إِلَّا فِي مَنَازِلِهِ، وَلَا أَمْنَ لَهَا إِلَّا بَيْنَ أَهْلِهِ، فَكَذَلِكَ الذِي بَاشَرَ قَلْبُهُ رُوحَ التَّألُّهِ، وَذَاقَ طَعْمَ المَحَبَّةِ، وَآنَسَ نَارَ المَعْرِفَةِ، لَهُ أَغْرَاضٌ دَقِيقَةٌ حَالِيَّةٌ تُقَيِّدُ قَلْبَهُ عَنْ مُكَافَحَةِ صَرِيحِ الحَقِّ، وَصِحَّةِ الاضْطِرَارِ إِلَيْهِ، وَالفَنَاءِ التَّامِّ بِهِ، وَالبَقَاءِ الدَّائِمِ بِنُورِهِ الذِي هُوَ المَطْلُوبُ مِنَ السَيْرِ وَالسُلُوكِ، وَهُوَ الغَايَةُ التِي شَمَّرَ إِلَيْهَا السَّالِكُونَ، وَالعِلْمُ الذِي أَمَّهُ العَابِدُون وَدَنْدَنَ حَوْلَهُ العَارِفُونَ، فَجَمِيعُ مَا يُحْجِبُ عَنْهُ أَوْ يُقَيِّدُ القَلْبَ نَظَرَهُ وَهَمَّهُ يَكُونُ حِجَابًا يَحْجُبُ الوَاصِلَ وَيِوُقِفُ السَّالِكَ وَيُنَكِّسُ الطَالِبَ، فَالزُّهْدُ فِيهِ عَلَى أَصْحَابِ الهِمَمِ العَلِيَّةِ مُتَعَيِّنٌ تُعَيُّنَ الوَاجِبِ الذِي لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهُوَ كَزُهْدِ السَّالِكَ إِلَى الحَجِّ فِي الظُّلَلِ وَالمِيَاهِ التِي يَمُرُّ بِهَا فِي المَنَازِلِ، فَالأوَّلُ مُقَيَّدٌ عَنِ الحَقَائقِ بِرُؤْيَةِ الأَعْرَاضِ، وَالثَّانِي مُقَيَّدٌ عَنِ النِّهَايَاتِ بِرُؤْيَةِ الأَحْوَالِ، فَتَقَيَّدَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ الغَايِةِ المَطْلُوبَةِ، وَتَرتَّبَ عَلَى هَذا القَيْدِ عَدَمُ النُّفُوذِ، وَذَلِكَ مُؤَخَّرٌ مُخَلَّفٌ.

وَإِذَا عَرَفَ العَبْدُ هَذَا وَانْكَشَفَ لَهُ عِلْمُهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الزُّهْدُ فِي الأَحْوَالِ وَالفَقْرِ مِنْهَا، كَمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الزُّهْدُ فِي المَالِ وَالشَّرَفِ وَخُلُوُّ قَلْبِهِ مِنْهُمَا، وَلَمَا كَانَ مُوجِبُ الدَّرَجَةِ الأُولَى مِنَ الفَقْرِ الرَّجُوعَ إِلَى الآخِرَةِ، فَأَوْجَبَ الاسْتِغْرَاقَ فِي هَمِّ الآخِرَةِ نَفَضَ اليَدَيْنِ مِنَ الدُّنْيَا ضَبْطًا أَوْ طَلَبًا، وَإِسْكَاتَ اللَّسَانِ عَنْهَا مَدْحًا أَوْ ذَمًّا، وَكَذَلِكَ كَانَ مُوجِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى فَضْلِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَمُطَالَعَةِ سَبْقَةِ الأَسْبَابِ وَالوَسَائِطِ، فَبِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ وُجِدَتْ مِنْه الأَقَوَالُ الشَّرِيفَةُ، وَالمَقَامَاتُ العَلِيَّةُ، وَبِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَصَلُوا إِلَى رِضَاهُ وَرَحْمَتِهِ، وَقُرْبِهِ وَكَرَامَتِهِ وَمُوالاتِهِ، وَكَانَ سُبْحَانَهُ هُوَ الأَوَّلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا أَنَّهُ الأوَّلُ فِي كُلِّ شَيءٍ، وَكَانَ هُوَ الآخِرُ فِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ الآخِرُ فِي كُلِّ شَيءٍ.

فَمَنْ عَبَدَهُ بِاسْمِهِ الأوَّلِ وَالآخِرِ حَصَلَتْ لَهُ حَقِيقَةُ هَذَا الفقرِ، فَإِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ عُبُودِيَّتُهُ بِاسْمِهِ الظَّاهِرِ وَالبَاطِنِ فَهَذَا هُوَ العَارِفُ الجَامِعُ لِمُتَفَرِّقَاتِ التَّعَبُّدِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَعُبُودِيَّتُهُ بِاسْمِهِ الأوَّلِ تَقْتَضِي التَّجَرُّدَ مِنْ مُطَالَعَةِ الأَسْبَابِ وَالوُقُوفِ أَوِ الالتِفَاتِ إِلَيْهَا، وَتَجْرِيدَ النَّظَرِ إِلَى مُجَرَّدِ سَبْقِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ المُبْتَدِئُ بِالإحْسَانِ مِنْ غَيْرِ وَسِيلَةٍ مِنَ العَبْدِ؛ إِذْ لَا وَسِيلةَ لَهُ فِي العَدَمِ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَأَيُّ وَسِيلَةٍ كَانَتْ هُنَاكَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ، وَقَدْ أَتَى عَلَيْهِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، فَمِنْهُ سُبْحَانَهُ الإعْدَادُ، وَمِنْهُ الإمْدَادُ، وَفَضْلُهُ سَابِقٌ عَلَى الوَسَائِلِ، وَالوسَائِلُ مِنْ مُجَرَّدِ فَضْلِهِ وَجُودِهِ لَمْ تَكُنْ بِوَسَائِلَ أَخْرَى، فَمَنْ نَزَّلَ اسْمَهُ الأَوَّلَ عَلَى هَذَا المَعْنَى أَوْجَبَ لَهُ فَقْرًا خَاصًّا.

وَعُبُودِيَّتُهُ بِاسْمِهِ الآخِرِ تَقْتَضِي أَيْضًا عَدَمَ رُكُونِهِ وَوُثُوقِهِ بِالأسْبَابِ وَالوُقُوفِ مَعَهَا؛ فَإِنَّهَا تَنْعَدِمُ لَا مَحَالةَ وَتَنْقَضِي بِالآخِرِيَّةِ، وَيبْقَى الدَّائِمُ البَّاقِي بَعْدَهَا، فَالتَّعَلُّقُ بِهَا تَعَلُّقٌ بِمَا يُعْدَمُ وَيَنْقَضِي، وَالتَّعَلُّقُ بِالآخِرِ سُبْحَانَهُ تَعَلُّقٌ بِالحَيِّ الذِي لَا يَمُوتُ وَلَا يَزُولُ، فَالمُتَعَلِّقُ بِهِ حَقِيقٌ أَنْ لَا يَزُولَ وَلَا يَنْقَطِعَ، بِخِلَافِ التَّعَلُّقِ بِغَيرِهِ مِمَّا لَهُ آخِرٌ يَفْنَى بِهِ، كَذَا نَظَرَ العَارِفُ إِلَيْهِ بِسَبْقِ الأَوَّلِيَّةِ حَيْثُ كَانَ قَبْلَ الأَسْبَابِ كُلِّهَا، وَكَذَلِكَ نَظَرُهُ إِلَيهِ بِبَقَاءِ الآخِرِيَّةِ حَيْثُ يَبْقَى بَعْدَ الأسْبَابِ كُلِّهَا، فَكَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيءٌ غَيْرُهُ، وَكُلُّ شَيءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ، فَتَأمَّلْ عُبُودِيَّةَ هَذَيْنِ الاسْمَيْنِ وَمَا يُوجِبَانِهِ مِنْ صِحَّةِ الاضْطِرَارِ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ وَدَوَامِ الفَقْرِ إِلَيْهِ دُونَ كُلِّ شَيءٍ سِوَاهُ، وَأَنَّ الأَمْرَ ابْتَدَأَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ، فَهُوَ المُبْتَدِئُ بِالفَضْلِ حَيْثُ لَا سَبَبَ وَلَا وَسِيلَةَ، وَإِلَيهِ تَنْتَهِي الأَسْبَابُ وَالوَسَائِلُ، فَهُوَ أَوَّلُ كُلِّ شَيءٍ وَآخِرُهُ.

وَكَمَا أَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيءٍ وَفَاعِلُهُ وَخَالِقُهُ وَبَارِئُهُ، فَهُوَ إِلَههُ وَغَايَتُهُ التِي لَا صَلَاح لَهُ وَلَا فَلَاحَ وَلَا كَمَالَ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ وَحْدُهُ غَايَتَهُ وَنِهَايتَهُ وَمَقْصُودَهُ، فَهُوَ الأوَّلُ الذِي ابْتَدَأَتْ مِنْه المَخْلُوقَاتُ، وَالآخِرُ الذِي انْتَهَتْ إِلَيْهِ عُبُودِيَّاتُهَا وَإِرَادَاتُهَا وَمَحَبَّتُهَا، فَلَيْسَ وَرَاءَ اللهِ شَيءٌ يُقْصَدُ وَيُعْبَدُ وَيُتَأَلَّهُ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيءٌ يَخْلَقُ وَيَبْرَأُ، فَكَمَا كَانَ وَاحِدًا فِي إِيجَادِكَ فَاجْعَلْهُ وَاحِدًا فِي تَأَلُّهِكَ إِلَيْهِ لِتَصِحَّ عُبْودِيَّتُكَ، وَكَمَا ابْتَدَأَ وُجُودَكَ وَخَلْقَكَ مِنْهُ فَاجْعَلْهُ نِهَايَةَ حُبِّكَ وَإِرَادَتِكَ وَتَأَلُّهِكَ إِلَيْهِ لِتَصِحَّ لَكَ عُبُودِيَّتُهُ بِاسْمِهِ الأوَّلِ وَالآخِرِ، وَأَكْثَرُ الخَلْقِ تَعَبَّدُوا لَهُ بِاسْمِهِ الأوَّلِ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي التَّعَبُّدِ لَهُ بِاسْمِهِ الآخِرِ، فَهَذِهِ عُبُودِيَّةُ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ، فَهُوَ رَبُّ العَالَمِينَ وَإِلَهُ المُرْسَلِينَ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ.

وَأَمَّا عُبُودِيَّتُهُ بِاسْمِهِ الظَّاهِرِ فَكَمَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ «وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيءٌ»[25].

فَإِذَا تَحَقَّقَ العَبْدُ عُلُوَّهُ المُطْلَقَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ بِذَاتِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَهُ شَيءٌ البَتَّةَ، وَأَنَّهُ قَاهِرٌ فَوْقَ عِبَادِهِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10]، صَارَ لِقَلْبِهِ أَمَمًا يَقْصِدُهُ وَرَبًّا يَعْبُدُه وَإِلَهًا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ، بِخَلَافِ مَنْ لَا يَدْرِى أَيْنَ رَبُّهُ؛ فَإِنَّهُ ضَائِعٌ مُشَتَّتُ القَلبِ لَيْسَ لِقَلبِهِ قِبْلةٌ يَتَوَجَّهُ نَحْوَهَا وَلَا مَعْبُودٌ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ قَصْدُهُ.

وَصَاحِبُ هَذِهِ الحَالِ إِذَا سَلَكَ وَتَأَلَّهَ وَتَعَبَّدَ طَلَبَ قَلْبُهُ إِلَهًا يَسْكُنُ إِلَيْهِ وَيَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ، وَقَدِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ العَرْشِ شَيءٌ إِلا العَدَمَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فَوقَ العَالَمِ إلَهٌ يُعْبَدُ وَيُصَلَّى لَهُ وَيُسْجَدُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى العَرشِ مَنْ يَصْعَدُ إِلَيْهِ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَلَا يُرْفَعُ إِلَيْهِ العَمَلُ الصَّالِحُ، جَالَ قَلْبُهُ فِي الوُجُودِ جَمِيعِهِ فَوقَعَ فِي الاتِّحَادِ وَلَا بُدَّ، وَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِالوُجُودِ المُطْلَقِ السَّارِي فِي المُعَيَّنَاتِ، فَاتَّخَذَ إِلَهَهُ مِنْ دُونِ إِلهِ الحَقِّ، وَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَى عَيْنِ الحَقِيقَةِ! وَإِنَّمَا تَأَلَّهَ وَتَعَبَّدَ لِمَخْلُوقٍ مِثْلِهِ، وَلِخَيَالٍ نَحَتَهُ بِفِكْرِهِ وَاتَّخَذَهُ إِلَهًا مِنْ دُونَ اللهِ سُبْحَانَهُ.

وَإِلهُ الرُّسُلِ وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس: 3، 4].

وَقَالَ: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [السجدة: 4 - 9].


فَقَدْ تَعَرَّفَ سُبْحَانَهُ إِلَى عِبَادِهِ بِكَلَامِهِ مَعْرِفَةً لَا يَجْحَدُهَا إِلا مَنْ أَنْكَرَهُ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُقِرٌّ بِهِ، وَالمَقْصُودُ أَنَّ التَّعَبُّدَ بِاسْمِهِ الظَّاهِرِ يَجْمَعُ القَلْبَ عَلَى المَعْبُودِ، وَيَجْعَلُ لَهُ رَبًّا يَقْصِدُهُ وَصَمَدًا يَصْمُدُ إِلَيْهِ فِي حَوَائِجِهِ وَمَلْجَأً يَلْجَأُ إِلَيْهِ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ وَعَرَفَ رَبَّهُ بِاسْمِهِ الظَّاهِرِ اسْتَقَامَتْ لَهُ عُبُودِيَّتُهُ، وَصَارَ لَهُ مَعْقِلٌ وَمَوْئِلٌ يَلْجَأُ إلَيْهِ وَيَهْرَبُ إِلَيْهِ وَيَفِرُّ فِي كُلِّ وَقْتٍ إِلَيْهِ، وَأَمَّا تَعَبُّدُهُ بِاسْمِهِ البَاطِنِ فَأمْرٌ يَضِيقُ نِطَاقُ التَّعْبِيرِ عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَيَكِلُّ اللَّسَانُ عَنْ وَصْفِهِ، وَتُصْطَلَمُ الإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَتَجْفُوِ العِبَارَةُ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَعْرِفَةً بَرِيئَةً مِنْ شَوَائِبِ التَّعْطِيلِ، مُخَلَّصَةً مِنْ فَرْثِ التَّشْبِيهِ، مُنَزَّهَةً عَنْ رِجْسِ الحُلُولِ وَالاتِّحَادِ، وَعِبَارَةً مُؤَدِّيَةً لِلْمَعْنَى كَاشِفَةً عَنْهُ، وَذَوْقًا صَحِيحًا سَلِيمًا مِنْ أَذْوَاقِ أَهْلِ الانْحِرَافِ.

فَمَنْ رُزِقَ هَذَا فَهِمَ مَعْنَى اسْمِهِ البَاطِنِ وَصَحَّ لَهُ التَّعَبُّدُ بِهِ، وَسُبْحَانَ اللهِ! كَمْ زَلَّتْ فِي هَذَا المُقَامِ أَقْدَامٌ، وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ الزِّنْدِيقُ بِلِسَانِ الصِّدِّيقِ، وَاشْتَبَهَ فِيهِ إِخْوَانُ النَّصَارَى بِالحُنَفَاءِ المُخْلِصِينَ؛ لِنُبُوِّ الأفْهَامِ عَنْهُ، وَعِزَّةِ تَخَلُّصِ الحَقِّ مِنَ البَاطِلِ فِيهِ، وَالتِبَاسِ مَا فِي الذِّهْنِ بِمَا فِي الخَارِجِ إِلَّا عَلَى مَنْ رَزَقَهُ اللهُ بَصِيرَةً فِي الحَقِّ، وَنُورًا يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الهُدَى وَالضَّلالِ، وَفُرْقَانًا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَرُزقَ مَعَ ذَلِكَ اطِّلَاعًا عَلَى أَسْبَابِ الخَطأِ وَتَفَرُّقِ الطُّرُقِ وَمَثَارِ الغَلَطِ، وَكَانَ لَهُ بَصِيرَةٌ فِي الحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيِه مَنْ يَشَاءُ، وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظَيمِ.

وَبابُ هَذِهِ المَعْرِفَةِ وَالتَّعَبُّدِ هُوَ مَعْرِفَةُ إِحَاطَةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالعَالَمِ وَعَظَمَتِهِ، وَأَنَّ العَوَالِمَ كُلَّهَا فِي قَبْضَتِهِ، وَأَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالأرْضِينَ السَّبعَ فِي يَدِهِ كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ العَبْدِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ [الإسراء: 60].

وَقَالَ: ﴿ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج: 20].

وَلِهَذَا يَقْرِنُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ هَذَينِ الاسْمَينِ الدَّالَّينِ عَلَى هَذَيْنِ المَعْنَيَيْنِ: اسْمُ العُلُوِّ الدَّالُّ عَلَى أَنَّهَ الظَّاهِرُ وَأَنَّهُ لَا شَيءَ فَوْقَهُ، وَاسْمُ العَظَمَةِ الدَّالُّ عَلَى الإِحَاطَةِ وَأَنَّهُ لَا شَيءَ دُونَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة: 255]، [الشورى: 4].

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: 23].

وَقَالَ: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[البقرة: 115].

وَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَمَا أَنَّهُ العَالِي عَلَى خَلْقِهِ بِذَاتِهِ فَلَيْسَ فَوْقَهُ شَيءٌ، فَهُوَ البَاطِنُ بِذَاتِهِ فَلَيْسَ دُونَهُ شَيءٌ، بَلْ ظَهَرَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ فَكَانَ فَوْقَهُ، وَبَطَنَ فَكَانَ أَقْرَبُ إِلَى كُلِّ شَيءٍ مِنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ مُحِيطٌ بِهِ حَيْثُ لَا يُحِيطُ الشَّيءُ بِنَفْسِهِ، وُكُلُّ شَيءٍ فِي قَبْضَتِهِ وَلَيْسَ شَيءٌ فِي قَبْضَةِ نَفْسِهِ، فَهَذَا أَقَربُ لإِحَاطَةِ العَامَّةِ.

وَأَمَّا القُرْبُ المَذْكُورُ فِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَقُرْبٌ خَاصٌّ مِنْ عَابِدِيهِ وَسَائِلِيهِ وَدَاعِيهِ، وَهُوَ مِنْ ثَمَرةِ التَّعَبُّدِ بِاسْمِهِ البَاطِنِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186]، فَهَذَا قُرْبَةٌ مِنْ دَاعِيهِ.

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56]، فَذَكَرَ الخَبَرَ وَهُوَ قَرِيبٌ عَنْ لَفْظِ الرَّحْمَةِ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ إِيِذَانًا بِقُرْبِهِ تَعَالَى مِنَ المُحْسِنِينَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللهَ بِرَحْمَتِهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنينَ.

وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبَّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ»[26].

و «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ»[27]، فَهَذَا قُرْبٌ خَاصٌّ غَيْرُ قُرْبِ الإحَاطَةِ وَقُرْبِ البُطُونِ.

وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُم بِالتَّكْبِيرِ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبِعُوا على أَنْفُسِكُمْ؛ فإِنَّكمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّ الذِي تَدْعُونَهُ سَميعٌ قَرِيبٌ، أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلتَه»[28]، فَهَذَا قُرْبُهُ مِنْ دَاعِيِه وَذَاكِرِه، يَعْنِي: فَأَيُّ حَاجَةٍ بِكُم إِلَى رَفْعِ الأَصْوَاتِ وَهُوَ لِقُرْبِهِ يَسْمَعُهَا وإِنْ خُفِضَتْ، كَمَا يَسْمَعُهَا إِذَا رُفِعَتْ، فَإِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، وَهَذَا القُرْبُ هُوَ مِنْ لَوَازِمِ المَحَبَّةِ، فَكُلَّمَا كَانَ الحُبُّ أَعْظَمَ كَانَ القُرْبُ أَكْثَرَ، وَقَدِ اسْتَوْلَتْ مَحَبَّةُ المَحْبُوبِ عَلَى قَلبِ مُحِبِّهِ بَحيْثُ يَفْنَى بِهَا عَنْ غَيْرِهَا، وَيَغْلُبُ مَحْبُوبُهُ عَلَى قَلْبِهِ حَتَى كَأَنَّهُ يَرَاهُ وَيُشَاهِدُهُ.

فَالتَّعَبُّدُ بِهَذَا الاسْمِ هُوَ التَّعَبُّدُ بِخَالِصِ المَحَبَّةِ وَصَفْوِ الوِدَادِ، وَأَنْ يَكُونَ الإِلَهُ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ شَيءٍ وَأَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، مَعَ كَوْنِهِ ظَاهِرًا لَيْسَ فَوْقَهُ شَيءٌ، وَمَنْ كَثَّفَ ذِهنَهُ وَغَلَّظَ طَبْعَهُ عَنْ فَهْمِ هَذَا فَلْيَضْرِبْ عَنْهُ صَفْحًا إَلَى مَا هُوَ أَوْلى بِهِ، فَقَدْ قِيلَ:
إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ
وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ



فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَوْقٌ مِنْ قُرْبِ المَحَبَّةِ، وَمَعْرِفَة بِقُرْبِ المَحْبُوبِ مِنْ مُحِبهِ غَايَةَ القُرْبِ وإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا غَايَةُ المَسَافَةِ، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ المَحَبَّةُ مِنْ الطَرَفَيْنِ، وَهِيَ مَحَبَّةٌ بَرِيئَةٌ مِنَ العِلَلِ وَالشَّوَائِبِ وَالأَعْرَاضِ القَادِحَةِ فِيهَا؛ فَإِنَّ المُحِبَّ كَثِيرًا مَا يَسْتَوْلِي مَحْبُوبُهُ عَلَى قَلْبِهِ وَذِكْرِهِ وَيَفْنَى عَنْ غَيْرِهِ وَيَرِقُّ قَلْبُهُ وَتَتَجَرَّدُ نَفْسُهُ، فَيُشَاهِدُ مَحْبُوبَهُ كَالحَاضِرِ مَعَهَ القَرِيبِ إِلَيْهِ وَبَيْنَهُمَا مِنَ البُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا، وَفِي هَذِهِ الحَالِ يَكُونُ فِي قَلْبِهِ وُجُودُهُ العِلْمِيُّ، وَفِي لِسَانِهِ وُجُودُه اللَّفْظِيُّ، فَيَسْتَوْلِي هَذَا الشُّهُودُ عَلَيْهِ وَيَغِيبُ بِهِ، فَيَظُنُّ أَنَّ فِي عَيْنِهِ وُجُودَهُ الخَارِجِيَّ لِغَلَبَةِ حُكْمِ القَلْبِ وَالرُّوحِ، كَمَا قِيلَ:
خَيَالُكَ فِي عَيْنِي وَذِكْرُكَ فِي فَمِي
وَمَثْوَاكَ فِي قَلْبِي فَأَيْنَ تَغِيبُ




هَذَا وَيَكُونُ ذَلِكَ المَحْبُوبُ بِعَيْنِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ البُعْدِ وَإِنْ قَرُبَتْ الأَبْدَانُ وَتَلَاصَقَتِ الدِّيَارُ، وَالمَقْصُودُ أَنَّ المِثَالَ العِلْمِيَّ غَيْرُ الحَقِيقَةِ الخَارِجِيَّةِ وَإِنْ كَانَ مُطَابِقًا لَهَا، لَكِنَّ المِثَالَ العِلْمِيَّ مَحَلُّهُ القَلْبُ وَالحَقِيقَةُ الخَارِجِيَّةُ مَحِلُّهَا الخَارِجُ، فَمَعْرِفَةُ هَذِهِ الأسْمَاءِ الأَرْبَعَةِ وَهِيَ: الأَوَّلُ، وَالآخِرُ، وَالظَّاهِرُ، وَالبَاطِنُ هِيَ أَرْكَانُ العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ؛ فَحَقِيقٌ بِالعَبْدِ أَنْ يَبْلُغَ فِي مَعْرِفَتَها إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ قُوَاهُ وَفَهْمُهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لَكَ أَنْتَ أَوَّلًا وَآخِرًا وَظَاهِرًا وَبَاطِنًا، بَلْ كُلُّ شَيءٍ فَلَهُ أَوَّلٌ وَآخِرٌ وَظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، حَتَّى الخَطَرَةِ وَاللَّحْظَةِ وَالنَّفَسِ وَأَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَر، فَأوَّلِيَّةُ اللهِ عز وجل سَابِقَةٌ عَلَى أَوَّليَّةِ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَآخِرِيَّتُهُ ثَابِتَةٌ بَعْدَ آخِرِيَّةِ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَأَوَّلِيَّتُهُ سَبْقُهُ لِكُلِّ شَيءٍ، وَآخِرِيتُهُ بَقَاؤُهُ بَعْدَ كُلِّ شَيءٍ، وَظَاهِرِيَّتُهُ - سُبْحَانَهُ - فَوْقِيَّتُهُ وَعُلُوُّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، وَمَعْنَى الظُّهُورِ يَقْتَضِي العُلُوَّ، وَظَاهِرُ الشَيءِ هُوَ مَا عَلَا مِنْهُ وَأَحَاطَ بِبَاطِنِهِ، وَبُطُونُهُ سُبْحَانَهُ إِحَاطَتُهُ بِكُلِّ شَيءٍ بِحَيْثُ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا قُرْبٌ غَيْرُ قُرْبِ المُحِبِّ مِنْ حَبِيبِهِ، هَذَا لَونٌ وَهَذَا لَونٌ، فَمَدَارُ هَذِهِ الأسْمَاءِ الأرْبَعَةِ عَلَى الإحَاطَةِ، وَهِيَ إِحَاطَتَانِ: زَمَانِيَّةٌ وَمَكَانِيَّةٌ، فَإِحَاطَةُ أَوَّلِيَّتِهِ وَآخِرِيَّتِهِ بِالقَبْلِ وَالبَعْدِ، فَكُلُّ سَابِقٍ انْتَهَى إِلَى أَوَّلِيَّتِهِ وَكُلُّ آخِرٍ انْتَهَى إِلَى آخِرِيَّتِهِ، فَأَحَاطَتَ أَوَّلِيَّتُهُ وَآخِرِيَّتُهُ بِالأوَائِلِ وَالأوَاخِرِ، وَأَحَاطَتْ ظَاهِريَّتُهُ وَبَاطِنِيَّتُهُ بِكُلِّ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ، فَمَا مِنْ ظَاهِرٍ إِلَّا وَاللهُ فَوْقَهُ، وَمَا مِنْ بَاطِنٍ إِلَّا وَاللهُ دُوَنَهُ، وَمَا مِنْ أَوَّلٍ إِلَّا وَاللهُ قَبْلَهُ، وَمَا مِنْ آخِرٍ إَلَّا وَاللهُ بَعْدَهُ: فَالأوَّلُ قِدَمُهُ، وَالآخِرُ دَوَامُهُ وَبَقَاؤُهُ، وَالظَّاهِرُ عُلُوُّهُ وَعَظَمَتُهُ، وَالبَاطِنُ قُرْبُهُ وَدُنُوُّهُ، فَسَبَقَ كُلَّ شَيءٍ بِأَوَّلِيَّتِهِ، وَبَقَى بَعْدَ كُلِّ شَيءٍ بِآخِرِيَّتِهِ، وَعلَا عَلَى كُلِّ شَيءٍ بِظُهُورِهِ، وَدَنَا مِنْ كُلِّ شَيءٍ بِبُطُونِهِ، فَلَا تُوَارِي مِنْهُ سَمَاءً وَلَا أَرْضٌ أَرْضًا، وَلَا يَحْجُبُ عَنْه ظَاهِرٌ بَاطِنًا، بَلِ البَاطِنُ لَهُ ظَاهِرٌ، وَالغَيْبُ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، وَالبَعِيدُ مِنْه قَرِيبٌ، وَالسِّرُّ عِنْدَهُ عَلَانَيَةٌ، فَهَذِهِ الأسْمَاءُ الأرْبَعَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانِ التَّوْحِيدِ، فَهُوَ الأوَّلُ فِي آخِرِيَّتِهِ وَالآخِرُ فِي أَوَّليَّتِهِ، وَالظَاهِرُ فِي بُطُونِهِ وَالبَاطِنُ فِي ظُهُورِهِ، لَمْ يَزَلْ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.36 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 45.73 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.35%)]