
06-11-2023, 04:46 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,313
الدولة :
|
|
التحذير من النفاق
التحذير من النفاق
منال محمد أبو العزائم
 إن النفاق من أخطر الصفات الذميمة التي قام الإسلام بالتحذير منها، وتحدث الله عنها في آيات كثيرة. وجاء ذكر المنافقين كثيرا في سورة البقرة والنساء والتوبة وسورة المنافقين، وغيرها. وذلك لما يترتب عليها من ضرر دنيوي وآخروي. حيث أن النفاق يؤدي إلى الكفر إن خامر عقيدة الإنسان وإيمانه. ومن المؤسف أن نرى وجود هذه الصفة في بعض المسلمين اليوم بدرجات متفاوتة، لاسيما نفاق الأعمال. وذلك لانتشار الجهل بالدين وضعف العقيدة وتضييع الأوقات في ملاهي الدنيا والبعد عن القرآن الكريم والعلم الشرعي. وربما بعضهم لا ينتبه لوجود هذه الصفة فيه، ويظن أنه على حق، بينما يكون ما هو فيه إستدراج له من الله تعالى لنفاقه ومعصيته. قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) [النساء: 142].
وبيَّن صلى الله عليه وسلم أن كثرة النعم للعصاة قد تكون إستدراج من الله تعالى، حيث قال: (إذا رأيتَ اللهَ تعالى يُعطي العبدَ من الدنيا ما يُحبُّ، وهو مقيمٌ على معاصِيه؛ فإنَّما ذلك منه إستدراجٌ) [انظر: صحيح الجامع].
ولذا لا يأمن مكر الله إلا القوم الكافرون. فعلى المرء الإحتراس ومراجعة قلبه وعمله من حين إلى آخر. ثم التوبة والاستغفار، والإستعاذة من النفاق. وذلك لأن النفاق قد يكون خفي ودقيق ولا يتبين إلا لمن فتح الله قلوبهم لرؤية الحق، وتأهب ليوم الرحيل. وليعلم المسلم أن كثرة المعاصي قد تؤدي إلى النفاق. وكذلك الأمن من مكر الله والجهل وغيرها من المنكرات. قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [الجاثية: 23].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من النفاق في دعائه. فقد روى أبو هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الشقاق، والنفاق، وسوء الأخلاق)[*]. فإن تعوذ منه أشرف الخلق وأتقاهم كان من باب أولى بنا خشية النفاق والإستعاذة منه والبعد عن أسبابه. لاسيما مع إنتشار الفتن وكثرة المغريات.
أنواع النفاق
لقد ذكر العلماء نوعين متباينين من النفاق من حيث الشدة والعقاب الأخروي. وهما:
نفاق الاعتقاد:
 النفاق العقدي هو أن يظهر المرء الإيمان ويبطن الكفر. وهو الذي يخلد صاحبه في النار وكثر ذكره في القرآن الكريم. وهو أخطر أنواع النفاق، وأصحابه هم أخطر أنواع أعداء الإسلام، لأنهم يكيدون للمسلمين في الخفاء ويساعدون الكفار عليهم. وإظهارهم الود للمسلمين وتملقهم يجعل المسلمين لا ينتبهون لخطرهم ليحترسوا منهم. وقد يستطيع هؤلاء المنافقين الحصول على أسرار وخطط المسلمين في الحرب والسلم، فيفشوا بها للأعداء مما يشكل خطر كبير على المسلمين. ولذا توعدهم الله بالدرك الأسفل من النار. قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا)[1].
ومن أمثلة هؤلاء عبد الله بن أبي سلول وهو من قادة الخزرج في المدينة، وكان يطمع في أن يتولى الحكم قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وظهور الإسلام فيها. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لما مات عبد الله بن أبي ابن سلول، دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه، فقلت: يا رسول الله، أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ أعدد عليه قوله، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أخر عني يا عمر، فلما أكثرت عليه قال: إني خيرت فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرا، حتى نزلت الآيتان من براءة: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا}[2] إلى قوله {وهم فاسقون}[3] قال: فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، والله ورسوله أعلم)[4].
فيبين هذا أن المنافقين مرفوضين وفي وضع خطر إن ماتوا على النفاق دون توبة. بدليل نهي الله عن الصلاة عليهم. ووعدهم بدخول النار. وذلك لأن النفاق قد يكون أشد من الكفر أحياناً. فالكافر ربما يكون جاهلاً، أو مسالماًـ أو فقط لا يعبأ، بينما المنافق يعلم الحق وينفر منه، ويدس نفسه وسط المسلمين ويكيد لهم ليأذيهم. فهو خبيث النفس وأسود القلب. لا يحترم الله ولا يقدر له قدره. ولذا توعدهم الله بالدرك الأسفل من النار. قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا)[5].
نفاق الأعمال والرياء:
ويعني أن المرء يقصد بعمله الناس وينافي الاخلاص لله تعالى في النية. ومن أمثلته من يتصدق أو يصلي ليرضى عنه الناس. وهو حرام شرعاً وذنب كبير يجب التوبة منه. كما أنه يبطل الأعمال الصالحة ويُذهب أجرها. قال تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ)[6].
وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)[7].
وقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أخوَفَ ما أخافُ عليكُمُ الشِّركُ الأصغرُ: الرِّياءُ، يقولُ اللهُ يومَ القيامةِ إذا جَزَى النَّاسَ بأعمالِهم: اذهَبوا إلى الذينَ كنتم تُراؤونَ في الدُّنيا، فانظُروا هل تَجِدونَ عِندَهم جزاءٍ)[8].
الفرق بين النفاق والرياء:
الفرق هو أن النفاق كفر ويخامر العقيدة ويخلد صاحبه في النار. فقلب المنافق يكذب بالله وبوعده. بينما الرياء ليس بكفر ولا يخامر العقيدة ولا يخلد صاحبه في النار كنفاق الإعتقاد، ولكنه مرض قلبي يمكن معالجته. وقيل إن الفرق بين النفاق والرياء “أن المنافق يظهر غير ما يسر وذو الرياء يبدي للناس خلاف ما يضمر”[9].
وقيل إن “الرياء مشتق من الرؤية وهو أن يعمل العمل ليراه الناس، وأما النفاق فهو فعل المنافق، وهو في الشرع إظهار الإيمان وإبطان الكفر، فكل منافق مراء يري الناس أنه مؤمن وهو ليس بذلك، وليس كل مراء منافقا يبطن الكفر ويظهر الإسلام”[10].
النفاق الاجتماعي:
وهناك نوع أخر منتشر ومتفرع من الرياء وهو النفاق الاجتماعي. ومنه أن تجد أناس يقدمون رضى الناس وقبولهم على رضى الله، وعلى ذلك يبنون تصرفاتهم لمداراة البشر. وهو وإن كان أقل خطرا من نفاق الإعتقاد ولا يخلد صاحبه في النار، إلا أنه يدخل في الشرك الأصغر ويجب التوبة منه حتى لا يوقع صاحبه في المعاصي وارتكاب المحرمات لأجل الناس. كما أنه قد يؤدي إلى نفاق الإعتقاد إذا سيطر على الإنسان وعقيدته. ومن أمثلة ذلك أن تجد فتاة لا تلبس الحجاب حتى لا تخالف صديقاتها، ومنه من يكذب أمام أهل خطيبته ويوهمهم أنه غني ليقبلوا به، ومن يشرب الخمر عند ملاقاة ذوي المراتب العالية في المجتمع من غير المسلمين، ومن يضيع الصلاة لخجله من أن يصلى أمام غير المسلمين، ومن يصافح النساء لئلا يحرجهن، ومن تذهب لحفل زواج بنت جارتها ويكون به ما به من معاصي كالموسيقى والاختلاط ونحوه، فقط حتى لا تغضب منها، وغيرها من الأمثلة.
أسباب النفاق ودوافعه
للنفاق أسباب عادة ينتج منها. ومن أهمها ضعف الإيمان والجهل بالدين. وهناك أسباب أخرى، سنتناول بعضها بالشرح الموجز على سبيل المثال.
الجهل بالدين:
الجهل بالدين كثيرا ما يؤدي إلى النفاق. وذلك لأن من لا يعرف دينه لن يأخذه بجد ولن يعرف مدى أهمية التوبة وصلاح القلب. ولن يعرف مدى خطورة أمر الآخرة ليجدَّ ويجتهد في طلبها. بل غالباً ما تجد الجهل يقارنه الوهن وضعف الإيمان والتهاون في العبادة والغفلة وتقديم الدنيا على الأخرة.
قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[11].
وقال: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[12].
وقال صلى الله عليه وسلم: (يُوشِكُ أن تَدَاعَى عليكم الأممُ من كلِّ أُفُقٍ، كما تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها، قيل: يا رسولَ اللهِ! فمِن قِلَّةٍ يَوْمَئِذٍ؟ قال لا، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ، يُجْعَلُ الْوَهَنُ في قلوبِكم، ويُنْزَعُ الرُّعْبُ من قلوبِ عَدُوِّكم؛ لِحُبِّكُمُ الدنيا وكَرَاهِيَتِكُم الموتَ)[13].
فالذي لا يعرف دينه ولا ربه لن يتمكن الخوف والرجاء من قلبه ويكون بذلك عرضة للنفاق. ولذا أمرنا نبينا الكريم بتعلم الدين وفهم القرآن والعناية به وبنشر أحاديثه صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنَّ أفْضَلَكُمْ مَن تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ)[14].
وأثنى الله تعالى على العلماء ووصفهم بخشيته في قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[15]. ولذا كان حريا بكل مسلم السعي في تعلم الدين وتعليم أولاده. فذلك أحصن لدينه وقلبه.
الأمن من مكر الله:
الأمن من مكر الله يمكن أن يؤدي إلى النفاق. لأنها صفة لا تتفق مع الإيمان الحق ومعرفة الله عز وجل ومعرفة صفاته وأسمائه. ومن يتأمل في عواقب الأمم السابقة وما آلت إليه، ومن يتمعن في آيات الله وسنة نبيه وما جاء فيها من التخويف من عذاب الله لا يمكن أن يأمن من مكر الله. كذلك الإيمان بأن العبرة بالخواتيم والإيمان بقدر الله تعالى وأنه لن ينجو أحد بعمله، بل برحمة الله تعالى، كل ذلك وغيره يجعل المسلم دائم الحال بين الخوف والرجاء إلى أن يلقى الله عز وجل، وعندها فقط يفرح بوعد الله وثوابه. وكل هذا لا يأتي مع صفة الأمن من مكر الله. ومن يكن به هذه الصفة كثيرا ما يخالط قلبه النفاق. حيث يشعر بأن الأمر هين وليس هناك خوف عليه فيقدم الدنيا ومصالحها على الآخرة، مما قد يوقع به في بحور النفاق. قال تعالى: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)[16].
كثرة المعاصي والمجاهرة بها:
كثرة المعاصي والذنوب قد تؤدي إلى النفاق. ولابد أن يحذر المسلم ولا يتمادى في الذنوب إعتماداً على عفو الله. فالله غفور رحيم، ولكنه أيضاً شديد العقاب ويمهل ولا يهمل، ويمكر بأعدائه بتزيين المعاصي في أعينهم ليزدادوا إثماً جزاءاً لعنادهم وتكبرهم على خالقهم وتماديهم في المعاصي. قال تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)[17].
وليحذر المسلم من المجاهرة بالمعاصي لأنها بمثابة مبارزة لله. فالله يرخي ستره على المسلم ليعطيه فرصة للتوبة والرجوع والإستغفار، ويأتي العاصي فيفضح نفسه ويجاهر بذنوبه وكأنه يتحدي الله جل جلاله. وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كُلُّ أُمَّتي مُعافاةٌ، إلَّا المُجاهِرِينَ، وإنَّ مِنَ الإجْهارِ أنْ يَعْمَلَ العَبْدُ باللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحُ قدْ سَتَرَهُ رَبُّهُ، فيَقولُ: يا فُلانُ قدْ عَمِلْتُ البارِحَةَ كَذا وكَذا، وقدْ باتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، فَيَبِيتُ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، ويُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عنْه)[18].
وذكر الألباني: (إنَّ الرجلَ ليُذنبُ الذنبَ فيُنكتُ في قلبِه نُكتةٌ سوداءُ، ثم يُذنبُ الذنبَ فتُنكتُ أخرى حتى يصيرَ لونُ قلبِه لونُ الشاةِ الرَّبداءِ)[19] وفي رواية (نُكْتةً سوداءَ من نفاقٍ في قلبِهِ)[20].
وفي هذا دليل على أن تكرار المعاصي قد يؤدي إلى النفاق وسواد القلب. هذا غير العقاب الآخروي الذي ينتظر صاحبها. فالأحرى بالعصاة التوبة والإقلاع قبل أن يختم الله على قلوبهم ويتمكن النفاق منها وتصعب التوبة بعدها.
إهمال العبادات والصلاة:
الإهمال المستمر للعبادات، لاسيما الصلاة قد يؤدي إلى النفاق. لأنه قد يؤدي إلى سواد القلب وعدم الاكتراث بأمر الآخرة. فالقلوب تصفى بالعبادة وتصدأ بتركها. وترك الفرائض من كبائر الذنوب التي قد توقع صاحبها في الكفر كما في حال الصلاة. وأكثر ما يكون ذلك في إهمال العبادات الأساسية وأركان الإسلام. فهو كثيرا ما يجعل المرء غائباً تماما عن استحضار أمر الآخرة والتصديق بها. قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ)[21].
الرياء ومداراة الناس على حساب الدين:
الرياء يختلف عن النفاق، حيث أن النفاق درجة أبعد في المعصية ويقارن بالكفر. والرياء معصية قلبية قد يطرأ على المسلم دون أن يدخله في دائرة المنافقين. وقد وضح ابن العثيمين – رحمه الله – أن الرياء الذي يطرأ على المسلم بعد قيامه بعمل صالح لا يضره إن شاء الله ما دامت أصل نيته في العمل سليمة. ورغم ذلك فإن التمادي في الرياء ًوالإصرار عليه قد يؤدي إلى النفاق. فمن يجعل مراءاة الناس والحرص على رضاهم همه الشاغل، ودافعاَ له في لعمل الصالحات دون أن ينظر إلى رضى الله وما أعده من الأجر من السهل أن يقع في النفاق. قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا)[22].
صفات المنافق الخالص ومن به خصلة من النفاق
لقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم الفرق بين المنافق الخالص ومن به خصلة من النفاق في حديثه: (أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر). وهذا بفضل الله فيه تخفيف على الناس، حيث لا يعتبر المرء منافقاً خالصاً إلا بإجتماع خصال المنافقين الأربع وهي: الكذب، وخلف الوعد، وغدر العهد، والفجور في الخصومة.
كثرة الكذب:
الكذب من آفات اللسان التي نهى عنها الإسلام، وجعلها من الذنوب التي تؤدي إلى عذاب القبر، إن لم يتب منها صاحبها. كما أنه يهدي إلى الفجور. وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم من علامات النفاق وحذر منه أمته في حديثه: (إيَّاكُمْ والْكَذِبَ، فإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ، وما يَزالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ ويَتَحَرَّى الكَذِبَ حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذّابًا)[23]. والكذاب لا يخاف من عذاب الله بل يهمه رضى الناس ويقدمه على رضى الله ولذلك يعتاد على كذب.
كثرة إخلاف الوعد:
إن إخلاف الوعد صفة سيئة ومنهي عنها في الإسلام. وهو إحدى علامات المنفاق، كما أنه قد يؤدي إلى النفاق إذا تكرر وقوعه. والذي يوعد الناس ثم يخلف وعده بإستمرار دون عذر غالباً ما يكون لا ورع له ولا وازع ديني يحكمه. فهو لا يكترث بخلفه للوعد ولا بالخوف من النفاق. وقال تعالى عن عقاب المنافقين الذين أخلفوا وعدهم لله: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)[24].
وقد تطرأ على الإنسان ظروف أحياناً تجعله يضطر لإخلاف وعده. ففي هذه الحالة حري به أن يخبر من وعده ويستسمحه ويشرح له ظروفه. فهذه حالات عابرة الكثير يمر بها. وأما من يجعل خلف الوعد ديدنه في الحياة فذلك به صفة من النفاق وعليه تركها والتوبة منها.
كثرة الفجور في الخصومة:
ومن مظاهر الفجور في الخصومة التمادي فيها دون وجه حق، والظلم والجور عن الحق والزيادة في العداء والشر وعدم التنازل أو المسامحة ونحوها. وقد عدها النبي صلى الله عليه وسلم من صفات المنافق. وذلك لأن قلبه أسود ولا يهمه أمر الآخر وعفو الله. فالمؤمن الحق عادة يكون هين لين وسهل، يسامح الناس لاسيما إن اعتذروا إليه. ولا يكبر الأمور ويجعل من الصغائر مشاكل وخصومات كبيرة. وقد رأينا في المدارس كيف أن النشء يحتاجون للتوعية في هذا الباب.
فنجد طلاب المدارس يتمادون في الأذى عند الخصام والشجار دون توقف. وقد سمعنا بحادثة من أحرقوا صاحبهم وهو حي. فهذا غاية في الفجور في الخصومة ولا رحمة ولا دين لمن يرتكب هذه الأفعال الشنيعة. وهي تنتج عن التمادي في الغضب ومتابعة الشيطان. وقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الغضب. فقد روى أبو هريرة – رضي الله عنه – قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: مرني بأمر، ولا تكثر علي حتى أعقله، قال: لا تغضب، فأعاد عليه: لا تغضب)[25].
وقد وعد الله تعالى الكاظمين الغيظ أجرا عظيماً، حيث قال: (الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[26]. وهناك طرق أرشدنا إليها النبي صلى الله عليه وسلم لدفع الغضب. فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع)[27].
وقوي الإيمان هو من يستطيع التحكم في نفسه ويملك ذمامها عند الغضب. وما تحدث الجرائم وسفك الدماء إلا من جراء الغضب. قال صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)[28].
كثرة نقض العهد:
لقد حرم الإسلام نقض العهد وأمر المسلمين بالوفاء بالعقود. قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)[29].
وبين صلى الله عليه وسلم أن نقض العهد من علامات النفاق. ونقض العهد يفقد ثقة الناس في الناقض، فلا يقبلوا منه بعد ذلك صرفاً ولا عدلاً، مما يسبب ضرر بالغ له. وذلك خلافاً عن العقاب الآخروي وربما العقاب بالإصابة بالنفاق. قال تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا)[30].
ووفاء المسلم بعهده أسلم له ولا يعرضه للمشاكل والنقد وفقد ثقة الناس فيه.
سمات أخرى تكثر في المنافقين
وهناك علامات أخرى وسمات كثيرا ما تظهر على المنافقين. ورغم دقتها وخفائها، إلا إنها كثيرا ما تظهر للمؤمنين خاصة الذين يعرفونها بما جاءهم في القرآن الكريم والسنة النبوية من صفات المنافقين. ورغم ان هذه الصفات كثيرا ما ترتبط بالنفاق، إلا أنها قد توجد أحيانا في غير المنافقين ايضا. ومنها:
يضمرون الكفر ويظهرون الإيمان:
أكثر صفة تميز المنافقين، لاسيما في نفاق الإعتقاد هو أنهم يقولون ما ليس في قلوبهم، ويظهرون الإيمان ويضمرون الكفر. قال تعالى: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ)[31].
ذهاب نور الإيمان:
فإن للمؤمن نور في وجهه لا يخفى على مسلم، ومحبة في قلوب الناس. ولقد حرُمِ المنافقين هذا النور ولا تجد لهم نفس القبول الذي يوجد بالمؤمن الحق. وذلك لأن النفاق يذهب بنور الوجه، ويجعل صاحبه مذبذب وكثير الخوف والتردد والتأثر بما يقوله الناس. لا يثبت على حال، فهو تارة مع المؤمنين وتارة مع الكافرين. وقد وصف لنا الله تعالى هذا في كتابه الكريم بقوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ)[32].
في قلوبهم مرض:
المنافقون قلوبهم مريضة وبها شك وحيرة وريب وعدم استقرار وفهم. ولذا سمى الله تعالى تلك الحال بمرض، لأنها راحة لها ولا سكينة ولا طمأنينة بالإيمان. فهم في غيهم يتخبطون. قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)[33].
الخوف من انفضاض الناس وتقديم مجاملتهم على تعاليم الشرع:
فتجد المنافقين يراقبون الناس ويراؤوهم في أعمالهم. ويقدمون مجاملتهم حتى ولو خالفت الشرع، وذلك خوفاً على فقد مناصبهم وذهاب جاههم. قال تعالى: (يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا)[34].
وقال: (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا)[35].
وبعض الناس يخالفون شرع الله لمجرد مجاملة الناس والتماشي مع عادات المجتمع. ومن أمثلة ذلك الشاب الذي يدخن السيجار متابعة لأصدقائه، وذاك الذي يسهل بنطاله متابعة للمظاهر، والفتاة التي تصافح الرجال وتخالطهم لمتابعة عادات المجتمع. قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا)[36].
المجاهرة بالمعاصي:
المجاهرة بالمعاصي صفى سيئة، وقد تكون علامة على النفاق. فمن يصدق في إيمانه ويعرف ربه ويعرف أنه شديد العقاب وأنه يمهل ولا يهمل وأنه يمكر بالكافرين والمنافقين لما تجرأ على مبارزته بالمعاصي. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كُلُّ أُمَّتي مُعافاةٌ، إلَّا المُجاهِرِينَ، وإنَّ مِنَ الإجْهارِ أنْ يَعْمَلَ العَبْدُ باللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحُ قدْ سَتَرَهُ رَبُّهُ، فيَقولُ: يا فُلانُ قدْ عَمِلْتُ البارِحَةَ كَذا وكَذا، وقدْ باتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، فَيَبِيتُ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، ويُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عنْه)[37]. فحتى لو أذنب المسلم عليه بستر نفسه والتوبة والإستغفار. والمجاهرة بالمعصية أمام الناس فيها سوء أدب وعدم خوف من الله تعالى … وذلك كثيرا ما يصدر من المنافقين.
لهم مظهر حسن وكلام خاوٍ:
المنافقون يبدون عادة بمظهر حسن، ومع ذلك كلامهم خاوٍ، لا قيمة له ولا مغذى. وذلك لفراغ قلوبهم من الإيمان والحكمة. قال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)[38]. ومن هؤلاء تجد المغني والممثل ولاعب الكرة وأصحاب القنوات، وغيرهم، ممن لا يهتم إلا بمتابعيه. وتجدهم يهتمون بمظاهرهم وكلامهم كله عن الدنيا ومصالحها، دون أي مراعاة لحدود الله ومحارمه.
عمى البصيرة والتخبط بين الحق والباطل والهداية والضلال:
المنافقون يتصفون عادة بعمى البصيرة وقلة الهداية، وذلك لأن المنافق لا إيمان له يرجعه أو يردعه إلى الطريق المستقيم. ونور البصيرة هبة يعطيها الله للمؤمنين المخلصين من عباده. والمنافقين يفتقدون الإخلاص، ولذا تجدهم يتخبطون بين الحق والباطل دون هداية ولا دليل. قال تعالى واصفا حالهم: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ)[39]. أي هؤلاء المنافقين الذين قبلوا الإسلام ظاهراً ثم أفسدوه بنفاقهم وفساد قلوبهم مثل الذين “يتخبطون في ظلماتِ ضلالهم وهم لا يشعرون، ولا أمل لهم في الخروج منها، تُشْبه حالَ جماعة في ليلة مظلمة، وأوقد أحدهم نارًا عظيمة للدفء والإضاءة، فلما سطعت النار وأنارت ما حوله، انطفأت وأعتمت، فصار أصحابها في ظلمات لا يرون شيئًا، ولا يهتدون إلى طريق ولا مخرج”[40].
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|