رد: الدروس المستفادة من معاهدات النبي صلى الله عليه وسلم
الدروس المستفادة من معاهدات النبي صلى الله عليه وسلم
أبو حاتم عبد الرحمن الطوخي
المبحث الأول: تعريف المعاهدة لغة وشرعا
المعاهدة لغة: مصدر للفعل عاهد یعاهد فهو من باب المفاعلة وهذا الباب یدل على المشاركة بین اثنین على أن یكون أحد المتشا ركین فاعلا والآخر مفعولا من حیث اللفظ، أما من حیث المعنى فكلاهما فاعل،وكلاهما مفعول، فحینما نقول: (عاهد المسلمون الكفار) فهذا یعني أن الكفار أیضا عاهدونا وإن كان لفظ الكفار مفعولا به، والمعاهدة مشتقة من العهد؛ وذلك لأن مصدر المزید مشتق من مصدر المجرد، وفعله عهد یعهد من باب علم یعلم، جاء العهد في اللغة بمعان عدة منها [1])
أولا: الوصیة والأمر ومنه قوله تعالى: ﴿ {*أَلَم *أَعهَد إِلَيكُم يَٰبَنِي ءَادَمَ أَن لَّا تَعبُدُواْ ٱلشَّيطَٰنَ إِنَّهُۥ لَكُم عَدُوّ مُّبِين﴾} ([2]) أي: ألم أوصكم وآمركم([3])، ویكون العهد بمعنى الوصیة عندما یعدى بـ(إلى) كما في الآیة، وتقول (عهدت إلیك أن ترعى أهلي في غیابي فلم تفعل) أي أوصیتك بذلك.
ثانیا: الأمان، یقال دخل فلان في عهد فلان أي في أمانه.
ثالثا: الموثق ومنه الدعاء المأثور « (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت)» ([4]) أي أنا مقيم على ما عاهدتك عليه وواعدتك من الإيمان بك وإخلاص الطاعة لك ما استطعت من ذلك[5] ومنه ﴿ {وَأَوفُواْ *بِعَهدِ *ٱللَّهِ *إِذَا *عَٰهَدتُّم وَلَا تَنقُضُواْ ٱلأَيمَٰنَ بَعدَ تَوكِيدِهَا وَقَد جَعَلتُمُ ٱللَّهَ عَلَيكُم كَفِيلًا إِنَّ ٱللَّهَ يَعلَمُ مَا تَفعَلُونَ﴾} ([6]) (أي بمیثاقه)([7])
رابعا: الوفاء والحِفاظ قال تعالى: ﴿ {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِینَ﴾} ([8]) أي من وفاء)([9])
خامسا: المحالفة، ويفهم من هذا أن المتعاهدين يتحالفون على شىء([10])
سادسا: المعاقدة، وهذا يبين المعاهدة هي عقد بين أطراف([11])
سابعا: اليمين يحلف بها الرجل، يقول: علي عهد الله، وأخذت عليه عهد الله وميثاقه.
" وما سبق يفهم من معنى المعاهدة: البقاء على ما تم الاتفاق عليه، والتمسك به، ويتبين أن لفظ معاهدة يستخدم غالبا لوصف ما يتم بين الناس من اتفاقات وارتباطات وعقود ومواثيق "([12])
والمناسب للمعاهدة التي نحن بصددها من جملة هذه المعاني اللغویة هو المعنى الثالث.
المعاهدة شرعا: ذكر الفقهاء المعاهدة في كتب الفقه الإسلامي بعبارات أخرى فهم تارة یسمونها معاهدة وتارة یسمونها مهادنة وموادعة ومسالمة.
قال الكاساني: (الموادعة وهي المعاهدة والصلح على ترك القتال یقال توادع الفریقان أي تعاهدا على أن لا یغزو كل واحد منهما صاحبه)([13])
وسماها الإمام النووي([14])في" روضة الطالبين "بعقد الذمة، حیث قال: الباب الثاني في عقد الذمة ویقال لها الموادعة والمعاهدة([15])
وأیا كانت الأسماء فالمسمى واحد، والمعاهدة عرفها الفقهاء بتعریفات عدة، ومنهم من اكتفى بذكر أحكامها مستغنیا في ذلك عن ذكر تعریفه، ومن أبدع التعاریف التي وقفت علیها؛ هذه الجملة من التعاریف:
أولا: عرفها ابن الهُمام([16]) (حنفی) بقوله: (عَقْدُ مع غیر المسلمین على ترك القتال بعوض أو غیره سواء منهم من یقر على دینه ومن لا یقر)([17])
هذا التعریف فیه إشارة واضحة إلى أن الأصل في العلاقة بین المسلمین وغیرهم من المشركیین والوثنیین وأهل الكتاب(هي حالة الحرب ولیس السلم) حیث قال: (عقد مع غیر المسلمین على ترك القتال) فترك القتال حالة طارئة والأصل في التعامل مع الكفار هو القتال، وهذا التعمیم (سواء من یقر على دینه ومن لا یقر) فیه إشارة إلى أن المعاهدات كما تُعقد مع أهل الكتاب الذین یُقَروُنَ على دینهم مقابل أن یدفعوا الجزیة كذلك تعقد مع الوثنیین أیضا لكن الفرق واضح بین الجزیة والمعاهدة حیث تكون المعاهدة مؤقتة، والجزیة یجوز أن تكون مؤبدة.
ثانیا: عرف الحطاب الرعيني([18])(مالكی) المعاهدة بقوله: فالأمان رفع استباحة دم الحربي ورقه وماله حین قتاله أو العزم علیه مع استقرارره تحت حكم الإسلام مدة ما ([19]).
یُظْهِر التعریف هنا: أن الأصل في التعامل مع الكافر الحربي هو القتال ولذلك قال: (رفع استباحة دم الحربي) فحالة الحرب في الإسلام حالة طارئة؛ ولذلك یذهب بعض الفقهاء المعاصرین وهو الدكتور وهبة الزحيلي إلى أن علة القتال في الإسلام هي الحرابة ولیس الكفر؛ ولذلك لا یجوز قتال غیر المقاتلة([20]) (وهم الذین یقاتلوننا ویحملون السلاح علینا)، وقوله في التعریف (مدة ما) فیه إشارة إلى أن المعاهدة یجب أن تكون مؤقتة ولا تكون بشكل دائمي وهذا هو الفرق بین عقد الجزیة وعقد المعاهدة حیث أن عقد الجزیة یجوز أن یكون دائمیا أما عقد المعاهدة فیجب أن یكون مؤقتا؛ وذلك لأن في إدامته تعطیل لفریضة الجهاد ([21]).
ثالثا: عرفها القاضي زكریا الأنصاري([22]) (شافعي) بقوله: (مصالحة أهل الحرب على ترك). القتال مدة معینة بعوض أو غیره وتسمى موادعة ومهادنة ومعاهدة ومسالمة)([23])
رابعا: عرفها ابن مفلح([24]) (حنبلي) بقوله: هي عقد إمام أو نائبه على ترك القتال مدة معلومة لازمة ویسمى مهادنة وموادعة ومعاهدة ومسالمة ([25]).
" بَیَّنَ التعریف هنا أهم فرق بین المعاهدة وعقد الأمان ألا وهو أن عقد المعاهدة لا یُعقد إلا من قبل الإمام أو نائبه فلا یجوز لآحاد الناس أن یعقد المعاهدات مع أحد وهذا بخلاف عقد الأمان الذي یجوز فیه لأي مسلم أن یعقده، كما بین التعریف أن المعاهدة تكون مؤقتة بمدة تكون معلومة(للطرفین)، وأشار التعریف إلى أن المعاهدة عقد لازم فلا یجوز نكث المعاهدة بل هي عقد ملزم للدولة التي التزمت به ویلتزم بها الحاكم والرئیس التالي وإن لم یكن هو الذي أبرمها وسیأتي تفصیل ذلك مع خلاف الفقهاء فیه ([26]).
من الواضح أن القاسم المشترك بین كل هذه التعاریف هو خصوصیة مفهوم المعاهدة في التشریع الإسلامي حیث لا تطلق إلا على معاهدات السلام التي تكون بین المسلمین وغیرهم من الكفار.
وأما المعاهدون، فهم الذين انعقد بيننا وبينهم عهد على السلم، فيجب علينا الوفاء بعهدهم، وأن نستقيم لهم ما استقاموا لنا، وإذا كان في بعض ذوي القوة من يحس من خصمه المعاهد تحفُّزًا إلى الخيانة، فيسبقه إليها، فإن الإسلام يوجب في حال الخوف من خيانة المعاهدين أن ننبذ لهم العهد علنًا وفي القرآن الكريم: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾([27]).
---------------------------------------------------
([1]) القاموس المحيط (1/387) الفیروز آبادي ، مؤسسة الرسالة ، بیروت ،المحكم والمحیط الأعظم لابن سيده (1/120)، دار الكتب العلمية ، بيروت، لسان العرب لابن منظور (3/311) دار صادر ، بيروت
([2]) يس : (آية 60)
([3]) تفسير القرآن العظيم ابن كثیر(3/577) دار الفكر ، بیروت.
([4]) جزء من حديث سيد الاستغفار ، رواه البخاري ، كتاب الدعوات ، باب أفضل الاستغفار (8/67)حديث رقم (6306) عن شداد بن أوس الثقفي
([5] ) «أعلام الحديث» للخطابي (3/ 2236)، قال الطيبي :«وقد يكون معناه إني مقيم علي ما عاهدت إلي من أمرك ومتمسك به، ومنتجز وعدك في المثوبة، والأجر عليه. واشتراط الاستطاعة في ذلك». شرح المشكاة للطيبي » (6/ 1844)
([6]) النحل : (آية 91)
([7]) جامع البیان عن تأویل آي القرآن ، محمد بن جریر الطبري (14/164) ، دار الفكر ، بیروت .
([8]) الأعراف آية 102)
([9])- مفاتيح الغيب ، فخر الدين الرازي (14/154) دار الكتب العلمية ، بيروت
([10]) المصباح المنير ، الفيومي (مادة عهد ، 2/425)
([11]) معجم ديوان العرب ، الفارابي (2/383)
([12]) المعاهدات السلمية في ضوء الواقع المعاصر دراسة فقهية مقارنة ، تأليف خميس عمر المصري(ص:16)
([13]) بدائع الصنائع للكاساني (7/ 108).
([14]) هو: أبو زكريا، محيي الدين، يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حرام، النووي، الشافعي، الحزامي، الأشعري، الشيخ الإمام، العلامة، الفقيه، محرر المذهب ومُهذبه، وضابطه ومرتبه، وُلد سنة: (631هـ)، وهو أحد العباد والعلماء الزهاد، من تصانيفه: «المجموع شرح المهذب»، «شرح صحيح مسلم»، توفي سنة: (676هـ)، انظر: طبقات الشافعية الكبرى (8/395)، طبقات الشافعيين (ص: 909).
([15]) «روضة الطالبين وعمدة المفتين» للنووي (10/ 334)
([16]) هو :محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد ابن مسعود، السيواسي ثم الإسكندري، كمال الدين، المعروف بابن الهمام: إمام، من علماء الحنفية.أصله من سيواس، ولد بالإسكندرية سنة (790)هـ ونبغ في القاهرة، وأقام بحلب مدة.وجاور بالحرمين، وكان علامة في الفقه والأصول والنحو والتصريف والمعاني والبيان والتصوف وغيرها، محققا جدليا نظارا ، وكان يقول: أنا لا أقلد في المعقولات أحدا ، وكان معظما عند الملوك . وله تصانيف «فتح القدير » ، و«التحرير في أصول الفقه» و«المسايرة» في أصول الدّين، توفي بالقاهرة سنة (862)هـ. انظر: «بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة» (1/ 166): «شذرات الذهب في أخبار من ذهب» (9/ 437)، «الأعلام للزركلي» (6/ 255)
([17]) «فتح القدير» الكمال ابن الهمام (5/462)
([18]) هو العلامة الشيخ شمس الدين أبو عبد الله *محمد *بن *محمد *بن *عبد *الرحمن بن حسين المعروف بالحطاب الرعيني المغربي الأصل ، المكي المولد الفقيه الأصولي الورع الصالح الجليل ، ولد بمكة واشتهر بها وتعلم بها ، له تصانيف تدل على إمامته وسعة علمه وحفظه وسيلان ذهنه ؛ منها: (تحرير الكلام في مسائل الالتزام) و(تحرير الكلام في مسائل الالتزام - ط) و(تفريح القلوب بالخصال المكفرة لما تقدم وما تأخر من الذنوب) و(مواهب الجليل في شرح مختصر خليل) عاد في أواخر حياته إلى طرابلس ومات بها سنة 954. «نيل الابتهاج بتطريز الديباج» التكروري التنبكتي السوداني، (ص592) «الأعلام للزركلي» (7/ 58)
([19]) « مواهب الجليل في شرح مختصر خليل» الحطاب الرعيني (3/ 360)
([20]) ينظر: آثار الحرب دارسة فقهية مقارنة الدكتور وهبة الزحيلي (ص121)
([21]) المعادة والاستئمان في الشريعة الإسلامية د. ظاهر خضر سليمان (ص 208) مجلة أبحاث الرتبية الأساسية المجلد التاسع ، العدد الثالث 2010م
([22]) هو: أبو يحيى، زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري المصري الشافعي، ولد سنة: (823ه)، شيخ الإسلام ، قاض مفسر، كان سلفيًّا محدِّثًا، ظهر فضله تتابعت إليه الهدايا والعطايا، كف بصره في آخر عمره، من تصانيفه: «شرح ألفية العراقي»، «شرح شذور الذهب، في النحو»، وتوفي سنة: (926ه). "سلم الوصول إلى طبقات الفحول" (2/ 113)،"الأعلام" للزركلي (3/ 46).
([23]) «فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب» لزكريا الأنصاري (2/ 224)
([24]) هو: إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد *ابن *مفلح، أبو إسحاق، *برهان الدِّين، الشيخ الإمام البحر الهمام العلامة القدوة الرحلة الحافظ المجتهد الأمة، شيخ الإسلام، سيد العلماء والحكام، ذو الدِّين المتين والورع واليقين، من قضاة الحنابلة. ولد في دمشق سنة (816 هـ) باشر القضاء في الديار الشامية نيابة واستقلالا أكثر من أربعين سنة، من محاسنه إخماد الفتن التي كانت تقع بين فقهاء الحنابلة وغيرهم في دمشق، له تصانيف: " المبدع شرح المقنع "، و" المقصد الأرشد في طبقات الحنابلة "، و" كتاب الاستعاذة "وتوفي في دمشق سنة (884 هـ). ينظر: المنهج الأحمد (5/ 186)، السحب الوابلة (1/ 60)، شذرات الذهب (9/ 507)
([25]) «المبدع في شرح المقنع» برهان الدين ابن مفلح (3/ 359)
([26]) المعادة والاستئمان في الشريعة الإسلامية د. ظاهر خضر سليمان (ص 209) مجلة أبحاث الرتبية الأساسية المجلد التاسع ، العدد الثالث 2010م
([27]) [الأنفال: 58]
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 30-05-2024 الساعة 04:22 AM.
|