عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 31-10-2023, 05:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,118
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير سورة التوبة (الحلقة الثالثة) الوفاء للأوفياء والحزم مع الناكثين الطاعنين


وتكرار الاستفهام بأداة "كيف" إنكاري لتأكيد ما تضمنته "كيف" السابقة، وهو استبعاد ثَبَات المشركين على العهد، والمستفهَم عنه محذوف لدلالة السياق عليه؛ أي: كيف تطمئنون إلى المشركين وتغفلون عن الإعداد لهم؟! أو كيف يكون لهم عهد صادق يحتمل الوفاء به، أو يحظى بالقبول والتزكية من الله، فيقبله رسوله والمؤمنون، وهم لكفرهم وغيظهم على أهل الإيمان وكراهيتهم لكم وحرصهم على استئصالكم يضمرون العداوة لكم ويعدون لحربكم ﴿ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ﴾، والفعل "ظهر يظهر" يدل لغةً على قوة بروز للشيء واستعلائه وانكشافه، فيقال: ظهرت على فلان: إذا علوته، وظهرت على السطح: إذا صرت فوقه،والظُّهور: البروز والاستعلاء، وأظهر اللهُ المسلمين على المشركين؛ أي: أعلاهُم عليهم كما في قوله تعالى: ﴿ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾ [الصف: 14]، واستُعمِل مجازًا للنصر والغلبة والظفر، فقيل: ظهر عليه؛ أي: غلبه وانتصر عليه، كما في قوله تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33].


وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة مخاطبًا المسلمين ومحذرًا لهم: ﴿ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ﴾ [التوبة: 8]؛ أي: كيف بكم، أو كيف يكون حالكم، أو يؤول أمركم، وهم إن ينتصروا عليكم ويظفروا بكم أو ترجح كِفَّتهم في الحرب عليكم أو تتاح لهم فرصة للإضرار بكم ﴿ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ ﴾، والفعل "يرقبون" من رَقَبَ الشيءَ يَرْقُبُه، وراقَبَه مُراقَبةً ورِقابة: حَرَسَه وتتبع أحواله، ومنه: الرقيب: اسم من أسماء الله الحسنى؛ أي: الحافظُ الَّذِي لَا يَغيبُ عَنْهُ شيءٌ في الدنيا والآخرة، قال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، وقال عز وجل عن نبيه عيسى عليه السلام: ﴿ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المائدة: 117]، ومنه "المراقبة" وهي شعور المرء الدائم بمراقبة الله له في سِرِّه وعلانيته، في أقواله وأفعاله الظاهرة والباطنة، ومنه يقال: ليس المراقب كاللاهي؛ أي: لا يستوي من يراقب حق الله وحق العباد بمن همُّه اللهو والعبث.


وقوله تعالى: ﴿ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ﴾ [التوبة: 8]؛ أي: لا يراعوا فيكم ﴿ إِلًّا ﴾، قرابة نسب توجب شفاعة، أو رحمًا واصلة تقتضي مودة ورأفة ﴿ وَلَا ذِمَّةً ﴾ ولا عهدًا يوجب وفاء به، أو سابقة معروف تستدعي الحياء من التنكُّر لها، وإنما هم في فترة ضعفهم هذه ﴿ يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾ يستبطنون الكفر والغدر، ويدارونكم ليرضوكم بلين الكلام وخادع العهود وزائف الوعود، كي يثبطوا هممكم عن السعي للحسم في أمرهم وتحقيق النصر عليهم والتمكين للدين ﴿ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ ﴾ وتستعصي قلوبهم على الإيمان وتتمرَّد على الانصياع للحق ﴿ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ كافرون يضمرون العداوة والبغضاء لله ولرسوله وللمؤمنين.


ثم بيَّن عز وجل ما دعاهم إلى هذا الغيظ والكراهية والإصرار على خداع المسلمين والترصُّد لهم، فقال تعالى: ﴿ اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ إنهم آثروا الحياة الدنيا وزينتها ومكاسبها الفانية سريعة النفاد على ما نزل إليهم من القرآن الذي يهديهم إلى الرشد وصراط الله المستقيم، ويأخذ بأيديهم إلى التمكين في الحياة الدنيا والفوز بنعيم الآخرة الدائم المقيم، فكانوا كالتاجر المفلس الذي يبيع الثمين بالرخيص، ويستبدل الرفيع بالوضيع، والأصيل بالرقيع، ﴿ فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ﴾، وفعل "صدَّ يصدُّ" يستعمل لازمًا ومتعديًا، فيقال: صدَّ عن الشيء إذا أعرض عنه أو عدل عنه، أو انصرف عنه، وصدَّ غيرَه عن الشيء إذا منعه منه أو حمله على الانصراف عنه أو الزهد فيه؛ أي: إن المشركين لإيثارهم الحياة الدنيا وزينتها أعرضوا عن دعوة الإسلام وحاولوا صرف غيرهم عنها ﴿ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ قَبُح ما كانوا يرتكبونه من الآثام، وفَحُش ما كانوا يواظبون على فعله من الفواحش، وشنُع ما كانوا يصرُّون على إتيانه من المعاصي؛ إذ يختارون الكفر ويدعون إليه ويكرهون غيرهم عليه.

ثم أكَّد الحق تعالى التحذير من الثقة بهم والتهاون في الإعداد لهم، موضحًا أن المشركين لا يعادونهم وحدهم، بل يعادون كل حامل لعقيدة الإيمان بالله ورسوله، وكل شخص تجسدت فيه، أو قلب حلَّت به، فقال تعالى: ﴿ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ ﴾؛ أي: لا يراعون في أي مؤمن بالله ورسوله، من أي بلد أو قبيلة أو جنس أو عصر إذا ظفروا به ﴿ إِلًّا ﴾؛ أي: قرابة موصولة ﴿ وَلَا ذِمَّةً ﴾، ولا عهدًا معقودًا موثقًا ﴿ وَأُولَئِكَ ﴾؛ أي: المشركون الذين لا يرقبون فيكم إلًّا ولا ذمةً ﴿ هُمُ الْمُعْتَدُون ﴾ بطبعهم العدواني الحاقد على المؤمنين وكراهيتهم الشديدة للإيمان، وبما ارتكبوه فعلًا في حقكم من الإخراج من مكة والمطاردة في الحبشة والهجوم عليكم في بَدْر وأُحُد والأحزاب وغيرها.


ولأن الإيمان بالله ورسوله هو الفيصل في العلاقة بين الناس، على أساسه يكون الإخاء، وبأحكامه يثبت الولاء، وقلوب العباد بيد الله يُقلِّبها كيف يشاء، وفي مجاله لا مكان للعداوة الدائمة ولا للمودَّة الدائمة، فقد استدرك الوحي الكريم حال بعض المشركين إن هم انشرحت قلوبهم للإسلام فآمنوا واستحقوا العضوية الكاملة في المجتمع المسلم، فقال تعالى: ﴿ فَإِنْ تَابُوا ﴾ رجعوا عن الشرك إلى الإيمان والتوحيد ﴿ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ﴾ المفروضة حق إقامتها، ﴿ وَآتَوُا الزَّكَاةَ ﴾ زكاة الأموال وزكاة الفطر، يخرجها القادرون عليها ومستكملو نصابها في أموالهم لمستحقِّيها، فإن لم يكن لأحدهم نصاب يزكى كفاه الإيمان بوجوبها، فإن جحدها لم يقبل له إيمان ولم تثبت له أخوة [10] ﴿ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾، فإن تاب هؤلاء المشركون وآتوا زكاة أموالهم صاروا إخوانًا في الله لكم ومنكم، لكم ما لهم، وعليكم ما عليهم من الحقوق محبةً وتناصرًا وتكافُلًا وتعاونًا، ثم عقب عز وجل على هذه القاعدة المتكاملة إيمانيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا بقوله تعالى: ﴿ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ نُبيِّنها ونوضِّحها لمن يتدبرون التوجيهات القرآنية، ويحرصون على معرفة معانيها، وكشف حكمتها ومراميها، وكيفية تنزيلها.

بهذه الآية الكريمة برَّر أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما قرره من قتال مانعي الزكاة عقب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر: "كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: ((أُمِرت أن أقاتل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إلَّا الله، فمن قالها عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ))؟، فَقَالَ أَبُو بَكْر: "وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا [11] كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا".

وبها وضعت أركان الوحدة الإسلامية متكاملة، توبة إلى الله إيمانًا به تعالى وبرسوله، وإقامة للصلاة بأثرها في الفرد والجماعة، تجنُّبًا للفحشاء والمنكر ونهيًا عنهما بقوله تعالى وقد فرض الصلاة: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45]، وتكافلًا ماليًّا بين المسلمين مفروضًا، كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ [المائدة: 55]، وقوله سبحانه: ﴿ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴾ [المعارج: 23 - 26].

وبعد أن بيَّن الوحي الكريم الحكم في حال من تاب من المشركين عقب بالحكم في حال من خان عهد الله وعهد رسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: ﴿ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ ﴾، والنكث للغزل نَقْضُه، وللحبل المفتول فكُّه، وللعهد نبذُه، كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ﴾ [النحل: 92]، والأيمان بفتح الهمزة جمع يمين، وهو اليد اليمنى تقابلها اليد الشمال، قال تعالى: ﴿ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ ﴾ [الواقعة: 27]، وقال: ﴿ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ ﴾ [الواقعة: 41]، وسمي الحلِف يمينًا؛ لأن طرفيه المتعاقدين كان كل منهما يَصْفِّقُ بيده اليمنى على اليد اليمنى لصاحبه، فيُعَدُّ ذلك عهدًا لا ينقض، وقد يوثق بإشهاد الله عليه فيزداد قوة، كما قال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 91]، والنكث للأيمان نقضُها، والتنكُّر لها، وعدم الوفاء بها؛ أي: وإن نقضوا عهودهم التي وثَّقوها بالأيمان ﴿ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ ﴾، والطعن في الدين مجاز من الطعن بالرمح أو السيف، كما ورد في حديث إمارة أسامة من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ))؛ أي: وإن حاولوا تشويه الدين وثلبه وعيبه واستنقاصه، أو النيل من الإسلام قرآنًا أو عقيدةً أو شريعةً بالتحريف أو التكذيب أو الاستهزاء ﴿ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ﴾، والأئمة جمع "إمام"، وهو من يتقدَّم قومه إلى خير أو شر، مثل فرعون ﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ﴾ [هود: 98]، من قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [القصص: 41]، قرأها ابْن كثير وَأَبُو عَمْرو وَنَافِع (أيمَّة) بهمز الْألف وَبعدها ياء سَاكِنة، وَقَرَأَ عَاصِم وَابْن عَامر وَحَمْزَة والكسائي ﴿ أَئِمَّة ﴾ بهمزتين، و﴿ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ﴾هم رؤوس الكفر وقادته الذين ليس لما يرتكبونه في حق الإسلام والمسلمين من علاج إلا القتال، ثم بيَّن شرعية استحقاقهم المقاتلة، فقال تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ ﴾، والأيمان بفتح الهمزة جمع يمين، ويطلق مجازًا على الذمة؛ أي: لا ذمم لهم تُرْعى، ولا حُرَم لهم تُصان، وقُرئت بكسر الهمزة في غير المشهور: ﴿ لَا إِيمَانَ لَهُمْ ﴾؛ أي: كفَّار ليس في قلوبهم إيمان يحملهم على الوفاء أو يحضُّهم عليه ﴿ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ﴾ لعلَّ قتالكم لهم يكف شرَّهم، ويردع عدوانيتهم، ويردُّ كيدهم.

وكأنما بدت في بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادر تردُّد في الاستجابة للأمر بقتال المشركين، فتوجَّه إليهم الخطاب القرآني منكرًا عليهم التردد والتباطؤ بقوله تعالى: ﴿ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا ﴾، هم المشركون الذين ﴿ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ ﴾ نقضوا عهودَهم معكم وخانوكم ﴿ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ﴾، بإخراجه من مكة في فجر البعثة ومبدأ الدعوة، وحاولوا طرده من المدينة في بَدْر وأُحُد والأحزاب وغيرها ﴿ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ وهم الذين بدؤوكم بالعدوان غدرًا وخيانةً وقتالًا، ثم ساءلهم عز وجل معاتبًا على ما بَدَر منهم من تردُّد وشبهة ضعف إيمان بقوله تعالى: ﴿ أَتَخْشَوْنَهُمْ ﴾ هل تخافون المشركين على نفس أو أهل أو ذرية أو متاع؟ إن كنتم قد خفتموهم ﴿ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ ﴾ فتذكَّروا أن الله تعالى وحده هو المستحق خشيتكم وخوفكم ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ إيمانًا حقيقيًّا سليمًا راسِخًا واضِحًا.

إن القرآن الكريم وضع المسلمين بعد تحرير مكة وحرمها من الشرك والمشركين، وبعد إسلام القبائل التي حضرت الحج الأكبر في السنة التاسعة للهجرة، على صراط من الإيمان والأمن والتعايش السليم، ولكنَّ قسمًا منهم أسلموا على تردُّد، وغيرهم في أطراف الجزيرة العربية، شمالها وخليجها ويمنها لم يسلموا، وظلوا على مناوشاتهم وعدوانيتهم وتهديداتهم، كما هو حال مسيلمة بن حبيب الحنفي الكذَّاب في اليمامة، وطليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد وطيئوغطفان من أرض نجد، وعبهلة الأسود بن كعب بن غوث العنسي المذحجي في اليمن، ولقيط بن مالك الأسدي في عمان، وسجاح بنت الحارث بن سويد التميمية في بعض قومها من تميم وبعض أخوالها من تغلب في العراق، وكان بعضهم قد عاهد ونقض، وبعضهم تحدَّى وهدَّد، وهم أخطر من عرضت عليهم الأخوة الإيمانية بشروطها في الإيمان والصلاة والزكاة، فأبوا واستكبروا وجمعوا الجموع وهدَّدوا المدينة، ولم يبق لكفِّ شرِّهم ورفع أذاهم من وسيلة إلا تجريد الأمر الواضح للمتردِّدين بقتالهم بقوله تعالى: ﴿ قَاتِلُوهُمْ ﴾، أمر صريح حاسم بالقتال؛ أي: أقبِلوا على قتال هؤلاء المشركين بغير تردُّد أو جفول أو خوف ﴿ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ﴾، "يعذبهم" جواب الأمر "قاتلوهم"، ونتيجته المقدرة من رب العزة سبحانه، والمتضمنة وعدًا قطعيًّا بنصر يعذب الله به المشركين على أيدي المؤمنين ﴿ وَيُخْزِهِمْ ﴾ ويذلهم بالهزيمة والقتل والأسر ﴿ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ﴾، ويتم به النصر لكم عليهم نصرًا مؤزرًا حاسمًا ﴿ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ﴾ شفاءً تامًّا من الأحزان والآلام التي عانوها من قبل وهم مستضعفون في مكة ومطاردون في هجرتهم إلى الحبشة، ثم في المدينة أول أمرهم بها ﴿ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ﴾، والغيظ هو أشدُّ الحزن الكامن في النفس مع العجز عن دفعه، وكان يملأ قلوب المسلمين في مكة وأرض الهجرة، بما أصابهم من البلاء ومحن الفقر والحاجة، والاضطرار إلى الصبر والكف عن قتال المشركين بقوله تعالى لهم: ﴿ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [النساء: 77] وقبل أن يؤذن لهم بالقتال بقوله عز وجل: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾ [الحج: 39، 40].

ثم بالتفات حكيم إلى عامة المخالفين من الكفار والمشركين، من حارب منهم ومن لم يحارب، فتح الحق تعالى باب التوبة للجميع، وعلقه بمشيئته واختياره واصطفائه، فقال تعالى: ﴿ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ﴾ من عباده ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ ﴾ عليم بالأحداث؛ مقدماتها ونتائجها، محيط بما يُسِرُّه المشركون وما يعلنونه، ما يخفونه بالليل وما يجرحونه بالنهار ﴿ حَكِيمٌ ﴾ في أمره ونهيه، وخلقه وأقداره وتقديراته، مشيئته تعالى مطلقة، لا يحدها حدٌّ ولا يُقيِّدها قيدٌ.

[1] سورة التوبة نزلت في السنة التاسعة للهجرة، وسميت الفاضحة؛ لأنها فضحت سرائر المنافقين، وكشفت مؤامراتهم ودسائسهم، وقد روي عنسعيد بن جبير أنه قال‏:‏ قلت لابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ سورة التوبة‏؟‏ قال‏:‏ التوبة، بل هي الفاضحة، ما زالت تنزل: (ومنهم... ومنهم...) حتى ظننا أن لن يبقى منا أحد إلا ذُكر فيها.
[2] سورة المائدة آخر ما نزل من الطوال، نزلت في السنة العاشرة للهجرة، وأكمل بها تعالى شرائع الإسلام، وفيها قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
[3] سورة النصر سميت سورة التوديع؛ لما فيها من إشارة إلى اقتراب أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزلت عليه في أوسط أيام التشريق من السنة العاشرة للهجرة، وعرف بها اقتراب أجله، فقام في الناس وألقى خطبة الوداع.
[4] صحيح (الألباني).
[5] صحيح (الألباني)
[6] اللباب في علوم الكتاب لابن عادل الحنبلي الدمشقي.
[7] صحيح (الألباني).
[8] صحيح (الألباني).
[9] أشاع مسيلمة في قومه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أشركه في النبوة، وعندما بايع قوم مسيلمة من بني حنيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أريد أن يشركني محمد معه في النبوَّة كما أشرك موسى أخاه هارون، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، فأمسك عرجونًا صغيرًا من الأرض وقال له: ((والله يا مسيلمة لئن سألتني هذا العرجون ما أعطيته لك))، فخرج مسيلمة ولم يبايع الرسول.
[10] مصارف الزكاة ثمانية في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60].
[11] العَنَاق: الأنثى من صغار المعيز والغنم.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.06 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.43 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.96%)]