سورة الكهف والدجال (2)
ميسون عبدالرحمن النحلاوي
لماذا كانت سورة الكهف نورًا ما بين الجمعتين، وخواتيمها عصمة من الدجال؟
تناولنا في الجزء الأول من البحث فواتحَ سورة الكهف في محاولة للإحاطة بأسباب؛ كونها عصمةً من الدجال، وفي هذا الجزء الثاني والأخير نتمِّم المحورين المتبقيين من البحث؛ وهما:
سورة الكهف نور ما بين الجمعتين.
وخواتيم سورة الكهف عصمة من الدجال.
بسم الله نبدأ.
سورة الكهف نور ما بين الجمعتين
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين))؛ [رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح الجامع"].
والمتأمل لسورة الكهف يجد أن المحور الرئيسي التي تدور حوله هو الفتن والحلول الإلهية للعصمة منها؛ إذ تعرض السورة لأربع قصص تعالج أربعًا من كُبريات الفتن التي تحيط بالإنسان في حياته الدنيا، والتي لا بد أنها عارضة له في مراحل حياته، إن لم يكن في مجموعها ففي بعضها على الأقل.
من جهة أخرى، فإن الفتن التي تعرض لها هذه السورة هي الفتن التي تكون ظاهرةً بارزة في زمن الدجال، يأتي بها الدجال جميعًا؛ ليفتن الناس ويقنعهم بأنه ربهم وإلههم ليتبعوه.
وهذا ما يجعل من قراءتها كلَّ جمعة ضرورةً؛ ليشحن المؤمن نفسه إيمانيًّا معها في مواجهة هذه الفتن في حياته اليومية من جهة، ولتتتجذَّر معانيها وقواعدها في قلبه، فتكون له معينًا على الثبات على دينه في حال ظهر الدجال، وكان ممن شهِدوا فتنته من جهة أخرى.
والقصص الأربع هي:
• قصة أصحاب الكهف، نموذجًا لفتنة الدين.
• قصة صاحب الجنتين، نموذجًا لفتنة المال.
• قصة سيدنا موسى مع الرجل الصالح، نموذجًا لفتنة العلم.
• قصة ذي القرنين، نموذجًا لفتنة السيادة.
1- فتنة الدين وقصة فتية الكهف:
الفتنة:
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ [الكهف: 13 - 15].
هم فتية عاينوا فتنة الدين، فقد كانوا مؤمنين بالله شاهدين له بالوحدانية، خالفوا ما كان عليه قومهم من شرك، وآمنوا بربهم فلم يستسلموا، ولم يتبعوا قومهم في ضلالهم، ولا وافقوهم على كفرهم، بل أعلنوا توحيدهم لله تعالى، كما أعلنوا براءتهم مما يعبد أهلوهم وعشيرتهم: ﴿ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ [الكهف: 14، 15].
قال القرطبي: "روى مجاهد عن ابن عباس أن هؤلاء الفتية كانوا في دين مَلِكٍ يعبد الأصنام، ويذبح لها، ويكفر بالله، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة، فوقع للفتية علم من بعض الحواريين - حسبما ذكر النقاش أو من مؤمني الأمم قبلهم - فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيحَ فعلِ الناس، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله، فرُفِعَ أمرهم إلى الملك وقيل له: إنهم قد فارقوا دينك، واستخفوا آلهتك، وكفروا بها، فاستحضرهم الملك إلى مجلسه، وأمرهم باتباع دينه، والذبح لآلهته، وتوعَّدهم على فراق ذلك بالقتل، فقالوا له فيما رُوِيَ: ﴿ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الكهف: 14] إلى قوله: ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ﴾ [الكهف: 16]، ورُوِيَ أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به، فقال لهم الملك: إنكم شُبَّان أغمار لا عقول لكم، وأنا لا أعجل بكم، بل أستأني فاذهبوا إلى منازلكم، ودبروا رأيكم وارجعوا إلى أمري، وضرب لهم في ذلك أجلًا...".
المخرج:
1- الاعتزال:
﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا ﴾ [الكهف: 16].
بعد أن أعلن الفتية براءتهم من قومهم المشركين، أجمعوا أمرهم على الفرار بدينهم، والالتجاء إلى كهف يعتصمون به من فتنة قومهم وملكهم الظالم، ويعبدون الله وحده لا شريك له.
قال القرطبي: "ثم إنه خلال الأجل تشاور الفتية في الهروب بأديانهم، فقال لهم أحدهم: إني أعرف كهفًا في جبل كذا، وكان أبي يُدخِل فيه غنمه، فلنذهب، فَلْنَخْتَفِ فيه حتى يفتح الله لنا، فخرجوا فيما رُوِيَ يلعبون بالصَّوْلَجَانِ والكُرة، وهم يُدَحْرِجونها إلى نحو طريقهم؛ لئلا يشعر الناس بهم".
فكان جزاؤهم أن حفِظهم الله تعالى في كهفهم، ونشر عليهم من رحمته ما شاء أن ينشر، وحفِظهم في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا، وجعلهم آية من آيات الزمن تتناقلها أُمَمٌ وأقوامٌ.
2- الصحبة الصالحة:
ويلفتنا في قصة أصحاب الكهف اجتماعُ الفتية بعضهم إلى بعض، بعد أن عرف كل منهم صلاح أصحابه، بعيدًا عن أهلهم وقومهم المشركين، لم تضعف من عزيمتهم على الْمُضِيِّ في طريق التوحيد قلةُ عددهم وكثرة قومهم، لم يفكروا بالاستسلام "للأمر الواقع"، والرجوع عما عزموا عليه، لم تكن نظرة المجتمع إليهم تهمهم مثقال ذرة، بل فاضت قلوبهم بما آمنوا به، فقرروا الفرار بدينهم واعتزال قومهم.
ويستمر السياق بسرد قصة الفتية يتخللها خطاب الله للرسول صلى الله عليه وسلم بشأنهم: ﴿ سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾ [الكهف: 22]، وينتهي خطاب الله عز وجل لنبيِّه بشأن الفتية بالدرس الإلهي المستفاد من قصة الفتية: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].
الصحبة الصالحة من جديد، ويضع الله عز وجل مقياسَ الصحبة فيُبيِّنها لرسوله وللمؤمنين من بعده: ﴿ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ [الكهف: 28]؛ يريدون وجهه.
ولو كانوا فقراء ضعفاء لا يُؤْبَهُ لهم، هؤلاء الذين أمر الله رسوله والمؤمنين من بعده بالتقرب إليهم، ﴿ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ﴾ [الكهف: 28]؛ قال ابن عباس: "ولا تجاوزهم إلى غيرهم: يعني: تطلب بدلهم أصحابَ الشرف والثروة"؛ [ابن كثير].
أما الغافلون الذين تُسيِّرهم أهواؤهم، فلا يردعهم نصح ولا تذكير، ولا ترغيب ولا ترهيب، فهؤلاء وَجَبَتْ مجانبتهم كما أمرنا الله عز وعلا، ولو كانوا أصحابَ ثروة وسيادة ووجاهة في المجتمع، وهذه القاعدة الربانية تعتبر من القواعد الأساسية في الثبات على الدين، فالصحبة الصالحة تشُدُّ المؤمن باتجاه ربه، والصحبة الطالحة الغافلة صحبة الأهواء تشُده نحو المعاصي والمهلكات.
قال ابن كثير في تفسيره: " ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ﴾ [الكهف: 28؛] أي: شُغِلَ عن الدين وعبادة ربه بالدنيا، ﴿ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28]؛ أي: أعماله وأفعاله سَفَهٌ وتفريط وضياع، ولا تكن مطيعًا له ولا محبًّا لطريقته، ولا تغبِطه بما هو فيه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 131]".
ولا يفوتنا أن اتباع الهوى، وطاعة أهل الغفلة عن ذكر الله تعالى، والسير في مسالكهم سبب للفتنة في الدين، والانسلاخ عنه شيئًا فشيئًا.
2- فتنة المال، صاحب الجنتين:
الفتنة:
وتحكيها لنا السورة من خلال قصة صاحب الجنتين:
﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ﴾ [الكهف: 32 - 36].
وهذا الرجل أمثاله كثيرون كثيرون؛ رجل أنعم الله عليه بوافر النعم، فكان له كل ما تتمناه النفس من مال وولد وزينة الحياة الدنيا، فاستغرق في النعمة ونَسِيَ الْمُنْعِم، ﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ﴾ [الكهف: 35] بكُفْرِه وتمرُّدِه، وتكبُّرِه وتجبُّرِه، وإنكاره المعاد، بل تطاول على المنعم وبَطِرَ واستكبر، استكبر على صاحبه متفاخرًا بماله وولده، ﴿ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴾ [الكهف: 34]، واستكبر على ربِّه بإنكاره للساعة، وبزعمه خلودَ النعمة، بل وتألِّيه على ربِّه بزعمه أنه سيكون له أفضل مما تركه وراءه في الدنيا، إن كان هناك آخرة وعودة إلى الله الذي خلقه أول مرة.
﴿ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ﴾ [الكهف: 36]، وما أقسى ما كان العقاب، ادَّعَيْتَ خلود النعمة؟ ها هي أمامك دمارٌ وهلاك، لا تقدر منها على شيء، ما حال بينك وبين دمارها أحدٌ ممن كنت تفتخر بهم من ولد وعشيرة وصحبة، ﴿ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ﴾ [الكهف: 43].
المخرج من فتنة المال:
1- فهم حقيقة الدنيا:
يأتي المخرج مباشرة بعد القصة، عندما يطالعنا السياق الكريم بتصوير لحقيقة الحياة الدنيا؛ ليستوعبها ويتأملها الذين افتُتنوا بها فجعلوها غاية الحياة التي يعيشونها، فتخلَّوا عن دينهم وعقيدتهم في سبيل تحصيل زينتها ومتاعها، لكن ماذا كانت حصيلتهم في نهاية المطاف؟!
﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 45، 46].
يقول السعدي في تفسيره: "يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أصلًا، ولمن قام بوراثته بعده تَبَعًا: اضرب للناس مثل الحياة الدنيا ليتصوروها حقَّ التصور، ويعرفوا ظاهرها وباطنها، فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية، ويُؤثِروا أيهما أولى بالإيثار، وأن مثل هذه الحياة الدنيا، كمثل المطر، ينزل على الأرض، فيختلط نباتها، تنبت من كل زوج بهيج، فَبَيْنَا زهرتُها وزخرفها تسر الناظرين، وتُفرح المتفرجين، وتأخذ بعيون الغافلين، إذ أصبحت هشيمًا تذروه الرياح، فذهب ذلك النبات الناضر، والزهر الزاهر، والمنظر البَهِيُّ، فأصبحت الأرض غَبْرَاءَ ترابًا، قد انحرف عنها النظر، وصدف عنها البصر، وأوْحَشَتِ القلب، كذلك هذه الدنيا، بينما صاحبها قد أُعجب بشبابه، وفاق فيها على أقرانه وأترابه، وحصَّل درهمها ودينارها، واقتطف من لذَّتِه أزهارها، وخاض في الشهوات في جميع أوقاته، وظن أنه لا يزال فيها سائر أيامه، إذ أصابه الموت أو التَّلف لماله، فذهب عنه سرورُه، وزالت لذَّتُه وحُبورُه، واستوحش قلبه من الآلام، وفارق شبابه وقوته وماله، وانفرد بصالح أو سيئ أعماله، هنالك يَعَضُّ الظالم على يديه، حين يعلم حقيقة ما هو عليه، ويتمنى العودَ إلى الدنيا، لا ليستكمل الشهوات، بل ليستدرك ما فرط منه من الغفلات، بالتوبة والأعمال الصالحات، فالعاقل الجازم الموفَّق يَعرِض على نفسه هذه الحالة، ويقول لنفسه: قدِّري أنكِ قد مِتِّ، ولا بد أن تموتي، فأي الحالتين تختارين؟ الاغترار بزخرف هذه الدار، والتمتع بها كتمتُّع الأنْعَامِ السَّارِحَةِ، أم العمل لدار أُكُلُها دائم وظلُّها، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين؟ فبهذا يُعرَف توفيق العبد من خِذْلانه، ورِبْحُه من خسرانه".
2- اليقين بالحساب يوم القيامة:
وبعد عرض حقيقة الحياة الدنيا على كل ذي لُبٍّ، تعرض الآيات مشاهد يوم القيامة؛ الموعد الذي لا يمكن أن يخلفه مخلوقٌ خلقه الله في هذا الكون، وكأنها تنبِّه كل من فُتِنَ في هذه الدنيا إلى أن هناك مستقَرٍّ ينتظرك، وما تسعى فيه وتبيع في دينك وتشتري من أجله ما هو إلا دارُ عبورٍ.
﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 47 - 49].
فاعلم أيها العبدُ الذي رهنت نفسك لدنيا فانية، وأشبعت شهواتك منها ما شاء لك الله أن تشبع، وعمِرتَ فيها ما شاء الله لك أن تُعمَّر - أنك لا بد ميت، ولا بد مبعوث، ولا بد ملاقٍ حسابك.
ومن استوعب هاتين الفكرتين وأيقن بهما، هانت عليه ثروات الدنيا كلها، وعلِم أن الكَنزَ الحقيقي الذي يملكه هو دينه وعقيدته، فعاش من أجلها، وجاهد فيها، ومات عليها وذلك الفوز العظيم، اللهم اجعلنا من أهله.
3- فتنة العلم، موسى والرجل الصالح:
الفتنة:
وقصة موسى مع العبد الصالح مبدؤها أن موسى عليه السلام وقف خطيبًا في بني إسرائيل فسُئِلَ: أيُّ الناس أعلم؟ فقال: أنا، فَعَتَبَ الله عليه إذ لم يرُدَّ العلم إليه، فأوحى الله إليه أن عبدًا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك.
أخرج البخاري عن أُبَيِّ بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قام موسى خطيبًا في بني إسرائيل، فقيل له: أي الناس أعلم؟ قال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرُدَّ العلم إليه، وأوحى إليه: بلى عبدٌ من عبادي بمجمع البحرين، هو أعلم منك، قال: أي رب، كيف السبيل إليه؟ قال: تأخذ حوتًا في مكتل، فحيثما فقدتَ الحوت فاتبعه، قال: فخرج موسى ومعه فتاه يوشع بن نون، ومعهما الحوت حتى انتهيا إلى الصخرة، فنزلا عندها، قال: فوضع موسى رأسه فنام - قال سفيان: وفي حديث غير عمرو، قال: وفي أصل الصخرة عينٌ يُقال لها: الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حَيِيَ، فأصاب الحوت من ماء تلك العين - قال: فتحرك وانسل من المكتل، فدخل البحر فلما استيقظ موسى قال لفتاه: ﴿ آتِنَا غَدَاءَنَا ﴾ [الكهف: 62] الآية، قال: ولم يجد النَّصَبَ حتى جاوز ما أُمر به، قال له فتاه يوشع بن نون: ﴿ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ﴾ [الكهف: 63] الآية، قال: فرجعا يقصَّان في آثارهما، فوجدا في البحر كالطاق ممر الحوت، فكان لفتاه عجبًا، وللحوت سربًا، قال: فلما انتهيا إلى الصخرة، إذ هما برجل مسجًّى بثوب، فسلَّم عليه موسى، قال: وأنَّى بأرضك السلام، فقال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدًا؟ قال له الخَضِرُ: يا موسى، إنك على عِلْمٍ من عِلْمِ الله علَّمكه الله لا أعلمه، وأنا على عِلْمٍ من عِلْمِ الله علَّمنيه الله لا تعلمه، قال: بل أتبعك، قال: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرًا، فانطلقا يمشيان على الساحل، فمرَّت بهم سفينة، فعرف الخضر فحملوهم في سفينتهم بغير نَولٍ - يقول بغير أجر - فركبا السفينة، قال: ووقع عصفور على حرف السفينة، فغمس مِنْقَارَه في البحر، فقال الخضر لموسى: ما علمك وعلمي وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره، قال: فلم يفجأ موسى إذ عمد الخضر إلى قَدُومٍ فخرق السفينة، فقال له موسى: قومٌ حملونا بغير نَولٍ، عمدتَ إلى سفينتهم فخرقتها ﴿ لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ ﴾ [الكهف: 71] الآية، فانطلقا إذا هما بغلام يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه فقطعه، قال له موسى: ﴿ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 74، 75] إلى قوله: ﴿ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ﴾ [الكهف: 77] - فقال بيده: هكذا - فأقامه، فقال له موسى: إنا دخلنا هذه القرية فلم يضيفونا ولم يطعمونا، ﴿ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 77، 78]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ودِدْنا أن موسى صبر حتى يُقَصَّ علينا من أمرهما)).
المخرج من فتنة العلم:
1- النزول عند حقيقة أن العلم ليس حكرًا على أحد، ولا يمكن أن يبلغ منتهاه أحد، بل هو مِنَّةٌ من الله يؤتي منها من يشاء بالقدر الذي يشاء.
ولْيَعْلَمْ كلُّ مَن يرى في نفسه عالم العلماء أن فوق كل ذي علم عليم، وأنه لا بد في الوجود من آتاه الله من العلم ما لم يؤتَ هو، فلا يغترَّ بشر بعلمه، ولا يتكبر.
فهذا موسى عليه السلام كليم الله، وهو بعد ذلك رسول من أولي العزم، بل إن الله آتاه من الآيات ما دحر به السحرة وسِحْرَهم وعلومهم، قد أخبره الله: أن يا موسى لا تغتر بعلمك هذا كله، فهناك من هو أعلم منك: ((قام موسى خطيبًا في بني إسرائيل فقيل له: أي الناس أعلم؟ قال: أنا، فَعَتَبَ الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، وأوحى إليه: بلى، عبد من عبادي بمجمع البحرين، هو أعلم منك، قال: أي رب، كيف السبيل إليه؟)).
لم يتكبر موسى على هذه الحقيقة التي أخبرها بها ربه، بل ما كان منه إلا أن أسرع ليلتقي بذلك العبد الذي أخبره الله عنه، ويلفتنا في الحديث قوله جل وعلا: (عبد من عبادي)، ولم يقل: عالم من عبادي، فمهما بلغ الإنسان من علم، فلن يتجاوز مستوى عبوديته لله الواحد القهار، سبحانك ربي!
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ﴾ [الكهف: 60، 61]، وكانت هذه هي العلامة.
﴿ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ﴾ [الكهف: 62 - 64].
قال ابن كثير: "﴿ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ﴾ [الكهف: 63]، قال: فكان للحوت سربًا، ولموسى وفتاه عجبًا، فقال: ﴿ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ﴾ [الكهف: 64]، قال: فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجًّى بثوب، فسلَّم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام، قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدًا، ﴿ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 67]، يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه، لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، فقال موسى: ﴿ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴾ [الكهف: 69]، قال له الخضر: ﴿ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ﴾ [الكهف: 70].
يتبع