الموضوع: أندلسية - شوقي
عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 30-08-2023, 10:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,500
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أندلسية - شوقي


ومطلع لسعود من أواخرنا
ومغرب لجدود من أوالينا

فهذا كلام عام، عباراته محفوظه، فقدت قوتها من كثرة التَّحاتِّ بالاستعمال، وأصبحت كالكلام المجرد، وعبثًا يحاول الشاعر، عن طريق المحسنات البديعية، أن يبث فيها نفَسًا شعريًّا فلا يستطيع، فإن هذه المحسنات إنما تحدث أثرَها المنشود إذا تضافرت معها بقيةُ عناصر الفن الشعري، فعند ذلك تأتي بالأعاجيب، كما هي الحال في نونية ابن زيدون مما سبق ذكره عند تحليلها.

ثم إني أعالج أن أتخيل لمصر جوانبَ وحافاتٍ ترف عليها التمائمُ، وتقوم عليها الرواقي (المربيات)، فلا أقدر، فهل من يقدر؟

وحتى لو كانت لمصر حافاتٌ قامت عليها هؤلاء الرواقي، أفلا يخاف الشاعر أن تزل أقدامهن عنها فيسقطن؟

سيقال: إن المقصود هو لازم هاتين الصورتين، لا الصورتان أنفسهما، وهذا في الحقيقة يؤيد رأيي الذي سلف لتوه، من أن هذه الصورة قد تحولت إلى ما يشبه الكلام المجرد الخالي من النَّفَسِ الشعري، وبخاصة أنها تخلو من أيِّ معنى يغني القصيدة، إذ كل معناه هو أنه تربَّى في مصر.

والآن إلى محاسن القصيدة:
وأولى هذه المحاسن هي الأبيات التي استهل بها الشاعر قصيدته، والتي يوجه فيها الخطاب للطائر المهيض الجناح، إن الشاعر يضعنا، كما فعل ابن زيدون من قبله، في قلب المأساة مباشرة، ولو أنه لجأ إلى التمهيد لها لجاء الكلام فاترًا، كذلك فإنه، حين يتوجه بالخطاب إلى طائر لا لإنسان مثله، ينجح في أن يستثير عواطفنا ويستدرَّ عطفنا، إذ معنى ذلك أنه بلغ من غربته في تلك الديار، التي نُفي إليها، أنه لا يجد مخلوقًا بشريًّا واحدًا يستطيع أن يفضي إليه بذات نفسه، بل إن هذا الطائر لا يرجع إليه قولًا، مما يؤكد معاني الغربة والانقطاع اللذين يقاسيهما الشاعر في منفاه.

ومع ذلك فما أحلى هذه العلاقة بين الإنسان والطير متمثلة في الشاعر وطائره المهيض! ألسنا كلنا قد صنعتنا يد المولى سبحانه، وفينا مشابه بعضنا من بعض، وإن اختلفت منا الأجناس؟

وفضلا عن هذا، فإن الطيور - وبخاصة إذا كانت من نوع ذلك الطائر الذي تصوره الأبيات - هي مخلوقات ضعيفة هشة، فإذا هيض جناح واحد منها أو كسرت ساقه، ولم يعد يستطيع الطيران في فضاء الله الواسع، الذي كأنما خلق خصِّيصى له ليخفق في أجوازه بجناحيه، ويرسل في جنباته الفسيحة بزقزقاته الطروب، أُفْعِمَتْ قلوبنا بالأسى الشديد، فإذا جاء الشاعر بعد ذلك كله وأقام بينه وبين طائر في محنة كهذه أخوةً هي أخوة الغربة (أخا الغريب) فإن أسانا يرتد إليه ويفيض عليه هو أيضًا.

إننا نحزن حزنين: حزنًا له، وحزنًا لأخيه «الصغير» في الغربة، انظر كيف أن اليد التي هاضت جناح هذا هي اليد نفسها التي جالت في حواشي ذاك، وكيف أن الشاعر ليس بحاجة إلى نواح الطائر كي يدرك مبلغ ألمه، فإنه هو أيضًا قد اكتوى باللهيب نفسه:
ماذا تقص علينا غير أن يدًا *** قصت جناحك جالت في حواشينا؟
وتأمل مليًّا كيف يختزل الشاعرُ الكائنَ الذي أفرغ العذابَ عليه هو وطائره الكسير الجناح إلى "يد" إذ هي أداة التعذيب، فهو لا يبصر سواها، وانظر كيف نَكَّرَ «يدًا»، إذ هو لا يدري أيُّ يد تلك؟ ولا من أي جهة امتدت إليهما، وهل من أحد يستطيع معرفة من أين تمتد يد القدر؟ وحين يريد أن يصفها ليزيل عنها بعض التنكير لا يجد إلا هذه الصفة: "قصت جناحك"، فهو لا يعرف عن هذه اليد شيئًا إلا أنها أداة إيذاء، ثم تَأَمَّلْ الفعل «جال» في قوله: «جالت في حواشينا»، وهو يدل على أن هذه اليد قد أوقعت به ما أوقعت من إيذاء في حرية تامة لا تبالي بشيء، ولا يعوقها شيء.

أما البيت التالي:
تجر من فنن ساقا إلى فنن *** وتسحب الذيل ترتاد المؤاسينا
فإنه يجسِّم لنا عجز الطائر، فهو «يَجُرُّ» ساقَه، وهو «يسحب» ذيله، وهو أيضًا يبحث عمَّن يمكن أن يؤاسيه ويخفف عنه جراحات جسمه ونفسه.

وإلى جانب هذا البيت، الذي هو وحدَه لوحة مبدعة، هناك هذان البيتان اللذان يعد كل منهما حكمةً من الحكم الغوالي التي اشتهرَ بها شوقي عليه رحمات الله:
فإن يك الجنس يا بن الطلح فرقنا *** إن المصائب يجمعن المصابينا
(وما أحلى ورود جملة جواب الشرط الاسمية هنا من غير الفاء، هكذا بثقة واقتدار).
أساة جسمك شتى حين تطلبهم *** فمن لروحك بالنطس المداوينا؟

وإذا كانت أبيات الاستهلال (ما عدا البيت الذي سبق انتقاده: «رمى بنا البين أيكا...» هي كلها أبياتًا جميلة، فإن مجموعة الأبيات التي تليها، والتي يتحدث فيها عن الأندلس وعن حب مصر له وحنانها عليه تقصر عنها تقصيرًا ملحوظًا (وقد سبق أن فصلنا القول في ذلك) حاشا البيتين الآتيين:
كادت عيون قوافينا تحركه
وكدن يوقظن في الترب السلاطينا
لكن مصر وإن أغضت على مقة
عين من الخلد بالكافور تسقينا


ويمكن أن نضيف إليهما هذا البيت:
كأم موسى، على اسم الله تكفلنا *** وباسمه ذهبت في اليم تلقينا
الذي سبق أن انتقدته لمناقضته للواقع، والذي حين أقول هنا: إنه بيت جميل، لا أكون مناقضًا لنفسي، فإن جماله - في نظري - ينبع منه هو نفسه منفصلًا عن الواقع. وجماله يتمثل فيما يتضمنه من تشبيه بارع، وفي الإيحاءات النفسية العميقة التي يشعُّها هذا التشبيه، إذ يريد الشاعر أن يلمح من طرف خفي إلى أن مصر تحبه حبًّا يفطر منه الأكباد، بالضبطِ كما كانت أم موسى تحب ابنها عليه السلام، وإلى أن نفيه، وإن بدا في ظاهر الأمر رميًا له في قلب المعاطب، هو في حقيقته وحي إلهي أراد الله به أن يظهر قدرته سبحانه على إنقاذ عبده، لا بإبعاده عن موارد الهلاك، بل بإلقائه في صميمها، وانظر كيف يوجز التشبيه أولًا في هذه الكلمات الثلاث القصيرة: "كأم موسى"؛ ليثير منا الفضول إلى معرفة ماذا يعني، ليعود فيفصل القول في هذا التشبيه، وانظر كذلك تكريره لـ«اسم الله»، شأن من يتلذذ بمصِّ قطعة من الحلوى، فهو يقلبها في فمه ويضن بها أن يمضغها، ويفرغ من استمتاعه بها دفعة واحدة، وتأمل كيف نوَّع حرف الجر الذي يسبق الاسم الكريم؛ ليريك إياه في كل مرة في ضوء جديد، فهو مرة «على» وهو مرة «الباء»، وكيف ابتدأ الجملتين الفعليتين بهذا الاسم الكريم، فيكون هذا الاسم الكريم هو أول ما تتلقاه أذنك أو عينك في المرتين؛ لبعث الطمأنينة في نفسك.

ونأتي إلى مجموعات الأبيات الثلاثة التالية فيعجبنا ما فيها من نداءات تبتدئ كل مجموعة بنداء منها، وإعجابنا بهذه النداءات ينهض، فيما ينهض عليه، على تذكيرها إيانا بنداءات ابن زيدون في قصيدته العصماء، غير أن نداءات ابن زيدون هي أحسن منها كثيرًا كثيرًا، فهي تتتابع علينا حتى لتبهرَ منَّا الأنفاس، وهو يتفنن فيها حين يظل في ظاهره ينادي عناصر الطبيعة، وإذا به فجأة يتحول إلى نداء حبيبة فؤاده بعبارة مما يستخدمها في نداء تلك العناصر (مما سبق تحليل تأثيره في دراستنا للنونية).

كذلك، ففي حديثه إلى البرق الساري، وإلى نسمة الوادي المعطرة التي هبت سحرًا أصداءٌ من أبيات الشريف الرضيِّ عن ذلك السهم العجيب الذي انطلق من «ذي سلم» ليستمرَّ في انطلاقه حتى يصيبَ منه الفؤاد وهو بالعراق، إنها الرحلة العجيبة نفسها يقطعها في أبيات الشريف الرضيِّ سهم، ويقطعها هنا مرة «ساري البرق» ومرة «معطرة الوادي»:
يا ساري البرق...................
..............................
باللهِ إنْ جُبْتَ ظلماءَ العُباب على
نجائبِ النور مَحْدُوًّا (بجبرينا)
تردُّ عنك يداه كلَّ عاديةٍ
إنسًا يعثن فسادًا أو شياطينا
حتى حَوَتْكَ سماءُ النيل عالية
على الغيوثِ، وإن كانت ميامينا
وأحرزتك شُفُوفُ اللازوَرْدِ على
وشيِ الزَّبَرْجَدِ من أفوافِ وادينا
وحازكَ الريف أرجاءً مؤرَّجَةً
رَبَتْ خمائِلَ، واهتزَّت بساتينا
فقف إلى النيل................
................................


(وأحب لك أن تتملَّى، على مهل، التحولات التي تعرو هذا البرق الساري على طول رحلته تلك العجيبة، فهو في البداية يجوبُ ظلماءَ العباب على نجائب النور، لتحويه بعد ذلك سماءُ النيل، ليسقط مطرًا تحيا به الأرض وتربو النباتات والأزهار بألوانها المونعة البديعة، مما عبر عنه الشاعر بهذه الصورة الفاتنة «وأحرزتك شفوف اللازورد على وشي الزبرجد...» و«حازك الريف أرجاء مؤرجة...»).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 24.14 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 23.51 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.60%)]