عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 24-08-2023, 04:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,435
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ميمية المتنبي في عتاب سيف الدولة


أنامُ مِلْءَ جُفُوني عن شوارِدِها
ويَسْهَرُ الخلقُ جرَّاها ويَختَصِمُ
وجاهلٍ مدَّه في جهلِه ضَحِكي
حتى أتَتْه يدٌ فرَّاسةٌ وفَمُ
إذا رأيتَ نيوبَ الليث بارزةً
فلا تَظُنَّنَّ أنَّ الليثَ يبتَسِمُ
ومُهجةٍ مُهجتي مِن هَمِّ صاحبِها
أَدركْتُها بجَوادٍ ظَهرُه حَرَمُ
رِجلاه في الرَّكضِ رِجلٌ واليدانِ يدٌ
وفِعلُه ما تريدُ الكفُّ والقَدَمُ
ومُرهفٍ سِرتُ بين الجَحْفَلينِ بهِ
حتى ضَربتُ وموجُ الموتِ يَلتَطِمُ
فالخيلُ والليلُ والبيداءُ تَعْرِفُني
والحربُ والضربُ والقِرطاسُ والقَلَمُ
صَحِبتُ في الفَلواتِ الوحشَ مُنفردًا
حتى تعجَّب مني القُورُ والأَكَمُ

وليس بالسهلِ أن ترمي هذا الشعرَ بأنه مجرد كلام، فقد كان المتنبي يَعنيه، وكان يريد به أن يَفهَم أعداؤه مِن حاشية الأمير أنه يَحتقِرُهم ولا يَعُدُّهم أندادًا له، وفيهم مَن يَمُتُّ إلى هذا الأمير بصِلة القربى، بل أَعِدِ النظرَ كرَّةً أخرى إلى البيت الأول من هذه الأبيات، تجِدْ أنه لم يَستثنِ أحدًا ممَّن كانوا في ذلك المجلس ولا سيف الدولة نفسه:
سيَعلَمُ الجمعُ ممَّن ضمَّ مَجلِسُنا *** بأنَّني خيرُ مَن تسعى بهِ قَدَمُ

صحيحٌ أن الأبيات التي تلي ذلك قد تُوحِي بأنه يعني أعداءَه، لكن يَبقى بعد ذلك أنه حين أطلَق هذه الصيحة لم يتحوَّطْ ولم يَخَفْ، ولم يَستثنِ ولم يعتذِرْ، فهل ثَمَّةَ نفسيةٌ بين شعراء العصر - أو أي عصر آخر - بلغتْ من التماسك والجَراءة والثقة هذا المبلغ؟!

إن الشعور بالكرامة الذاتية مطلوبٌ ومحبوبٌ في كل زمان ومكان، وإن النفوس النبيلةَ لتَستعذِبُه وتَستزيده، وإنها لتُكبِر كلَّ مَن يضع نفسَه عن جدارة واستحقاق في هذا المحل الأرفع، ولا شك أن المتنبي كان ذا همةٍ رفيعة ومواهبَ سامقةٍ تُطاول النجومَ، ومِن ثمة حُقَّ له الإدلالُ بنفسه على هذا النحو الملهم العجيب!

ولا يقلُّ عن ذلك سموًّا معاتبتُه لسيف الدولة وتهديدُه من طرفٍ خفي بلَغ الغاية القصوى في البراعة واللباقة، بأنه سيتركه، فهو يشتدُّ ويَلين، ويُؤلِم ويَأْسو، تأمَّل كيف يتدسَّس إلى نفس ممدوحه على هذا النحو العجيب مِن التودُّد:
يا مَن يَعِزُّ علينا أن نُفارِقَهم *** وِجْدانُنا كل شيءٍ بعْدَكُمْ عَدَمُ

ليَعْقُبَه بهذا العتاب الذي لا يَخلو من شدة:
ما كان أَخلقَنا منكم بتَكرِمَةٍ *** لو أنَّ أمرَكُمُ مِن أمرِنا أَمَمُ

«ولاحِظْ إشارته إلى نفسه في الحالتين بضمير الجمع، مُسوِّيًا في هذا بين نفسه وبين سيف الدولة»، وبعد ذلك يعود فيَلِين متودِّدًا:
إن كان سرَّكمُ ما قال حاسدُنا *** فما لجُرحٍ إذا أرضاكمُ أَلَمُ

ومع هذا لا يَدَعُ الفرصةَ تمرُّ دون أن يَخِزَ ممدوحه وَخزةً خفيفةً أولَ الأمر:
وبيننا لو رعيتُم ذاك مَعْرفةٌ *** عن المعارفِ في أهلِ النُّهى ذِمَمُ

ثم شديدةً بعد ذلك:
كم تَطلُبونَ لنا عيبًا فيُعْجِزُكمْ
ويَكرَهُ اللهُ ما تأتون والكَرَمُ
ما أبعدَ العيبَ والنقصانَ مِن شرفي
أنا الثُّريا وذانِ الشيبُ والهَرَمُ


ليعودَ فيَلِين ويتمنَّى:
ليتَ الغمامَ الذي عندي صواعقُه *** يُزيلُهنَّ إلى مَن عندَه الدِّيَمُ

ثم يُلوِّح بالتهديد بأنه إن لم يتغيَّر موقفُ سيف الدولة منه، فسوف يجد نفسه مضطرًّا إلى التحوُّل عنه:
أرى النَّوى يَقتضيني كلَّ مرحلةٍ
لا تَستقلُّ بها الوخَّادةُ الرُّسُمُ
لئنْ تَرَكْنَ ضميرًا عن ميامِنِنا
ليَحْدُثَنَّ لِمَنْ ودَّعتُهم نَدَمُ


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 19.33 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 18.71 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.25%)]