عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 24-08-2023, 12:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,520
الدولة : Egypt
افتراضي رد: البحتري في وصف إيوان كسرى


مُزْعَجًا بالفِراقِ عن أُنْسِ إِلْفٍ
عَزَّ أو مُرْهَقًا بِتَطْليقِ عِرْسِ

♦ ♦ ♦

عُمِّرَتْ للسُّرُور دهْرًا فَصَارتْ
للتَّعزِّي رِبَاعُهُمْ والتَّأَسِّي
فلَها أنْ أُعِينَها بدُموعٍ
مُوقَفَاتٍ على الصَّبَابَةِ حُبْسِ
ذَاكَ عندِي وليْستِ الدَّارُ دارِي
باقتِرابٍ منها ولا الجِنْسُ جِنْسِي

فإن صحَّ استنباطُنا هذا، يكن هذا البيت الأخير وَخْزةً أخرى مِن وَخزات البحتري، وكأنه يقول: إنه إذا كان هذا هو موقفي من إيوان كسرى الذي أقامه هذا الإمبراطور الفارسي في بلاد لا أَمُتُّ إليها ولا إلى أهلها بأية وشيجةٍ، فكيف يكون موقفي مما حدث للمتوكل وهو الحاكم العربي المسلم، ولقصره المقام في بلد عربي مسلم؟!

وتأمل هذا البيت ثانية:
فلَها أنْ أُعِينَها بدُموعٍ *** مُوقَفَاتٍ على الصَّبَابَةِ حُبْسِ
فهل تظن أن البحتري قد بلغ به حبُّ هذا القصر وبانيه، وحزنُه على ما آل إليه أمره بعد هذا الزمن المتطاول - إلى حدِّ أن يَبكيهما بهذه الدموع الحرَّى، هذه الدموع التي يقول: إنه قد وقفها على "الصبابة"، أم هل كان البحتري يقصد قصر المتوكل، ولكنه كنَى عنه بالإيوان؟!

ثم ألا يُمكننا أن نرى في الأبيات الآتية قدحًا في الجند الترك الذين بدل أن يشدوا الملك العربي - كما كان الأَحْرَى بهم أن يفعلوا - قد اغتالوا خليفتهم اغتيالًا خسيسًا، وذلك على عكس الفرس الذين عضدوا ملك العرب مرتين: مرة قبل الإسلام ومرة بعده؟!

ذَاكَ عندِي وليْست الدَّارُ دارِي
باقتِرَابٍ منها ولا الجِنْسُ جِنْسِي
غيرَ نُعْمَى لأهلِها عندَ أهلِي
غَرَسُوا مِن زَكائِها خيرَ غَرْسِ
أيَّدُوا مُلْكَنا وشَدُّوا قُوَاهُ
بحُماةٍ تحتَ السَّنَوَّرِ حُمْسِ
وأعَانوا على كَتَائبِ أَرْيَا
طَ بِطَعْنٍ على النُّحُورِ ودَعْسِ


كذلك أليس البيت الذي يلي هذه الأبيات والذي تختتم به القصيدة وهو:
وأَرَاني مِنْ بعدُ أَكْلَفُ بالأَشْـ *** ـرَافِ طُرًّا منْ كلِّ سِنْخٍ وجِنْسِ
تعريضًا بنَذالة الجند الأتراك وحقارة ما صنعوه بوليِّ نعمتهم، والدَّرْك الذي تسفَّل إليه المنتصر إذ تواطأَ مع مثل هؤلاء الجند على قتل أبيه؛ ليَخلوَ له وجهُ الحُكم والسلطان؟! وتكون القصيدة قد رجعتْ بذلك البيت عودًا على بَدء، ففي أولها يتمدَّح الشاعر بأنه لا يمدُّ يده إلى أي خسيس جبان:
صُنْتُ نفسي عما يُدنِّس نَفْسِي *** وترفَّعْتُ عن جَدَا كلِّ جِبْسِ
وفي نهايتها يَفتخر بأنه يُجِلُّ الأشرافَ ذوي المُروءة والهِمة العالية مهما يكن جنسهم:
وأَرَاني مِنْ بعدُ أَكْلَفُ بالأَشْـ *** ـرَافِ طُرًّا منْ كلِّ سِنْخٍ وجِنْسِ
القصيدة إذًا تعالج موضوعًا واحدًا هو تقلُّب صروف الدهر على الكائنات جميعًا من بشرٍ وحَجَرٍ، ويُخيم عليها جو نفسي واحد هو جو الأسى العميق، الذي تناسبه قافية السين بهمسها ووَسْوَستِها، فهذا سببٌ من أسباب قوة هذه القصيدة وجمالها وتأثيرها، وسببٌ آخر هو ما فيها من حرارة الصدق، فقد كان الشاعر يعيش في دَعة ورفاهية في ظل المتوكل، ثم إذا بهذا الخليفة يُغتالُ أمام عينيه، فيَنظِمُ قصيدة كأن كلماتها مِن ضِرام يَحمِلُ فيها على مَن قتَلوه، ويُعرِّض بولي العهد تعريضًا يَقرُب أن يكون تصريحًا، وعندما يلي وليُّ العهد الخلافةَ، فإن أقل ما يتوقَّع في هذه الحالة أن يتَّجه للشاعر؛ مما يَحمِله على ترك بغداد والرحيل إلى المدائن؛ ليتأسَّى عن مصيره بما أصاب إيوان كسرى الذي كان ملءَ السمع والبصر والألسنة، فإذا به قد هجَره الأنس وبات مَنْعِقًا للبوم، ورَنَّةُ الحزن والأسى واضحةٌ في هذه الأبيات التي يصوِّر فيها الشاعر انقلاب أحواله:
وتَماسكْتُ حين زَعزَعني الدَّهْـ
ـرُ الْتِماسًا منه لِتَعْسِي وَنَكْسِي
بُلَغٌ مِن صُبابةِ العيشِ عندي
طفَّفتْها الأيامُ تَطفيفَ بَخْسِ
وبعيدٌ ما بينَ واردِ رَفْهٍ
عَلَلٍ شُرْبُه ووَارِدِ خِمْسِ
وكأنَّ الزمانَ أصبحَ مَحْمو
لًا هواهُ مع الأخَسِّ الأخَسِّ

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 20.55 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 19.92 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.06%)]