عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 23-08-2023, 11:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,140
الدولة : Egypt
افتراضي رد: البحتري في وصف إيوان كسرى


وقوله عن الإيوان:
عَكَستْ حظَّهُ الليالي وباتَ الـ
ـمُشْتَرى فيهِ وَهْوَ كوكبُ نَحْسِ
فَهْوَ يُبْدِي تَجلُّدًا وعلَيْهِ
كَلْكَلٌ مِنْ كَلاكِلِ الدَّهْرِ مُرْسي
لم يَعِبْهُ أنْ بُزَّ من بُسُطِ الدِّيـ
ـبَاجِ واسْتُلَّ مِنْ سُتُورِ الدِّمَقْسِ
مُشْمَخِرٌّ تَعلو له شُرُفاتٌ
رُفِعتْ في رؤوسِ رَضوى وقُدْسِ


ألا ترى أن الأمور واحدة هنا وهناك، وأن الإيوان وما وقَع له مِن نَكبات، إنما يَعكِس ما أصاب الشاعر مِن نَكسات، "وذلك بعد مقتل المتوكل الخليفة العباسي الذي كان يُقرِّب البحتري إليه، فخرَج عليه جماعة مِن جنده الأتراك بتواطُؤ مع ابنه المنتصر، حين خاف أن تَخرُج الخلافة من يده بعد أن تغيَّر قلبُ أبيه عليه، وقتَلوه بمرأى من البحتري"، فالشاعر قد زعَزعه الدهر محاولًا أن يُتعس حياته، وأن يَقلِب حظَّه رأسًا على عَقِبٍ، ولكنه تماسَك أمام هذه الزعازع، وصان نفسَه عما يدنِّسها وينال مِن نُبلها ورِفعتها، ولم يَمُدَّ يدَه للنَّذْل الدنيء، والإيوان قد عكَست حظَّه الليالي، ولكنه تجلَّد أمام مصائب الدهر، وبقِي كما كان مُشْمَخِرَّ البُنيان سامقَ الشُّرفات، يُناطح الجبال رِفعةً وجلالًا.

ولهذا التشابه في المصير وجَّه الشاعر دابتَه إلى هذا الإيوان يتملَّى ما أوقعه الدهر به؛ ليتعزَّى عما أصابَه هو:
حَضَرَتْ رَحْلِيَ الهمومُ فوجَّهْـ
ـتُ إلى أبْيضِ المدائنِ عَنْسِي
أتَسلَّى عن الحُظُوظِ وآسَـى
لِمَحَلٍّ من آل ساسانَ دَرْسِ
ذَكَّرَتْنِيهمُ الخُطُوبُ التَّوَالي
ولَقَدْ تُذْكِرُ الخطوبُ وتُنْسِي


وأيَّةُ خطوبٌ؟! لقد كان البحتري في معيَّة الخليفة حين باغتَه الجندُ الأتراك وقتَلوه، وقتلوا وزيره الفتح بن خاقان، وذلك كله بتحريض من المنتصر ولي عهد المتوكل وابنه، ولعل البحتري كان يقصد المنتصر هذا حين قال في مطلع القصيدة:
صُنْتُ نفسي عما يُدنِّس نَفْسي *** وترفَّعْتُ عن جَدَا كلِّ جِبْسِ
فقد قال فيه قبل ذلك في رائعته التي رثَى فيها المتوكل:
أكان وَليُّ العهدِ أضمَرَ غَدْرةً
فَمِنْ عَجَبٍ أن وُلِّيَ العهدَ غادِرُهْ
فلا مُلِّيَ الباقي تراثَ الذي مضى
ولا حَمَلَتْ ذاك الدعاءَ منابرُهْ
ولا وَأَلَ المشكوكُ فيهِ ولا نَجَا
مِن السيفِ ناضِي السيفِ غَدرًا وشاهِرُهْ


فإذا صحَّ هذا الاستنتاجُ، فينبغي ألا تَخدَعَنا لهجةُ العِتاب في البيت التالي:
ولقد رَابَني نُبُوُّ ابنِ عَمِّي *** بَعْدَ لِينٍ مِن جانِبَيه وأُنْسِ

فإن البيت الذي يتلو ذلك مباشرة هو:
وإذا ما جُفِيتُ كنتُ حَرِيًّا *** أَنْ أُرَى غيرَ مُصْبحٍ حَيْثُ أُمْسِي
وليس هذا بالكلام الذي يقال لخليفة يدعوه الشاعر "ابن عمه"، كلُّ ما في الأمر أن الشاعر - إذا صحَّ استنتاجُنا - لم يشأ أن يُعاودَ الحملة العنيفة على "المنتصر" جهارًا نهارًا؛ كما فعل في قصيدته السالفة الذكر، وبخاصة بعد أن هدأتْ ثائرتُه لِما ارتكبَه وليُّ العهد من خيانة وغدرٍ، وبعد أن أصبَح ولي العهد هذا خليفةً، فأطلق القولَ مبهمًا عامًّا وكأنه لا يَقصِد به أحدًا بعينه.

وما دُمنا بسبيل الاستنباط، فإن من الممكن جدًّا أن نرى في الأبيات التالية التي يصوِّر فيها البحتري ما حلَّ بالإيوان - إشارةً إلى ما حلَّ بقصر المتوكل وساكنيه - بعد اغتياله - مِن أحزان ثقيلة على ما كان يَسوده قبلًا مِن بَهجةٍ وأُنسٍ:

لو تَرَاهُ عَلِمْتَ أنَّ الليالي
جَعَلَتْ فيه مَأْتَمًا بَعْدَ عُرْسِ

♦ ♦ ♦

يُتَظَنَّى من الكآبةِ أنْ يَبْ
دو لِعَيْنَيْ مُصَبِّحٍ أَو مُمَسِّي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 20.44 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 19.81 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.07%)]