عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 24-08-2023, 12:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,352
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ابن الرومي في رثاء ابنه محمد


وظلَّ على الأيدي تَسَاقَطُ نفسُه
ويَذوي كما يَذوي القضيبُ مِن الرَّنْدِ
فيا لكَ مِن نفسٍ تَساقَطُ أنفُسًا
تَساقُطَ دُرٍّ مِن نظامٍ بلا عِقْدِ!


وأرجو أن تقفَ أمام قوله: "وظل على الأيدي تساقط أنفسا"، وما يَستحضره في الذهن مِن سهر أهله عليه وقد أحاطوا به وقلوبُهم واجفةٌ، وهم يرون أنفسهم عاجزين تمامًا عن أن يَمُدُّوا إليه يدَ العون، ورُوحه تُغادر جسده شَهقةً شَهقةً، وحُمرة الحياة تُفارق خَدَّيه أمام صُفرة الموت، أليس ذلك مما تَطيش له العقولُ إلا مَن عصَم ربُّك؟!

وأرجو أن تقِف مرة أخرى أمام هذه الصور، ولاحظ كيف حين شبَّهه قد شبَّهه بأشياءَ صغيرة رقيقة هَشَّة، لا تحتمل العنف ولا القسوة، ولا تستطيع أن تَرُدَّ عن نفسها عواديَ الأيام كالزهرة والريحانة، ولاحظ أيضًا أنه - وهو يتذكَّر ابنه الحبيب - يتمهَّل أمام أمور قد تبدو في ظاهرها أمورًا غير ذات بالٍ، ولكنَّ دَلالاتها - لمن يتعمَّق النظر، ويَعرِف طبيعة الحياة والنفس البشرية - دلالاتٌ كبيرة:
كأنِّيَ ما اسْتَمْتَعْتُ منْك بضمَّةٍ *** ولا شَمَّةٍ في مَلعبٍ لكَ أو مَهْدِ
فما ضمةٌ أو شَمةٌ عند قُساة القلوب بشيءٍ؛ ولكنها عند الأب الولهان - الأب الذي يُقدِّر ما حبَاه الله به مِن نعمة الأولاد - هي كلُّ شيء، وهل أطفالنا إلا ضمةٌ وشمةٌ ومناغاةٌ وابتسامةٌ؟ أليست هذه الأشياء مما تتضاءل إلى جانبها في نظر الأب المحبِّ الحسَّاس الدنيا وما فيها؟!

وكما أن مثل هذه الأمور الصغيرة في نظرِ العين - الكبيرة في نظرِ الوِجدان - هي التي تجعل للحياة طعمًا وبَهجة، فكذلك قد تَلذَع هذه الأمور القلوبَ وتُلوِّعُها تلويعًا:
أرى أَخَوَيكَ الباقِيَيْنِ كليهما
يكونان للأحزان أَوْرَى مِن الزَّنْدِ
إذا لَعِبَا في مَلعبٍ لكَ لذَّعَا
فؤادي بمثلِ النار عن غيرِ ما قَصْدِ
فما فيهما لي سَلوةٌ بل حَزَازَةٌ
يَهيجَانِها دوني وأَشْقَى بها وحْدي


ومما يزيد تعاطُفَ القارئ مع الشاعر في مصيبته، ويضاعف شعوره بالأسى - أن ما يُذَكِّر الشاعر بفَقْد ابنه لا رؤيتْه أبناءَ الجيران مثلًا يلعبون أمام عينيه؛ مما يمكن أن يكون شعورًا بالحسد لا يتسق ونُبْلَ ما يُحس به مِن مشاعر الأبوَّة، بل رؤيته وَلَدَيْه الآخَرَيْن، وفضلًا عن ذلك فهو لا يحب أن يَحرِم ابنيه هذين من اللعب في حَضرته؛ حتى لا يُشعلا آلامَه من جديد كلما هدَأ أُوارها ولو لبعض الوقت، ولكنه يُضحِّي بأحاسيسه من أجل أن يَلعبا ويتقافَزا ويَمرَحا، ولم يَحرِمْهما من هناءةِ الطفولة، وأعباؤهما مِن الحزن والفقد تنتظرهما عندما يكبران ويُصبح كلٌّ منهما بدوره أبًا! فابن الرومي لا يحب أن يكون أنانيًّا يَسبِق الزمن ويُضيق على ولديه قبل الأوان، من أجل ألا تتضاعفَ غُصَصُه وأشجانُه، وإذًا فلتَهِجْ حزازاتُ نفسه يَصطليها هو وحده ويَشقى بها، وليَظَلَّ هذان العصفوران يطيران ويَحُطَّان هناك وهناك، وهما يُزقزقان في فرحة وسعادة دون أن يَدريا من هموم الدنيا الثقيلة شيئًا!

شيء أخير أحبُّ أن نلتفت إليه، وهو أن الشاعر ظل يتحدث عن ابنه بضمير الغائب، وهو يطلب من عينيه أن تسعفاه بشيءٍ من الدمع قد يُخفف عنه بعضَ حُرقات النار التي تَحرق كبده، ولكنه أبدًا لن يرجع إليه صغيره الحبيبُ، ولكن لَمَّا أن فاض به الكيلُ، ووجد أن ليس شيءٌ من ذلك، ولا مِن تعجُّبه لأفاعيل الزمن وضربات القدر بِمُغنٍ عنه فتيلًا - تَحوَّل إلى ابنه يُكلمه وكأنه موجودٌ معه، يَسمعه ويُمكن أن يرد عليه، وهو ما يوحي بتضاعُف الألم، فهو لا يدرك أن ابنه قد قضى وانتهى، وأن ليس إليه من سبيل، أو كأنه يحاول أن يتغلب على هذه الآلام بتوهُّمه أنه لا يزال معه حيًّا، والبيتان التاليان اللذان حدَثتْ عندهما هذه النقلةُ من ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب يُوضِّحان ما أقول:
ثَكِلتُ سُروري كلَّه إذ ثَكِلتُه
وأصبحتُ في لذَّات عيشي أخَا زُهْدِ
أَرَيْحانةَ العينين والأنفِ والحَشا
ألا ليتَ شِعْري هل تغيَّرتَ عن عهْدي


ففي البيت الأول تراه وقد بلغت آلامُه أقصاها، فأصبحت الحياة في نظره قاتمةَ السواد، ولم يَعُد فيها ما يُغريه بالتعلُّق بها، وفي البيت الثاني نجده ينكفئ إلى ابنه الذي لم يعد في الدنيا مِن بعده سَلوةٌ، فيخاطبه ناسيًا أنه - وقد مات - لا يستطيع أن يَسمعه، بَلْهَ يَفهَمه، فتبدأ بذلك دورة أخرى من العذاب والألم، لا يجد الشاعر مخرجًا منها إلا أن يفيءَ إلى الله يدعوه بأن يُفيض على ابنه فِلذةِ كبدِه السلامَ والسكينة في مثواه، وأن يَسقي قبرَه بماء الغيث؛ حتى يذهب عنه الجَدْبَ والجفاف:
عليكَ سلامُ اللهِ منِّي تحيةً *** ومِن كلِّ غيثٍ صادقِ البرقِ والرَّعْدِ


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 18.93 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 18.30 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.32%)]