عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 23-08-2023, 11:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,201
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ابن الرومي في رثاء ابنه محمد


أرى أَخَوَيكَ الباقِيَيْنِ كليهما
يكونان للأحزان أَوْرَى مِن الزَّنْدِ
إذا لَعِبَا في مَلعبٍ لكَ لذَّعَا
فؤادي بمثلِ النارِ عن غيرِ ما قَصْدِ
فما فيهما لي سَلوةٌ بل حَزَازَةٌ
يَهيجَانِها دوني وأَشْقَى بها وحْدي
وأنتَ وإن أُفْرِدْتَ في دارِ وَحشةٍ
فإني بدارِ الأُنسِ في وَحْشَةِ الفَرْدِ
عليكَ سلامُ اللهِ منِّي تَحيَّةً
ومِن كلِّ غَيْثٍ صادقِ البَرْقِ والرَّعْدِ

تعدُّ هذه القصيدة واسطةَ العِقدِ بين قصائد الرثاء في الشعر العربي، فهي قَبَسٌ من النار التي تَعتلج في قلب أبٍ فقَدَ صغيرَه وهو في عمر الزهور، بعد أن كان يبني الآمال حول مستقبله، ويتخيَّله وقد كبر وملأ الدنيا عليه سعادةً ورضًا، فإذا بيد القدر تَختطفه منه، أو - كما يقول هو - "تَغتصبه"، وهل يستطيع أحد أن يتصدَّى للدهر؟! وهل مَن يُعقب على قضائه؟!

والشاعر لا يُخفي شيئًا من لواعج فؤاده ولا يُحاول، ولكن يكشف لنا الغطاء عن قلبه، فتَتصاعد منه النيرانُ والآلام المبرِّحة، وهو لا يدَّعي شعورًا لا يُحسه، وإنما يعبِّر عما يَصطليه من لهيبٍ تعبيرًا تَشُمُّ منه رائحةُ الضَّعف البشري، ومأساة الإنسان حين يقف عاجزًا مكتوفَ الأيدي أمام ضربة القدر الساحقة، وإذا كان هناك مَن يلوذُ بالإيمان بقضاء الله والرضا بما تأتي به أقدارُه سبحانه، فإن ابن الرومي يَعترِف بصراحة غير مشينة أنه ما كان ليَرضى بفِراق ابنه، حتى لو أُعطِيَ في مقابله الخلودَ في جنات النعيم:
وما سرَّني أن بِعْتُه بثوابِه *** ولو أنَّه التخليدُ في جَنةِ الخُلْدِ
وكاتبُ هذه السطور لا يرى في هذا الكلام تمردًا على قضاء الله، بل ضَعفًا بشريًّا لا أظن عفو الله يضيقُ عنه، أليس هو الرحمن الرحيم؟! أليس هو خالق القلوب وجابِلَها على ما هي عليه من قوة حينًا ومِن ضَعفٍ في كثير من الأحايين؟!

والشاعر تحاصره الآلامُ من كلِّ جانبٍ، فهو إذا تذكَّر ما كان يرى في ملامح ابنه من ذكاء، وما كان يتوقعه له مِن خيرٍ، يَلذَعه قلبُه، فقد مضى ذلك كلُّه، وأصبَح في خبر كان، وصَفِرتْ يدُه من هذه الزهرة المتوردة التي صُوِّحَتْ بَغتةً، وتمزَّقت أوراقُها الرقيقة النضرة، وهو إذا تلفَّت حوله، ووقعتْ عينُه على ابنيه الآخرين، ولم يرَ أخاهما معهما يلعب ويَرتع كما يلعبان ويَرتعان، لذَعه قلبُه، وبدلًا من أن يكونا له سَلوى تُخفف عنه بعضًا من لهيب فؤاده، إذا بهما مبعثُ حُرقات مضاعفة.

لكلٍّ مكانٌ لا يَسُدُّ اختلالَه
مكانُ أَخيه مِن جَزوعٍ ولا جَلْدِ
هَلِ العينُ بعد السمعِ تكفي مكانَه
أم السمعُ بعد العين يَهْدِي كما تَهْدي


وتأمَّل كيف يجعل الأبناء كأنهم الجوارح، فإذا فقَدنا أحدَ أبنائنا، فكأننا فقدنا جارحةً مِن جوارحنا، ومتى كان فاقد بصره يتعزَّى عنه بأنه لا يزال مُمتعًا بسمعه؟ أم متى كان أبترَ الساقين يتسلَّى عنهما بأنه لا تزال له يداه؟

إن الإنسان في هذه الحالة لا يشعر إلا بما فقَده، أما ما لم يُحرَم منه، فإنه لا يَلتفت إليه ولا يَشعُر به؛ إذ وجوده في نظره أمرٌ مفروغ منه:
وإني وإن مُتِّعْتُ بابنيَّ بعدَه
لَذَاكِرُه ما حَنَّتِ النِّيبُ في نَجْدِ
وأولادُنا مِثلُ الجوارحِ أيُّها
فقَدناه كان الفاجعَ البيِّنَ الفَقْدِ


وكلنا يعرف ما الذي يحدث للميت إذ يُوضَع في قبره، ولكن ابن الرومي يتظاهر بأنه لا يَعرِف، فهو يتساءل: يا تُرى ما الذي حدث لابني من بعدي؟!
لَعَمْري لقد حالتْ بي الحالُ بعدَه *** فيا ليتَ شِعري كيف حالتْ به بَعْدي
وهل يَجهل ذلك أحد؟ وهل ثمة إلا الدود يَنهَش اللحم، فلا يبقى إلا عظامٌ نَخِرةٌ، وإذا بهذه الكتلة من الحياة التي كانت تملأ الدنيا حركةً وضجيجًا، وكانت مُفعمة بالآمال والمخاوف وشتى المشاعر، قد اختفت من صفحة الوجود؟! فكأن الشاعر وهو يتساءل عن مصير ابنه يحاول جاهدًا أن يُبعِد عن عينيه منظر صغيره وقد استحال إلى جثة هامدة لا تستطيع أن تَدفَعَ عن نفسها عدوانَ الدود والتراب في ظلمات القبر، وهو يعود فيتساءل مرة أخرى بعد بيت واحد عن مصير ابنه ريحانة عينيه وأنفه وحشاه:
أَرَيْحانةَ العينين والأنفِ والحَشا *** ألا ليتَ شِعْري هل تغيَّرتَ عن عهْدي
فانظر كيف يحاول الإنسان مخادعةَ نفسه عن الحقائق الصُّلبة المُرَّة!

ومرة أخرى يعود الشاعر إلى هذه النقطة، ولكنه في هذه المرة وإن لم يستطع أن يَمضي في تَجاهُله لِما حدث لصغيره في ظلمات القبر وتحت أكداس الثرى، فقد حاول أن يُقلل من فظاعته؛ إذ قصَره على أن ابنه سيكون هناك وحيدًا لا أحدَ معه يُذهِبَ عنه مخاوفَ الظلمة أو يلاعبه:
وأنتَ وإن أُفْرِدْتَ في دارِ وَحشةٍ *** فإني بدارِ الأُنسِ في وَحْشَةِ الفَرْدِ
وفي نهاية المطاف لا يجد ابن الرومي أمامه إلا أن يُرسل لابنه التحيةَ سلامًا من الله، ومن كلِّ غيث صادق البرق والرعد.

والقصيدة بَعْدُ بناءٌ متماسك، تُشبه زفرة من لهيبٍ مُستعر، وهي تبدأ بدعاء الشاعر على المنايا وقسوتها؛ إذ تَعمِد إلى مهجة القلب فتَرميها بسهامها القاتلة، غير مبالية بآلامنا ولا آمالنا، ثم يَمضي فيذكُر كيف أن يد المنون قد اغتالتْ صبيَّه وهو لا يزال في عمر الورود:
لقد قَلَّ بين المهْدِ واللحدِ لُبْثُه *** فلمْ يَنْسَ عهْدَ المهدِ إذ ضُمَّ في اللحْدِ
كيف - وقد كان وردةً نَضِرةً حمراءَ - استحال بفِعل النزيف المتواصل إلى صُفرة الزعفران، فجعلتْ نفسه تَساقَطُ قطعةً بعد قطعة، فيا لها من مِيتةٍ تُعذِّب الصبي وتُعذب أهله وهم يرون رُوحه تُزهَقُ شيئًا في إثر شيءٍ، فلا يَملِكون أن يَردُّوا عنه عاديةَ الموت وهي تتخطَّفه من أيديهم بغايةِ الهدوء!

ويتعجب الشاعر كيف لم يتحطَّم فؤاده بعد هذه الفاجعة؟! أيكون فؤاده أقسى من حجر الصوَّان؟! لقد كانت هذه الفاجعة كفيلة بسَحْقِ القلوب التي قُدَّتْ مِن الحجارة، وينتقل الشاعر إلى الحديث عن مَعزَّة الأبناء، وأن كلًّا لا يَسُدُّ مَسدَّ الآخر، ويَصِف ما أصبَح يتجرَّعُه من الغُصَص والحَسرات، فلا شيء يُسليه، ولا أحد يَشعُر بما هو فيه.

وانظر كيف يخاطب عينيه في أول القصيدة، فيطلُب منهما أن تُسعفاه بالبكاء الذي إن خفَّف عنه شيئًا من لَوعات نفسه، فليس برادٍّ عليه طفلَه الحبيب، وتُحس في قول الشاعر وهو يقول لعينيه: "جُودا فقد أَوْدى نظيرُكما عندي" - أنه يَحسُدهما على ما هما فيه، إن كل ما يَطلُبه أن يَجودا بالدمع، أما هو فقد فَقَدَ ابنَه، وهل يستوي الجودُ بدمعةٍ مع الجود بفلذات الأكباد، إن صحَّ تسمية ذلك جودًا؟! فأيُّ ألَمٍ هذا الذي يجعل صاحبَه يَحسُد عينيه هو، وكأنهما جارٌ له مثلًا يراه مُمتعًا بكل شيء، بينما هو قد فَقَدَ كلَّ شيء!

ويعود الشاعر إلى هذا المعنى قُرب نهاية القصيدة، فيقول:
أَعَيْنَيَّ جُودَا لي فقد جُدْتُ للثَّرى *** بِأَنْفَسَ ممَّا تُسألانِ مِن الرِّفْدِ
برغم أنه قد قال قبل ذلك:
وما سرَّني أن بِعْتُه بثوابِه
ولو أنَّه التخليدُ في جَنةِ الخُلْدِ
ولا بِعتُه طَوعًا ولكن غُصِبْتُه
وليس على ظُلمِ الحوادثِ مِن مُعْدِ


ولا أظن في الأمر تناقضًا إذ يقول لعينيه: إنه جاد بابنه للتراب، بينما قال قبلًا: إنه قد اغتُصب منه اغتصابًا، فهو فيما بينه وبين نفسه يعلَم تمام العلم أنه لم يُسْتَشر في هذه المصيبة، ولكنه حين يَلتمِس من عينيه أن تُسعفاه وتُخففا عنه بالدموع السخينة، يحاول أن يُقلل من شأن ما يَلتمسه منهما؛ حتى لا تَبخلا به، أو تَظُنَّا أنهما تُسديان إليه معروفًا كبيرًا، وهو - وحالُه هذه - ليس بحاجةٍ إلى مَن يَمُنُّ عليه بشيءٍ، فيَزيده آلامًا على آلام!

وتأمَّل ما في قوله:
ولا بِعتُه طَوعًا ولكن غُصِبْتُه *** وليس على ظُلمِ الحوادثِ مِن مُعْدِ

مِن حَسرةٍ بالغة وعجزٍ مطلق، لقد غصبتْه الحوادثُ ابنَه، فلم يستطع أن يَصمُد لها، ولم يجد مَن يقف إلى جانبه، فيَحمي له ابنَه مِن أيدي الغاصبين، أو يَرده بعد أن تَمَّ اختطافه.

ويتعجب الشاعر كيف توخَّى الموت هذا الابن بالذات، الذي كان من أخويه بمثابة أثمن جوهرة في العِقد، ولا يظن ظانٌّ أن ابن الرومي كان يكون سعيدًا، أو على الأقل أخفَّ لوعةٍ، لو أن الموت قد اختار واحدًا آخرَ مِن أبنائه، ولكنه يريد أن يُعبر عن تغيُّظه من الموت بأي سبيل، وإلا فهو القائل:
وأولادُنا مِثلُ الجوارحِ أيُّها *** فقَدناه كان الفاجعَ البيِّنَ الفَقْدِ
فلو أن الموتَ تخطَّفَ أحدَ ولديه الآخرين، لكان الألم هو هو، ومرارة الشكوى هي هي.

وتأمَّل هذه الصورة: "طواه الرَّدى عني"، وكيف يبدو الصبي فيها وكأنه ثوبٌ يُطوى ويُنشَر، بعد أن كان يَملأ على أبيه حياته حُبورًا وسرورًا! أو هذه الصورة التي يتخيَّل فيها صغيرَه الغالي مرةً وردةً حمراءَ، وقد استحالتْ مِن تواصل النَّزفِ إلى زعفرانةٍ صفراءَ صُفرةَ الموت، ومرةً قضيبًا من الرَّنْدِ، وقد جفَّ وذَوَى، وفقَد عِطرَه وطِيبَه، ومرةً حَبَّات مِن الدُّر قد انفرَطتْ مِن خيطها، فتناثرتْ هنا وهناك، ولم يَعُدْ إلى نظمِها في خيطها مِن جديد سبيلٌ:
أَلَحَّ عليه النَّزْفُ حتى أحالَه
إلى صُفرةِ الجاديِّ عنْ حُمْرةِ الوَرْدِ




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 25.84 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 25.21 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.43%)]