عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 23-08-2023, 11:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أبو تمام في فتح عمورية



وانظر كذلك إلى قوله:
لبَّيْتَ صوتًا زِبَطْريًّا هَرَقْتَ لَهُ
كأسَ الكَرَى ورُضابَ الخُرَّدِ العُرُبِ
أَجَبْتَه مُعلنًا بالسيفِ مُنصَلِتًا
ولو أَجبتَ بغير السيف لم تُجِبِ


حيث يجعل الإجابة بالعمل لا بالكلام، إذًا ما أسهل هذا وأقل جدواه! والمهم التنفيذ وليس الكلام بمطعم ولا مُسمن، والشاعر يصارح الخليفة بأنه لو كان جوابُه بشيءٍ آخرَ غير السيف - يَحُزُّ به رقابَ الأعداء، ويُجندِلُ به أبطالَه؛ حتى لا يفكِّر مَن ينجو بجِلده منهم في أن يعتدي على حُرمة الإسلام ثانيةً - ما كان لجوابه أيةُ قيمةٍ!

كذلك انظر كيف جعل الشاعر دولة الروم كالخيمة عمودها عمورية، وأوتادها المدن الصغرى، فجاء المعتصم وسدَّد ضربته المُصمية لمركز الدولة، فمحَقها من الوجود مَحقًا، فكأنه طوَّح بعمود الخيمة، غير مُضيع وقته وجُهده في اقتلاع الأوتاد التي ما كان اقتلاعها مفيدًا شيئًا يُذكَر لو بقِي عمودُ الخيمة في موضعه راسخًا:
حتى ترَكتَ سوادَ الشِّرك مُنقَعِرًا *** ولم تُعرِّجْ على الأَوتادِ والطُّنُبِ
وتأمَّل أيضًا هذه الصورة التي رسَم فيها أبو تمام ما أصاب إمبراطور الروم مِن رُعبٍ وفزعٍ:
وَلَّى وقد أَلْجَمَ الخطِّيُّ مَنطِقَه *** بسَكتةٍ تحتَها الأحشاءُ في صَخَبِ
جاعلًا من لسان الإمبراطور حصانًا قد امتطاه سيف الخليفة، وجعل له لجامًا مصنوعًا من الصمت والفزع.

أما قلب الإمبراطور، أو كما قال الشاعر: "أحشاؤه"، فإنها تحت هذا الصمت تَصخَب صخبًا مدويًا من الرعب كذلك والفزع، فلسانه من الرعب قد خَرِسَ، وقلبه أيضًا من الرعب تُدوِّي دَقَّاتُه دَويًّا شديدًا:
بَصُرْتَ بالرَّاحةِ الكُبْرى فلَمْ تَرَها *** تُنَالُ إلَّا على جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ
التي يُصوِّر فيها الراحة الكبرى راحةَ العز والشرف بعد الانتقام من أعداء الأمة والمِلَّة، وقد فصَل بينه وبينها نهرٌ طامٌّ لا يُخاض له عُبابُ، وإنما يمتد فوقه جسرٌ بُنِي من الجهد والاضطلاع بعظائم الأمور، فما كان من المعتصم إلا أن عبَر النهر فوق هذا الجسر؛ لينال الراحة الكبرى، وهل تُنال الأمجاد إلا بالجد والعناء؟!

ولكن انظر كيف عبَّر أبو تمام عن هذا المعنى، فأبدع وأتى بالمعجب العبقري، وتَمعَّنْ كيف يجعل بين صروف الدهر وأيامه نَسبًا وصِهرًا ورَحِمًا موصولةً؟! ثم كيف يستقري نسب هذا اليوم العظيم - يوم فتحت عمورية - حتى يرتد به إلى يوم بدر الذي انتصر فيه بنو الإسلام لأول مرة على علوج الكفر والضلال:
إنْ كان بين صُروفِ الدَّهرِ مِن رَحِمٍ
مَوصولةٍ أو ذِمامٍ غيرِ مُنْقَضِبِ
فبَيْنَ أيامِك اللاتي نُصِرْتَ بِها
وبينَ أيامِ بدرٍ أقربُ النَّسَبِ


ثم كيف يتلاعب بالكلمات تلاعبًا يَنُمُّ عن وَقادةِ ذهنٍ ولطف خيالٍ وفرحة غامرةٍ وشماتة قاهرةٍ:
أَبْقَتْ بَني الأصْفَر المِمْراضِ كاسْمِهمُ *** صُفْرَ الوجُوهِ وجلَّتْ أَوْجُهُ العَرَبِ
وهو يقصد بالعرب هنا "المسلمين"، فالإسلام دين عربي، "بمعنى أنه نزل على رسول عربي بُعِث أول ما بُعِث إلى العرب"، والدولة عربية "فلغتها هي لغة الضاد، وحُكَّامها عرب مسلمون"، وعلى أية حال فهذه هي المرة الوحيدة التي يذكر فيها العروبة والعرب، وإلا فقد قال قبل ذلك:
خليفَةَ الله جازَى اللهُ سعْيَكَ عنْ
جُرْثُومَةِ الدينِ والإِسلامِ والحَسَبِ
لَم يَعلمِ الكُفرُ كَمْ مِن أَعْصُرٍ كمَنتْ
له المنيةُ بين السَّمْرِ والقُضُبِ
♦ ♦ ♦
أَبْقَيتَ جَدَّ بني الإسلام في صُعُدٍ
والمشركين ودارَ الشِّركِ في صَبَبِ


فالصراع كان صراعًا بين الإسلام والشرك، ولم يكن صراعًا بين العرب وغيرهم، فجيش الإسلام لم يكن جيشًا عربيًّا بالمعنى العِرقي، بل كان يضم أبطالًا من كل صقعٍ ومن كل جنس في ديار الإسلام.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 18.43 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 17.80 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.41%)]