عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 23-08-2023, 11:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,772
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أبو تمام في فتح عمورية


فالقصيدة كما ترى وَحدةٌ واحدة في موضوعها وجوِّها النفسي، بما فيها مِن تهكُّمٍ واخزٍ وشماتة مُحرقة وفرحة طاغية، حتى إن الشاعر ليتلاعب في وسط هذه البهجة الغامرة باللغة تلاعبًا، وهو تلاعُبٌ يَعكِس ما كان يُحِسُّه الشاعر والأمة الإسلامية آنئذٍ من مشاعر الابتهاج والعزة والفخار، وحتى إن خياله ليَسُحُّ عليه بالصور المدهشة التي تدل على فحولة وأصالة واقتدار، فإذا كان التلاعب بالمحسنات البديعية مذمومًا في بعض المواقف لما فيه من تكلُّفٍ، فإن بديع أبي تمام هنا هو البديع بعينه، اقرأ إن شئتَ:
السَّيفُ أصدقُ أنباءً من الكُتبِ
في حَدِّه الحدُّ بين الجِدِّ واللَّعِبِ
بِيضُ الصفائحِ لا سُودُ الصحائفِ في
مُتونِهنَّ جِلاءُ الشكِّ والرِّيَبِ
والعِلمُ في شُهُبِ الأَرباح لامعةً
بين الخَميسينِ لا في السَّبعةِ الشُّهُبِ


إن الطِّباقات والتوريات والجناسات هنا، ليست حِيَلًا بهلوانية، بل زخارف مُوفقة في هذا العيد السعيد، وهي زخارف أتى بها الشاعر للزينة ولمعنى آخر غير الزينة، هو التهكُّم على جهل هؤلاء المنجِّمين وادعائهم وكذبهم، فكأنه يقول لهم:
أتزعمون أن في تنجيمكم الحدَّ بين الجِد واللعب؟ كلَّا ثم كلَّا، بل الحد بين الجد واللعب هو في حد سيوف الإيمان!

أتَزعُمون أن في سواد كتابات صُحفكم جِلاءَ الشك والريب؟ كلَّا ثم كلَّا؛ إذ كيف يكون في ظلمة السواد جلاءٌ من الشك والريبة؟ إنما جلاء الشك والريبة في نور بياض السيوف حين تُنْتَضَى ويُهْوَى بها على رؤوس الكفر والضلال!

أتزعمون أن عند شُهبكم العلمَ بما يُخبئه المستقبل؟ كلَّا ثم كلَّا، إنما علمُ ذلك يتجلَّى للعين على لمعِ الحسام إذا حمِي وطيسُ القتال، فهو الذي يقرِّر النصر والهزيمة؛ إذ لا نصرَ لعاجزٍ متخاذل يُنصت إلى أكاذيب الدجَّالين، وإنما النصر من عند الله يَهبه لكلِّ مؤمنٍ شجاع يأخذ عُدته وينطلق في سبيل الله، مقتحمًا الأخطار عاقدًا العزم على النصر أو الاستشهاد ... وهكذا، وهكذا.

وانظر أيضًا كيف يتلاعب الشاعر بالصور تلاعبًا يدل على ثرائه المدهش منها ومقدرته على التفنُّن فيها كيف يشاء! فهو مثلًا يجعل عمورية مرة أمًّا للروم، إشارة إلى أنها عنوان مجدهم من قديم الزمان، وأنهم كانوا على استعداد لفدائها بالآباء والأمهات:
أُمٌّ لهم لَو رَجَوْا أن تُفْتَدى جعَلوا *** فِداءَها كلَّ أُمٍّ بَرَّةٍ وأَبِ
ولكنهم فقَدوا الرجاء فلم يفعلوا؛ إذ كانت سيول المسلمين أطغى من أن تُصَدَّ.

ومرة يجعلها امرأةً برزةً تَدِلُّ بجمالها الفتَّان، وتَشمَخ بأنفها على مَن تُسول له الأمانيُّ أن يتقدَّم إليها يَعرِض عليها قلبَه وحبَّه، لم تَعفُ من ذلك كسرى ولا أبا كربٍ، وكيف لا تفعل وهي المرأة الخالدة التي شاب الزمن وشبابُها باقٍ على نَضارته وغَضارته وفِتنته؟!

ومرة يجعلها بِكرًا لم تستطع صروف الدهر أن تَفُضَّ بَكارتها، بَلْهَ أن تترقَّى إليها في عليائها وشموخها، ومرة يجعل السنين وعاءً من اللبن، وقد عكَفت يد الله عليه تَمخُضه في حرص وإعزازٍ، حتى استخلصت منه عمورية قطعةً من الزُّبْد المصفَّى:
حتَّى إذا مَخَضَ الله السنينَ لَها *** مَخْضَ البخيلةِ كانتْ زُبْدَةَ الحِقَبِ
وتأمَّل هذه الصورة أيضًا:
جرَى لها الفألُ نَحْسًا يومَ أَنْقَرَةٍ
إذ غُودِرتْ وَحشة الساحاتِ والرَّحَبِ
لَمَّا رَأَتْ أُختَها بالأمسِ قد خَرِبَتْ
كان الخرابُ لها أَعْدى مِن الجَرَبِ

فهل سمِعت من قبلُ بالخراب يُعدي كما يُعدي الجرب؟!

أو هذه الصورة:
لقد تركتَ أميرَ المؤمنين بها
للنار يومًا ذليلَ الصَّخْرِ والخَشَبِ
غادَرْتَ فيها بهيمَ الليل وهْو ضُحًا
يَشُلُّه وسطَها صبحٌ مِن اللَّهَبِ
حتى كأنَّ جَلابيبَ الدُّجى رغِبتْ
عن لونِها أو كأن الشمسَ لَم تَغِبِ
ضوءٌ مِن النارِ والظَّلْماءُ عاكفةٌ
وظُلمةٌ مِن دُخانٍ في ضُحًا شَحِبِ


فذِلة الهزيمة قد لحِقت حتى بجدران البيوت فيها من صخرٍ وخشبٍ، والظلام البَهيم قد استحال بفعل ألسنةِ النيران المتأججة إلى صبحٍ بل إلى ضحًى، والدُّجى لها جلابيبُ، وهذه الجلابيب قد سئِمت لونَها الأسود، والناظر إلى كلِّ هذا لا يدري أهو في حُلمٍ أم في علمٍ، ولا يستطيع القطع بأن ما يراه ليلٌ أو نهار، فاللهب مِن تأجُّجه يُحيل الدنيا إلى نهار ساطع، ثم يَهجُم الدُّخَان المنعقد الكثيف، فإذا به يُخيَّل إليه أن الشمس قد غرَبت مع أنه لا شمس هناك ولا نهار، وهذا الخيال الذي يجعل من الليل نهارًا، هو هو الخيال الذي يرى في قُبح ما لحِق بالمدينة مِن خرابٍ وحرائقَ - حُسنًا لا يضارعه حسنٌ، حسنًا يُسْتَلَبُ منه اللبُّ كما كان ربعُ ميَّةَ وهي فيه تَعمُره بالحياة والفتنة والجمال، يَسحَر فؤادَ ذي الرُّمة الشاعر الذي خلَّدها في شعره إلى الأبد:
ما رَبْعُ ميَّةَ مَعمورًا يُطيفُ بِه
غيلانُ أَبْهى رُبًا مِن رَبْعِها الخَرِبِ
ولا الخُدودُ وقدْ أُدْمِينَ مِن خَجلٍ
أَشهَى إلى ناظِري مِن خَدِّها التَّرِبِ
سَماجةً غَنِيتْ منا العيونُ بِها
عن كلِّ حُسنٍ بَدَا أو مَنظرٍ عَجَبِ


وتأمَّل كيف يَجعل أبو تمام الموت يترصَّد للكفر في غابة من الرماح أدهارًا متطاولة، ثم يَنقَضُّ فجأةً عليه، فيُجَرِّعه الهلاك تَجريعًا:
لَم يَعلمِ الكُفرُ كَمْ مِن أَعْصُرٍ كمَنتْ *** له المنيةُ بين السَّمْرِ والقُضُبِ
وتأمَّل كيف يجعل الكَرى كأسًا يَحتسي منها الإنسانُ مشروبًا حلوًا لذيذًا، فإذا بالمعتصم - وقد بلَغه خبرُ اعتداء الروم الأنجاس على حدود دولة الإسلام - يُمسك بالكأس ويُريق كلَّ ما فيها على الأرض، ثم يَنهَض للانتقام من هؤلاء الأرجاس، قاطعًا بذلك خطَّ الرجعة على نفسه، وقد كان الشاعر مستطيعًا أن يقول مثلًا: "آليتُ على نفسك ألا تُخلِد للكَرى"، ولكن مَن يَحلِف ألا ينام قد يَغلبه النوم على نفسه، فالنوم سلطان، أما أن يُهْرِقَ كأسَ الكَرى، فمعنى ذلك أنه لم يَعُد أمامه إلا السهرُ المتواصل حتى إتمام النصر.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.23 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.60 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.82%)]