عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 23-08-2023, 11:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أبو تمام في فتح عمورية


إن القصيدة كما يقال: هي في مدحِ المعتصم، ولكن انظر كيف يكون المديح، إنه ليس مديح النفاق والكذب، بل مديح يعرف حدوده، فنُعجَب نحن به مِن ثَمَّةَ إعجابًا لا يَعرِفُ الحدودَ، فهو يقول:
لم يَغْزُ قومًا ولم يَنْهَدْ إلى بلدٍ
إلا تَقدَّمَه جيشٌ مِن الرُّعُبِ
لو لَم يَقُدْ جَحفلًا يومَ الوَغَى لَغَدَا
مِن نفسِه وحدَها في جَحْفلٍ لَجِبِ


ولكنه عَقيب هذا يضيف:
رَمى بكَ الله بُرْجَيها فَهَدَّمها
ولو رمَى بكَ غيرُ اللهِ لم تُصِبِ
مِن بعدما أشَّبُوها واثقينَ بِها
والله مِفتاحُ بابِ المَعْقِلِ الأَشِبِ


ومِن هنا فعندما يقول:
إنْ كان بين صُروفِ الدَّهرِ مِن رَحِمٍ
مَوصولةٍ أو ذِمامٍ غيرِ مُنْقَضِبِ
فبَيْنَ أيَّامِك اللاتي نُصِرْتَ بِهَا
وبَيْنَ أيَّامِ بدرٍ أقرَبُ النَّسَبِ


فإننا لا نَملِك إلا الإعجاب بهذه البصيرة التمَّاميَّة التي التَقَطتْ خيط هذا النَّسَب الكريم العظيم، أتدري ماذا يقول الله في قرآنه المجيد عن الانتصار الساحق الذي أحرزه الرسول والمسلمون في بدر الكبرى؟ إنه سبحانه يقول: ﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ [الأنفال: 17]، فقارِن بين قول الحق هنا سبحانه وبين بيتي أبي تمام السابقين على آخر بيتين استشهدنا بهما، تجد المعنى واحدًا؛ لأن أبا تمام قد استلَهم الآية الكريمة، ويزيد هذا المديح علوًّا في نظرنا أن أبا تمام إنما يَمدَح المعتصم لِما أنجَزه هذا البطل العظيم مِن نصرٍ مبين في موقعة عمَّورية التي:
أَبْقَتْ بَني الأصْفَر المِمْراضِ كاسْمِهمُ *** صُفْرَ الوجُوهِ وجلَّتْ أَوْجُهُ العَرَبِ
وفضلًا عن هذه الفخامة التي تُسربل القصيدة، ثَمَّةَ الوحدة الفكرية والنفسية التي تشد أبياتها كلها بآصرةٍ وثيقة، فتبدو للعين بناءً متينًا صُلبًا راسخًا، فالأبيات لا تعالج موضوعًا آخر غير هذا الفتح المجيد الذي تَمَّ على يد البطل الصِّنديد الخليفة المعتصم بالله الذي استحقَّ بحقٍّ أن يدعوَ له شاعرنا المُفلق ضارعًا بقوله:
خليفَةَ الله جازَى اللهُ سعْيَكَ عنْ *** جُرْثُومَةِ الدينِ والإِسلامِ والحَسَبِ
وهذه الأبيات تبدأ بالتهكُّم الصاعق على المنجِّمين وتَخرُّصاتهم؛ إذ حاولوا أن يَثنوا المعتصم بالله عن إنفاذ الجيش للانتقام من عدوان الروم على أطراف الدولة، تحت شُبهة أن النجوم تخبرهم بأن الحملة ستفشل إن خرَجت في ذلك الوقت، والشاعر في أثناء ذلك يَسخَر من النجوم والأبراج وتقسيمات المنجمين لها إلى أَبْرُاج عُليا وغير عليا، وأبراج مُنقلبة وغير منقلبة، حتى إذا ما بلَغ النغمة الأخيرة في تهكُّمه في البيت التالي:
لو بَيَّنَتْ قطُّ أمرًا قبلَ مَوقعِه *** لم تُخْفِ ما حلَّ بالأوثانِ والصُّلُبِ
اندفع يَهتِف ممجدًا هذا الفتحَ المبين الذي يُسميه عن جدارة "فتح الفتوح"، الذي اهتزَّ له الكون كله طربًا، فكأنه في يوم عيد، وكيف لا وقد عزَّ به الإسلامُ والمسلمون، وذلَّ به الشركُ والمشركون، وذلك حين سقَطت عمورية التي يصفها الشاعر قائلًا: إنها "شابتْ نواصي الليالي وَهْيَ لَمْ تَشِب"، عمورية التي تأبَّت على مَن حاوَلَ قَبلَ المعتصمِ فَتْحَها من الفاتحين، كما تتأبَّى الحسناء المدلة بجمالها وفِتنتها على الخُطَّاب والعاشقين، احتقارًا لهم وغرورًا بتلك الفتنة الخالدة، عمورية الغادة البكر التي اعتَلَتْ على كرِّ الأزمان عرشَ المجد، فلم تستطع هِمَّةُ النوائب أن ترتقي إليها في عليائها وبهائها، فجاء المعتصم ففعَل ما لم يَفعَله الأولون؛ إذ أذل كبرياءَها، وأَسْلَسَ عِصيانَها!

وهنا ينطلق الشاعر، فيَرسُم في لوحات أخَّاذةً نابضةَ الألوان والخطوط - ألسنةَ اللهب، وقد أحالتْ ليلها ضياءً، فيَخال الرائي أن الشمس لا تزال بازغةً في الأُفق، ويشاهد على ضوئها جثثَ تسعين ألفًا من جنود الأعداء وقادتهم، وقد تحوَّلت المدينة من حولهم إلى جدران وأنقاض.

ويعرِّج أبو تمام على اغترار رؤسائهم بحصانة مدينتهم، وظنِّهم أنهم لن يُغلَبوا مِن ضَعفٍ، فلم ينفعهم ما أَشَّبُوا من حصون، وكيف تَنفعهم وقد كانوا يحاربون الله؟! "والله مِفتاحُ بابِ المَعْقِلِ الأَشِبِ"، كما يَسخر أبو تمام هنا من إنفاق إمبراطور الروم الأموال الطائلة، ظنًّا منه أنه مستطيع أن يدفع هذه السيول العارمة بأمواله، ويُصوِّره وقد فرَّ يلوذ بالمرتفعات منخوبَ القلب، مُخلفًا وراءَه جنودَه بعدما قدَّمهم طعامًا للنيران والسيوف، تلك السيوف التي أحرزت للمنتصرين حِسانَ الروم.

ويَختم الشاعر هذه البائية الخالدة بهذه الأبيات التي لا نجد أحسنَ منها حُسنَ ختامٍ لمثل هذه الملحمة التي يَعِزُّ لها في الشعر نظيرٌ:
خليفَةَ الله جازَى اللهُ سعْيَكَ عنْ
جُرْثُومَةِ الدينِ والإسلامِ والحَسَبِ
بَصُرْتَ بالرَّاحةِ الكُبْرى فلَمْ تَرَها
تُنَالُ إلَّا على جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ
إنْ كان بين صُروفِ الدَّهرِ مِن رَحِمٍ
مَوصولةٍ أو ذِمامٍ غيرِ مُنْقَضِبِ
فبَيْنَ أيامِك اللاتي نُصِرْتَ بِها
وبينَ أيامِ بدرٍ أقربُ النَّسَبِ
أَبْقَتْ بَني الأصْفَر المِمْراضِ كاسْمِهمُ
صُفْرَ الوجُوهِ وجلَّتْ أَوْجُهُ العَرَبِ


وتُحِس الأذن والعين والنفسُ عند الفراغ من البيت الأخير - أنها وصلت إلى آخر نغمة في هذا اللحن الشامخ، ففيه تلخيصُ الموقف كله في هذه الصورة الأخَّاذةِ الحيَّة.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.36 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.73 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.94%)]