عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 23-08-2023, 11:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أبو تمام في فتح عمورية


يا رُبَّ حَوباءَ لَمَّا اجْتُثَّ دابِرُهمْ
طابَتْ ولو ضُمِّخَتْ بالمسْك لَم تَطِبِ
ومُغْضَبٍ رَجَعَتْ بِيضُ السيوفِ بِه
حيَّ الرِّضا مِن رَداهمْ مَيِّتَ الغَضَبِ
والحربُ قائمةٌ في مَأْزِقٍ لَجِجٍ
تَجثو الكُمَاةُ بِه صُغْرًا على الرُّكَبِ
كَمْ نِيلَ تحتَ سَناها مِن سَنا قَمَرٍ
وتحتَ عارِضِها مِنْ عَارِضٍ شَنِبِ
كم كانَ في قطعِ أسبابِ الرِّقابِ بِها
إلى المُخَدَّرةِ العَذْراءِ مِن سَبَبِ
كم أَحْرَزَتْ قُضُبُ الهنْدِيِّ مُصْلَتَةً
تَهتزُّ مِن قُضُبٍ تَهتزُّ في كُثُبِ
بِيضٌ إذا انْتُضِيَتْ مِن حُجْبِها رَجَعَتْ
أَحقَّ بالبِيض أَترابًا مِن الحُجُبِ
خليفَةَ الله جازَى اللهُ سعْيَكَ عنْ
جُرْثُومَةِ الدينِ والإِسلامِ والحَسَبِ
بَصُرْتَ بالرَّاحةِ الكُبْرى فلَمْ تَرَها
تُنَالُ إلَّا على جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ
إنْ كانَ بينَ صُروفِ الدَّهرِ مِن رَحِمٍ
مَوصولةٍ أو ذِمامٍ غيرِ مُنْقَضِبِ
فبَيْنَ أيَّامِك اللاتي نُصِرْتَ بِهَا
وبَيْنَ أيَّامِ بدرٍ أقرَبُ النَّسَبِ
أَبْقَتْ بَني الأصْفَر المِمْراضِ كاسْمِهمُ
صُفْرَ الوجُوهِ وجلَّتْ أَوْجُهُ العَرَبِ

هذه القصيدة واحدة من الغُرر اللامعة في جبين الشعر العربي قديمه وحديثه، وسوف تظَل تترنم بها أجيال العرب والمسلمين حتى في أحلكِ لحظات تاريخهم؛ لأنها تُذكرهم بالمجد القديم، وتَستحثهم أن ينهضوا ويَسموا إلى الأفق السامق الذي حلَّق فيه المسلمون بقيادة معتصمهم تحليق النسور، وانقضُّوا منه على أعدائهم، فافترسوهم وأبادوهم، ومزَّقوهم شرَّ مُمزَّقٍ، وجعلوهم عِبرة لمن تُسوِّل له نفسه الخبيثة العدوانَ على بلاد المسلمين، لكن رَوعة القصيدة الخالدة ليست ترجع فحسبُ إلى موضوعها، وما تُثيره في نفوس العرب والمسلمين جميعًا من معاني المجد ومشاعر العزة، وتَستحثهم إليه من منازل الكرامة - وإنما ترجع أيضًا إلى ما حَوَتْه من كنوز الفن الراقي، وإليك البيان:
أول ما يَلفت انتباهنا في هذه الرائعة الخالدة ما يُسَربِلُها من فخامة الوزن والقافية واللفظ والصورة ... إلخ، فخامة تناسب فخامةَ هذا الفتح المبين، الذي سحَق فيه المسلمون عُلوجَ الشِّرك - لعَنهم الله في كل زمان ومكان - فغادروا تسعين ألفًا من هؤلاء الكلاب مطروحةً جثثُهم في وسط النيران التي أكلت بيوتهم، بيوت الرِّجس والعدوان، لا تجد مَن يسأل عنها أو يُبالي بها، فالبحر الذي صُبَّتْ فيه القصيدة من الأبحر الطويلة التي تُهيئ للشاعر الفرصة لأن يهتف ويُجلجل صوته كما يَحلو له الجَلجلة والهُتاف، ثم تأتي القافية البائية التي لم يتكرَّر فيها لفظ واحد مرتين، لتَقرَعَ الآذان قرعًا، فتَغمُر الجسم والنفس فورةُ الحماسة، ويستيقظ أنبلُ وأكرم وأمجدُ ما في الإنسان، بل إني لأَتخيَّل الشاعر وهو يَنظُم رائعته هذه وقد سَخُنَتْ رأسُه، وأصبح لخياله ألفُ عينٍ وعين يُبصر بها، ويَقتنِص هذه الصور العجيبة التي تُخيِّل لك وأنت تقرأ القصيدة أنك في معرض للفن العظيم تَبْهُر عينَك اللوحاتُ الفاتنة الساحرة، فلا تستطيع - إلا بالمشقة - التركيز على إحداها؛ لأن كلًّا منها يَدعوك في ذات الوقت لتَتملَّاها وأنت متحير بين هذه وذي وتلك، ومَن ذا الذي يقرأ الأبيات الآتية وهو متمالكٌ مشاعرَه؟!

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 18.16 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 17.54 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.46%)]