عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 23-08-2023, 10:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أبو نواس يمدح العباس حفيد المنصور


كيف لا يُدنيك مِن أَمَلٍ
مَنْ رسولُ اللهِ مِنْ نَفَرِه؟!
فاسْلُ عن نَوْءٍ تُؤمِّلُهُ
حَسْبُك العبَّاسُ مِنْ مَطَرِه
مَلِكٌ قَلَّ الشبيهُ لَهُ
لم تَقَعْ عَينٌ على خَطَرِه
لا تُغَطَّى عنه مَكْرُمةٌ
برُبا وادٍ ولا خَمَرِه
سبقَ التفريطَ رائدُهُ
وكَفَاه العينُ مِنْ أَثَرِه
وإذا مَجَّ القَنا عَلَقًا
وتَرَاءَى الموتُ في صُوَرِه
راحَ في ثِنْيَيْ مُفاضَتِه
أَسَدٌ يَدْمى شَبا ظُفُرِه
تَتَأَيَّا الطَّيْرُ غَدْوَتَهُ
ثِقةً بالشِّبْعِ مِنْ جَزَرِه
وتَرى السادات ماثلةً
لسليلِ الشمس مِن قَمَرِه
وكريمُ الخالِ مِنْ يَمَنٍ
وكريمُ العمِّ مِنْ مُضَرِه
فَهُمُ شَتَّى ظُنونُهُمُ
حَذَرَ المكْنونِ مِنْ فِكَرِه


هذه القصيدة إحدى قصائد المديح في العصر العباسي، وهي ككثير من قصائد المديح لا تَقصِد مباشرة إلى الغرض الرئيس منها، ومن ثمَّ لا تصل إليه إلا بعد مقدمات وتخلُّصات، بحيث يأتي المدح في آخر القصيدة، وكأن الشاعر قد عرَّج عليه بطريق المصادفة، بل أحيانًا ما يأتي باهتًا هامدًا لا رُوح فيه ولا رَونق له، وربما كان سبب ذلك أن الشاعر مِن هؤلاء حينما كان يَنظِمُ مثل هذه القصائد، لم يكن يُحس بعاطفة إعجاب قوية حقيقية نحو ممدوحه، إنما هو المال والحصول على شيء منه من هذا الممدوح، وأحب أن أقول: إنني لا أُطيق شعر المديح إلا إذا كان مبعثُه عاطفة قومية أو دينية، تهتزُّ لإنجاز حربي أو سياسي أو اجتماعي، يعود على الأمة كلها ومستقبلها بالخير الجزيل.

أما المديح من أجل الحصول على شيء من المال - هو في الغالب من مال الأمة الذي ائتَمنتْ خليفتها أو أحد وُلاته عليه - فهو مَخزاة من المخازي التي ما كان يجب أن تَنشأ في دولة إسلامية حقيقية، بْلَهَ أن تَنتشر وتَستَعِرَ، ويَمتدَّ أُوارُها إلى كل مكان على مدى كل هذه العصور المتطاولة.

ذلك، ولا أُوافق القائلين: إن شعر المديح إنما يرفع أمام أبصار الأمة مثل الأخلاق الكريمة، فإن الأخلاق الكريمة لا يَخدمها الكذب واللهاث وراء حَفنة من المال الحرام ليس لواهبها ولا لموهوبها حقٌّ فيها، ثم إن معاني المديح هي في الغالب معانٍ تقليدية محفوظة، قد أفقَدها التَّكرار رَواءَها وبَهاءَها، فإذا أتى من الشعراء من يريد أن يضيف إليها جديدًا، كان تجديده محصورًا في نطاق ضَيِّق لا يتجاوز هذه الجزئية أو تلك، أما الخطوط العامة فتبقى هي هي!

أما الأغراض التي تناولتها هذه القصيدة، فهي المقدمة الغزلية التي تُعبر عن آلام الشاعر مِن جراء الطعنة التي تلقَّاها من صديقته؛ إذ غدَرتْ به وتحوَّلت عنه إلى صديق له، ثم عادت إليه كرَّةً أخرى، وهي تظن أنه سيتلقَّاها بالعفو ونسيان الماضي، ولكنه تَثور به حَميَّة نفسه، فلا يسمح لها بدخول حياته من جديد، وهو يستطرد من ذلك إلى الحديث عن تجاربه في الحياة، تلك التجارب التي تعلَّم منها الكثير، وبلا فيها الناس على اختلاف صنوفهم ومشاربهم، ثم خرَج من ذلك إلى أسفاره، (أليست هذه الأسفار بعض تجارب الحياة؟)،غير أنه يقف فيها عند نقطة واحدة، وهي وصف حصانه وجهده في قطع الفَلوات، وما يكتسي به وجهه - فمًا ومنخرًا وحاجبًا - مِن زَبَدٍ يتطاير في الفضاء بعد ذلك تطايُر رقائق القطن مِن مِنْدَفة المنجد، وفي النهاية يصل بنا الشاعر وحصانه إلى الممدوح.

ومع أني حاولتُ في الفقرة السابقة أن أجعَل الأغراض التي تناولتْها القصيدة يُسلِمُ بعضُها إلى بعض في شيءٍ - ولو متكلفًا - من التسلسل المنطقي، فإني - بِغَضِّ البصر عن رفضي لهذا اللون من شعر المديح -لأتساءل: أكان يَحسُن بالشاعر أن يجمعَ في قصيدة واحدة بين الحديث عن خيانة صديقته ورفضه لدخولها حياته من جديد، وبين مدحه العباسَ بن عبيدالله بن أبي جعفر المنصور؟!

إن الجو النفسي هنا والجو النفسي هناك مختلفان أشد الاختلاف، اللهم إلا إذا تكلَّفنا القول بأنه رحل إلى هذا الممدوح لعله يتسلَّى بالرحلة إليه، ويتلقَّى عطاياه عن آلام حبِّه المغدور، لكن سَرعان ما يثور السؤال الآتي: أبهذه السهولة يستطيع المحب المطعون أن يتسلَّى بعطايا ممدوحه عن حُرقات قلبه؟ وهَبْ ذلك ممكنًا، أَمِنَ الممكنِ أنه بمجرد أن يَشرَع في الرحلة أن ينسى كلَّ شيء عن هذه الآلام، فلا تُعاوده ولا تُهيِّجُ به ذكرياتِها؟!

في الحق أن الصلة بين أغراض هذه القصيدة واهية، إن لم تكن في بعض الأحيان منعدمة تمامًا، وفي الحق أيضًا أن الشاعر - وهو ليس بِدعًا في ذلك - إنما كان يجري في ذلك على تقليد شعري قديم، والشاعر الفَحْلُ هو الذي لا تَسترقُّه التقاليدُ الأدبية كلَّ هذا الاسترقاقِ، إن بعض هذه التقاليد واجب الاتباع على الأقل في بعض الأحيان، لكن على ألا تكون التبعية عمياءَ!

ولو عمَدنا إلى أقسام القصيدة، لوجدنا أن أقواها وأجملها هو الأبيات الثمانية الأولى، وفيها يَشعُر القارئ بألَمٍ وسَخَطٍ مَكتومٍ، إن الشاعر لا يَصرُخ ولا يَبكي، وإنما نُحِسُّ بحُرقته من عباراته التي يَقبِسُها مِن قلبه المُلتاعِ، ألا تسمع نغمة السخط والتهكُّم في هذا البيت:
أيُّها المُنتابُ عنْ عُفُرِه *** لستَ مِن ليلي ولا سَمَرِه
ففي الشطرة الأولى يُلمِّح الشاعر إلى خيانة صديقته، وكأنه يقول لها: أين كنتِ طوال هذه المدة؟ ومع مَن كنتِ تَقضين وقتَكِ؟ وما الذي جاء بكِ ثانيةً؟ ثم تأتي الشطرة الثانية قاطعة حاسمة: لقد انتهى كلُّ ما كان بيننا، فلم أعُد لكِ، ولم تعودي لي، وليس يَربِطك بي شيءٌ، أي شيء! وتَمعَّنْ في إشارته إلى الليل والسمر؛ حيث تصفو النفوس وتَحلو النجوى، وتَسرَح في الفضاء أطيافُ الحبِّ، تُدرك ماذا يعني الشاعر بقوله: (لستَ من ليلي ولا سَمَرِهْ!).

ويأتي البيت الثاني فنرى الشاعر يُبدي لصديقته عدمَ اكتراثه بها، وقلة غَيرته عليها، وكيف يغار عليها وقد بلا خيانتها وغدرَها؟ وهو يُشبهها بالشجرة المباحة لجميع صنوف الطيور تقع عليها متى وحيث أحبَّت، وتَنقُر فيها وتأكُل منها كيف تشاء، وهو تشبيهٌ عميق الدلالة والإيحاء، فكأنه يقول لها: إنها لا تَمتنع من كلِّ مَنْ هَبَّ ودَبَّ! أما هو فلا اهتمام له بهذه الشجرة، ولا يُبالي بطرد الطيور عن غصونها وثمارها، فهي ثمار مُرَّة لا تُغري بتذوُّقها، وحسبُه أنه قد نفَض يده منها، فمن أراد أن يُجرب فليتفضَّل!
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 20.99 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.37 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.99%)]