عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 03-08-2023, 09:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,216
الدولة : Egypt
افتراضي تفسير سورة الأنفال (الحلقة العاشرة - الأخيرة) الاندماج العظيم وميثاق الولاء الأعظم

تفسير سورة الأنفال (الحلقة العاشرة - الأخيرة) الاندماج العظيم وميثاق الولاء الأعظم
الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي




بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الغُر الميامين.


قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال: 72 - 75].


عندما اختار الله عز وجل للإسلام أولَ منبتٍ له في الأرض بمكة، ومكةُ حينئذ حي لَقاحٌ[1]لا يدين لملك كما قال الأسود بن المطلب أبو زمعة؛ إذ صاح في الطواف: "ألا إن قريشًا لَقاح لا تَمْلِك ولا تُمْلَك"[2]، واختار لرواده الأولين جنسَ العرب، والعرب آنئذٍ أشتات قبائل لا تجمعهم دولة، وليس لهم ولاء إلا لأنسابهم في الأسرة ومكانتهم في القبيلة، وقيم صحرائهم إيجابيها وسلبيها، كان هذا الاختيار منه تعالى أنسب بيئة اصطفى منها خيرها من بني هاشم في قريش، ومن بني هاشم خيرهم محمدًا صلى الله عليه وسلم[3]، وممن اتبعه وآمن به خيرهم في عشيرته وآل بيته، ومن قبائل العرب وبطونها خير القرون في مسيرة الدعوة الإسلامية على الأرض، في مقدمتهم خيرُ الأبطال من آل عبد المطلب: علي بن أبي طالب، وسيد الشهداء حمزة، ومن بني مخزوم آل عمار أبًا وأمًّا وولدًا[4]، ومن بني تيم خير الصديقين أبو بكر، ومن بني عدي خير الأشداء في الحق عمر، ومن قريش بعامة نخبة الصحب الكرام، ونشأ بذلك خير أجيال الأمة رضي الله عنهم جميعًا، من الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم: (خيرُكم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).


وعندما اختار الله لهذه النخبة المصطفاة أن تهاجر إلى المدينة، فلعلم منه تعالى وحكمة بالغة كانت بهما بيئة الأنصار من الأوس والخزرج، خير لحمةٍ مدنية لسُدى مكِّيٍّ ينسج بهما فسطاط الإسلام الأول، وتتبين بهما معالم دولته، نصرًا مؤزرًا في الدنيا وفوزًا عظيمًا في الآخرة، قال تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100].


وعندما تم الانتصار في غزوة بَدْر، كان الإعلان الرسمي عن بزوغ نجم هذه الدولة، ونزلت سورة الأنفال تقتفي آثار ما سبق من مسيرة هذه النخبة المؤمنة، وتستقصي ما تم من بنائها الإيماني والتربوي والاجتماعي والسياسي، وما يحتاجه الإنجاز الحضاري الجديد من ترميم أو تثبيت أو إضافة أو إعادة بناء، فكانت لذلك خواتيمها أربعَ آيات محكمات، تم بها بنيان أمة للإسلام رائدة في دولة للحق قائمة، ومجتمع للعدل مسلم متكامل متميز صلب لا يُغلب ولا يُخترق، وكان بدء تشييد ذلك كله وإقامته بتمييز أول فئات بُناته وحملة رسالته نشرًا لها وصبرًا على الأذى فيها بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال: 72]،هذه هي الفئة الأولى التي حملت هَمَّ الإسلام اعتناقًا له ودعوة إليه وبذلًا فيه وصبرًا على الأذى في سبيله، منذ استجابت لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يدعو أهل بيته وعشيرته سرًّا وعلانيةً، كما يدعو الناس عامة في الأسواق ومواسم الحج قائلًا: (أَلا رجلٌ يَحْمِلُنِي إلى قَوْمِهِ، فإنَّ قُرَيْشًا قد مَنَعُونِي أنْ أُبَلِّغَ كَلامَ ربِّي).


افتتحت هذه الآية الكريمة بحرف التوكيد ﴿ إِنَّ الذي دخل على الجملة الاسمية، والاسم الموصول بعدها ﴿ الَّذِينَ اسمها، والجملة الفعلية من الفعل والفاعل ﴿ آمَنُوا صلة الموصول، وجملة ﴿ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا معطوفة على ﴿ آمَنُوا، وجملة: ﴿ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِمتعلقة بالفعل: "جاهدوا".


يذْكُر الحق تعالى هذه النخبة في القرآن ويذكِّر بها ويخصُّها بالأولوية، وقد تحقَّق النصر لها ولغيرها من الأنصار في بَدْر، ويشيد بها وبسابقتها وأفضليتها على غيرها، ويشهد لها بأربع صفات، أولاهن الإيمان الحق بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا؛ أي: تشرَّبتْ[5] قلوبهم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، كما ورد مجملًا في حديث عمر رضي الله عنه إذ سأل جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالْمِيزَانِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَتُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) قَالَ: "فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَنَا مُؤْمِنٌ؟" قَالَ: (نَعَمْ) قَالَ: "صَدَقْتَ")، وكما ورد مفصلًا في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 2 - 4]، وقوله عز وجل: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون: 1 - 6] وقوله سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المعارج: 26، 27].


ثم أضاف الحق تعالى إليهم سابقة أخرى هي الهجرة بقوله تعالى: ﴿ وَهَاجَرُوا فاقوا بها غيرهم من المؤمنين، وميزهم بها عن الذين لم يهاجروا، وعن الذين يهاجرون لدنيا يصيبونها أو شهوات نفس يحققونها، في إشارة واضحة منه تعالى إلى أن الهجرة في سبيله عبادة راضِية مَرْضية ودرجة عالية بعد الإيمان، شرعت للمسلمين تخفيفًا عنهم وفسحًا لمجال انتشار دعوتهم، كلما استأسد عليهم الشر وأولياؤه في أرض انفسحت لهم أرض غيرها.


ثم أضاف الحق تعالى لهذه النخبة المؤمنة الأولى مع صفتي الإيمان والهجرة صفة اقتحامية أخرى هي الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، فقال عز وجل: ﴿ وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ، بأن أنفقوها على تجهيز المجاهدين بالخيل والأسلحة والغذاء، وتوفير حاجات فقراء المسلمين، ﴿ وَأَنْفُسِهِمْ بمباشرة قتال المشركين والدفاع عن المدينة وأهلها ﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ أي: مرضاة لله وحده، لا يراد بذلك إلا أن تكون كلمة الله هي العليا كما قال صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) والجهاد تبعًا لذلك بشقيه المالي والنفسي أهم ما يسخو به المؤمن، في زمن الحاجة إلى المال، والحاجة إلى المدافعة والمغالبة وحماية البيضة، برجال أشداء لا يتخلون أو يجبنون أو يفرُّون.


ثم اتبع الحق تعالى بالمهاجرين إخوانهم في الدين من الأوس والخزرج، فقال عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا وهم أهل بيعة العقبة الأولى وكانوا سبعة، وأهل بيعة العقبة الثانية وكانوا سبعين رجلًا، والذين آمنوا حين قدم عليهم في المدينة أبو زرارة مصعب بن عمير رضي الله عنه، ومن عمَّهم الإسلام فيها عقب هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم.


وحرف الواو في الآية الكريمة ﴿ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا لعطف ﴿ الَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا على ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا، أشركهم الله في الفضل الذي أسبغه على المهاجرين والدرجة التي جعلها لهم، لما آووا ونصروا، ولولا ذلك لم تكن للهجرة فائدة ولا تمكين.


والفعل: ﴿ آوَوْا من "أوى يأوي إواء"، ثلاثة حروف هي الهمزة والواو والياء، تفيد معنيين أحدهما الإشفاق والتحنن، والثاني يفيد التجمع والتجميع، ومنه "التأوِّي" وهو التجمع، فيقال: تأوَّت الطير إذا تجمَّعت وانضم بعضها إلى بعض في مأواها، أعشاشًا في الشجر أو الجدران أو الجبال أو غيرها، قال تعالى: ﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ [الكهف: 10]، وَقَالَ: ﴿ وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ [المؤمنون: 50]، وقال: ﴿ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 19].


ثم وثق عز وجل هذه العلاقة بين المهاجرين والأنصار بما هو أقوى وأشرف وأدوم للدنيا والآخرة، فقال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، فجعل الولاء في الله بينهم عروة وثقى وميثاقًا غليظًا، وتم معنى هذه الآية الكريمة المبدوءة بحرف "إن" واسمها في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا...، وخبرها في قوله عز وجل: ﴿ أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ.


ولفظ "أولياء" جمع "ولي"، والواو واللام والياء أصل صحيح يدل على القرب، ومنه الوَلْيُّ وهو القرب، وفي الحديث الصحيح: (يا غلام، سَمِّ اللهَ وكُلْ بيمينك وكُلْ مما يليك)؛ أي: مما يقربك، ويشتق منه لفظ المولى بمعانٍ كثيرة تتميز بحسب سياقها، ويعني السيد والمتكفل بالأمر ومالكه والمتصرف فيه، والناصر، والقريب، والمعتق، ومنه ولاية النسب وولاية الأب على أبنائه، وولاية العتق وولاية الزوجية وولاية التعاقد بكل أصنافها، إلا أن أقوى ولاية للمؤمن هي ولاؤه لله، وفي الله؛ لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يقول أحدكم مولاي فإن مولاكم الله)، قال الحق سبحانه: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [محمد: 11]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 257].


لقد كان نزول هذه الآيات الكريمة بداية تحوُّل اجتماعي في المهاجرين والأنصار، من أجل دمجهم في مجتمع المدينة وقد أصبح موضوعيًّا مجتمع دولة منتصرة يُهاب بأْسُها، بها ثلاث فئات مؤمنة، لكل منها عصبيتها القبلية الخاصة، هي المهاجرون من قريش، والأوس والخزرج من المدينة، مع أقليات غير مسلمة ينبغي توضيح علاقاتها مع غيرها، في إطار كيان سياسي مُوحَّد، وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يُمهِّد لذلك من قبلُ، حال وصوله إلى المدينة وبنائه المسجد في دار أنس بن مالك، فآخى بين المهاجرين والأنصار فردًا فردًا، مؤاخاة بأثرها في التوارث بين كل أخوين، من ذلك المؤاخاة بين أبي بكر وخارجة بن زهير، وبين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك، وبين عبدالرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ، وبين الزبير بن العوام وسلمة بن سلامة بن وقش، وبين طلحة بن عبيدالله وكعب بن مالك، وبين مصعب بن عمير وأبي أيوب خالد بن زيد، وبين سلمان الفارسي وأبي الدرداء على أرجح الأقوال.


من أجل ذلك انتقل بهم الوحي إلى وشيجة أمتن وأقوى وأعلى وأشرف من وشائج العصبيات السائدة بينهم، قرابة وعرقًا ولونًا وقومًا وقبيلةً ومصالح دنيوية، هي وشيجة الولاء لبعضهم في الله، فظهر أثر هذا الولاء في تكتُّل إنساني متماسك صلب قوي متحرك، ومجتمع فعَّال متفاعل متغير مُغيِّر، تحولت فيه عقيدة التوحيد ربوبية وألوهية وتصورًا من حقيقتها المجردة إلى حياة الناس، وظهر أثرها في مجتمعهم وعلاقاتهم ببعضهم وبغيرهم، نصرة وتناصرًا ورحمةً وتراحُمًا، وتراجعت بذلك إلى حجمها الطبيعي ما سواها من الوشائج والأواصر والروابط، وتم الاندماج العظيم بين جميع فئات المجتمع الجديد بالميثاق الغليظ الأول، ميثاق الولاء في الله، وانعقدت بذلك بينهم أوثق عُرْى الإيمان التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوثق عُرَى الإيمان: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله عز وجل)، وقال: (إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ: أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ)، فكانوا بذلك على خطى الأنبياء والأصفياء والمصطفين من عباد الله قبلهم، من الذين أخذت منهم المواثيق الغليظة وارتبطوا أنفسَهم بالولاء لله، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب: 7] كما ارتبط بذلك من قبل أبوهم آدم عليه السلام وذريته في الملأ الأعلى بقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف: 172]، وارتبطت به قبلهم جميعًا السموات والأرض في قوله عز وجل: ﴿ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت: 11]، وقامت به بعد ذلك العلاقة الشرعية الوحيدة المرضية عند الله للتكاثر بين الناس، بين كل زوجين أفضيا إلى بعضهما بميثاق غليظ في قوله تعالى: ﴿ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء: 21]، وانبثق منه الولاء بين المؤمنين جميعًا على مدى مسيرتهم في الأرض؛ إذ كلهم أولياء لبعضهم في الله، محبة وتعاونًا وتكافلًا وتناصُحًا ونصرة، قال تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة: 71]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة: 55، 56]، وقال عز وجل: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 257].


ثم أضاف تعالى في سورة الحديد إلى المهاجرين والأنصار صفة أخرى ليست لغيرهم هي فضيلة السبق إلى الإنفاق في سبيل الله قبل فتح مكة وقبل الإذن بقتال المشركين، بقوله تعالى: ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد: 10]، وقوله عز وجل: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة: 100]، وقوله سبحانه: ﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة: 10 - 14]، وأسبق السابقين إلى هذه الفضيلة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وقد أنفقت على رسول الله وعلى دعوته إلى أن توفَّاها الله تعالى إليه، وقال عنها صلى الله عليه وسلم:(واسَتْني بمالِها إذ حرَمَني الناسُ) وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، الصبي الذي خدمه ورافقه، وتربَّى في كنفه، وكتب له منذ بدء الوحي في غار حراء[6]، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه أول من أنفق أمواله لتحرير المستضعفين الذين كانت قريش تعذبهم في الرمضاء، وعثمان رضي الله عنه وقد جهَّز جيش العسرة، ففاقوا بذلك من سواهم من المسلمين في جميع العصور، بما سبقوهم إليه من البذل والبر والخيرات، وقال فيهم عز وجل: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100]؛ ولذلك دأب الوحي الكريم يشيد بهم ويضرب المثل بصدقهم وإقدامهم ويقول عنهم: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح: 29]، وثابر الرسول صلى الله عليه وسلم يحرض المؤمنين في كل مناسبة على الاقتداء بهم ومسابقتهم إلى العمل الصالح والاستنان بسنتهم ويقول: (مَنْ سَنَّ في الإسلام سنةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء)، ويدعو إلى اتخاذ ثباتهم على الإيمان وسخائهم بالبذل قدوة كلما انتقضت عرى الدين واغترب أهله واقتضت الضرورة رتق العرى وإعادة البناء ويثني عليهم قائلًا: (خيركم قرني)، ويدافع عنهم قائلًا: (لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفس محمد بيده، لو أنفق أحدُكم مثل جبل أُحُد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصيفه).
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.06 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.44 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.69%)]