ومثله قوله في البيت الثالث من الأبيات التالية:
ولست بدونٍ يرتجي الغيث دونَه

ولا منتهى الجودِ الذي خلفه خلفُ
ولا واحدًا في ذا الورى من جماعةٍ

ولا البعض من كل ولكنك الضعفُ
ولا الضعف حتى يبلغ الضعف ضعفه

ولا ضعف ضعفِ الضعفِ، بل مثله ألفُ
أقاضيَنا، هذا الذي أنت أهلُه

غلطت، ولا الثلثانِ هذا، ولا النصفُ
فأي براعة هذا الذي يفعله المتنبي بهذه الألفاظ الحسابية!
إن الرجل بهذا كأنه يسبح في الهواء، ولا أدري كيف فات هذا كله المرحوم محمد كمال حلمي، وهو الرجل الذوَّاقة للأدب، والذي أرى أن كتابه عن المتنبي من أمتع ما كتب عن هذا الشاعر؛ إذ قال: (ألا ترى كيف انتقلنا من الشعر والخيال إلى عمليات حسابية ومسائل رياضية، بل وإلى متواليات هندسية لا تحلها كتب اللغة، وإنما تحلها جداول اللوغاريتم)[8].
لقد فاتته رحمه الله هذه البراعة التي حول بها المتنبي هذا الألفاظ الحسابية إلى موسيقا مجلجلة أبرزت لنا تفوُّق ممدوحه الساحق على الناس كل الناس، إن في الكلام مبالغة شديدة، ولكنها مبالغة بارعة.
وفي أحيان أخرى نشعر كأن المتنبي، بتكريره اللفظة في البيت الواحد، كأنه ممسك بإبرة يخزُّ بها من يهجوه، وقد تقوم حروف الكلمة المكررة بوظيفة التجسيد لمعنى البيت، كما تفعل (القاف واللام) في البيت التالي:
فقلقلت بالهمِّ الذي قلقل الحشا *** قلاقل عيس كلهن قلاقلُ
(قلاقل عيس: خفاف إبل).
إن الإنسان ليكاد يشعر بالخضخضة بعد قراءة هذا البيت عدة مرات متتابعة، إنه القلقلة مجسمة، جسمها تكرر القاف واللام متتابعين عدة مرات، ومن مهارة المتنبي أنه - من بين صفات النُّوق التي تدل على السرعة والخفة - قد اختار عمدًا الصفة (قلاقل)، لتوحي بـ(القلقلة) بحروفها، وإن لم تدل عليها بمعناها، فإذا عرَفنا أن هذا البيت من قصيدة قالها في صباه[9]، وهو ما ينطبق على عدة أبيات أخرى بهذا الشكل، تأكد لنا أن المتنبي كان واعيًا لقيمة هذا التكرير في شعره منذ فترة مبكرة من حياته.
ومثل ذلك قوله في بيت آخر:
أرقٌ على أرقٍ ومثلي يأرقُ *** وجوى يزيدُ وعَبرةٌ تترقرقُ
الذي عاب تكرر (القاف) في شطرته الأولى الدكتور صلاح عبدالحافظ[10]، مع أن تكرارها يجسم الأرق تجسيمًا، بل إنه ليطرد النوم عن العيون طردًا.
كذلك لا أحسبني مخطئًا إذا قلت: إن المتنبي قد أراد بهذا التكرير عمومًا أن يلفت أسماع جمهوره وأبصارهم، إنه المتنبي الذي يحب دائمًا شغل الناس به وبشعره!
فهذا عن النوع الأول من التكرير الموجود في شعر المتنبي.
أما النوع الثاني[11] فهو كما قلت تكرير لفظ أو عدة ألفاظ في بيت واحد أو في بيتين وعدة أبيات متتابعة أو متقاربة، تكريرًا متناظرًا، وهو كثير عند المتنبي، ومن أمثلته قوله في مدح سعيد بن عبدالله بن حسن الأنطاكي:
ذاك الجواد وإن قل الجوادُ له
ذاك الشجاعُ وإن لم يرض أقرانا
ذاك المعدُّ الذي تقنو يداه لنا

فلو أصيب بشيءٍ منه عزَّانا
(تقنو يداه لنا: تقتني الأموال لتعطيها لنا).
وقوله يمدح علي بن محمد بن سيار بن مكرم التميمي:
بنفسي الذي لا يزدهي بخديعةٍ

وإن كثرت فيها الذرائع والقصدُ
ومن بعده فقر
ومن قربه غنى
ومن عرضه حر،
ومَن ماله عبدُ
وقوله يصف مهره:
بز المذاكي وهو في العقائقِ
وزاد في الساقِ
على النقانقِ
وزاد في الوقع
على الصواعقِ

وزاد في الأذن
على الخرانقِ
وزاد في الحذر
على العقاعقِ

يميز الهزلَ من الحقائقِ