
03-06-2023, 03:57 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة :
|
|
رد: تفسير سورة الأنفال (الحلقة الثامنة) سياسة السلم والحرب والعهود وفاء أو نقضا أو نب
لقد بيَّن الحق تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات الحكيمة كيف يعامل الذين نقضوا عهده وخانوه خفيةً وسِرارًا، فيناجزهم الحرب والتأديب، ويُشرِّد بهم من خلفهم، إلا أن في أعدائه المحيطين به من لم ينقضوا له عهدًا ولم يخونوا له ذمةً على رغم عداوتهم الخفية وتنمُّرهم المكتوم، ولا ينبغي أن يستنيم لهم، كما لا يجوز أن يعاملوا بما عومل به نَقَضة العهود وخونتها؛ ولذلك خاطب الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم في شأنهم مرشدًا ومعلمًا بقوله: ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً ﴾ [الأنفال: 58]؛ أي: وإن توقعت من الذين عاهدتهم غدرًا ونقضًا للعهد بما توفر لك من الدلائل والقرائن فلا تنتظر حتى يفاجئوك بالحرب وأنت غير مستعد لها، ولا تأخذهم على غِرَّة فتخون عهدك معهم، ولكن ﴿ فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾ [الأنفال: 58] أعلمهم بفسخ عهدك معهم، عدلًا منك في معاملتهم، وترفُّعًا عن خيانة العهود التي يبغضها الله ويأباها لعباده، وتوفيرًا لظروف متساوية في الدفاع والمدافعة بينك وبينهم، وعبَّر تعالى عن فسخ العهد بنبذه؛ أي: برميه، كما ترمى نواة التمرة بعد أكلها، أو يزهد في متلاشي الأدوات ومزق الأثواب، ازدراء بناقضي العهود وخونتها، واحتقارًا لقدرهم ومقامِهم، واستعلاء بأخلاق الإسلام التي تحضُّ على الوفاء في كل الأحوال، ولا تبيح الغدر والخيانة أو ترضى أن يُوصَم المؤمن بهما في أي حال، وعملًا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((من كان بينه وبين قوم عهد، فلا يحُلَّنَّ عقدة ولا يشدها حتى يمضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء))، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تَخُنْ مَنْ خانك))، وما كرسته سورة براءة شرعًا عامًّا وقانونًا ملزمًا عندما خرج رسول الله إلى تبوك، وجعل المنافقون يُشيعون الأراجيف، والمشركون يتسارعون في الخيانة، فأمر تعالى بنبذ جميع عهودهم إليهم، وجعل لهم أجلًا أربعة أشهر بعدها لا يكون بينهم وبين المسلمين عهد أو ميثاق، وقال عز وجل: ﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ﴾ [التوبة: 1، 2]، وما سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نقضت قريش عهدها معه، واعتدت على حلفائه من خزاعة، فأرسلوا عنهم عمرو بن سالم الخزاعي يصرخ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة قائلًا: "إن قريشًا أخلفتك الوعد، ونقضت ميثاقك"، ولما جاء أبو سفيان إلى المدينة يُبرِّر نقض العهد رفض رسول الله مقابلته، وأعَدَّ لغزوهم في مكة وفتحها عنوة، واستئصال شر المشركين بها.
لقد بيَّن الله تعالى لرسوله الكريم في هذه الآيات البيِّنات كيف يعامل المشركين في ساحة المواجهة الحربية بقوله تعالى: ﴿ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأنفال: 57]، وكيف يعامل أهل العهد والمواثيق فقال: ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ﴾ [الأنفال: 58]، وبقيت طائفة أخرى من المشركين في مكة عليها رأس الكفر والعداوة للإسلام، أبو سفيان بن حرب بن أمية الذي فَرَّ من بدر بعِير المشركين فلم يشهد مقاتل نظرائه من جبابرة قريش، وكان صلى الله عليه وسلم يتمنَّى حضوره معركتها لينال فيها ما نال عتاة أصحابه؛ لذلك جاءه الوحي الكريم في هذه الطائفة يتوعَّدها، ويُهدِّئ من روعه، ويُوجِّهه في أمرها بقوله عز وجل: ﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا ﴾ [الأنفال: 59]، والذين كفروا هم مشركو قريش يجيشون في مكة لحرب المسلمين؛ أي: لا يظنَّنَّ الكفار الذين سبقوا للنجاة وهربوا بعِير قريش[2]، والذين تخلفوا عن بدر فلم يحضروها؛ كأبي لهب ومن بقي في مكة فلم يقاتل، أنهم بمنجاة من القتل والأسر والهزيمة ﴿ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ ﴾ [الأنفال: 59]، إنهم لا يستطيعون منعنا من إدراكهم وإهلاكهم في الدنيا، والانتقام منهم في الآخرة، قال عز وجل: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [العنكبوت: 4].
ثم عقب تعالى على هذا التوضيح فأمر بالاستعداد الفوري لمناجزتهم بقوله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾ [الأنفال: 60]؛ أي: هيئوا لحربهم كل ما تستطيعون من القوة، وبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر طبيعة هذه القوة وصنفها بقوله ثلاثًا: ((ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي))، وهي قبل الرمي بالنِّبَال والرماح ومعها، قوة في القلوب إيمانًا واحتسابًا وصبرًا ومصابرة وتوكلًا وثباتًا، وفي العزيمة صلابةً ورشدًا، وفي الخبرة عمق فهم وتدبير وتخطيط، وفي الأدوات ما يدحر العدو ويكسر شوكته، ثم أضاف عز وجل أدوات أخرى للحرب بقوله: ﴿ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ﴾ [الأنفال: 60]؛ أي: ومن الخيل تربطونها للجهاد في سبيل الله مجهزة بكامل أدوات الحرب، قال صلى الله عليه وسلم: ((الخيل ثلاثة: ففرس للرحمن، وفرس للشيطان، وفرس للإنسان، فأمَّا فرس الرحمن فالذي يرتبط في سبيل الله فعلفه وروثه وبوله في ميزانه، وأما فرس الشيطان فالذي يقامر أو يراهن عليه، وأما فرس الإنسان فالفرس يرتبطها الإنسان يلتمس بطنها فهي ستر من الفقر))، ويدخل في حكم هذا الرباط في كل عصر ما يقوم مقامه من المراكب الحربية المختلفة المناسبة لعصرها وظروفها ﴿ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ ﴾ [الأنفال: 60]، تخيفون به أعداء الله الذين يصُرُّون على الكفر والخيانة والغدر ﴿ وَعَدُوَّكُمْ ﴾، كفار قريش وحلفاءهم من اليهود ومختلف القبائل العربية المتحالفة لحربكم، ﴿ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ﴾، وغيرهم ممن يعلمهم الله ولا تعلمونهم، سمعوا بقوتكم وانتصاركم فتوجَّسوا خيفةً منكم، ولم يتجرؤوا على مهاجمتكم، في إشارة إلى القبائل العربية البعيدة في أطراف الجزيرة وإمبراطوريتي الفرس شرقها والروم شمالها.
ومن عجيب الإعجاز القرآني في هذا الإعداد الحربي الذي أرشد إليه القرآن أنه بدأ بإعداد القوة وهي الرمي؛ أي: تكثيف الرمي بالسهام في بداية الحرب التقليدية لتحطيم معنويات العدو أولًا، ثم يتبعه الهجوم البري بالخيل والمشاة مباشرةً؛ لكسر شوكته واحتلال أرضه، وكذلك الحروب الحديثة لا يفيد سلاح الطيران وحده عند إرادة السيطرة على الهدف موقعًا في أرض أو مؤسسة إلا في إنهاك العدو وإرباكه، ثم يتدخل السلاح البري مشاة ودبابات للسيطرة والتمكين.
إن هذا الإعداد التام الشامل أمر من الله تعالى، والأمر للوجوب، وما لا يدرك الواجب إلا به فهو واجب، إلا أنه لا يكون أي إعداد للجهاد دفعًا أو طلبًا إلا بتوفير نفقاته؛ ولذلك خاطبهم الله تعالى مُحرِّضًا على الإنفاق في سبيله واعدًا بالإخلاف عليهم بخير مما أنفقوا، فقال: ﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ ﴾، في الجهاد سواء أكان مالًا أو ركوبة أو أسلحة أو إطعامًا للمجاهدين أو غير ذلك من حاجات الحرب وضروريات القتال ﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ خالصًا لله لا يراد به سمعة أو رياء أو مصالح دنيوية ﴿ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ﴾، يعطاكم أجره في الدنيا والآخرة كاملًا غير منقوص ﴿ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾، لا تبخسون حقًّا أو ثوابًا، قال الله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أنفقَ نفقةً في سبيل الله كتبت له سبعمائة ضعف))؛ لذلك كان الجيل القرآني الأول أغنياء وفقراء يساهمون في تجهيز غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، كل حسب طاقته، تبرع عثمان رضي الله عنه في تبوك بتسعمائة بعير بأحلاسها وأقتابها ومائة فرس وألف دينار، وتبرَّع أبو بكر رضي الله عنه بأربعمائة درهم هي كل ماله.
لقد صنفت هذه الآيات الكريمة أعداء الإسلام في العهد النبوي أصنافًا وبينت ما ينبغي في حقهم، صُنِّف خونة يعاهدون ويخونون جهارًا، وصُنِّف معاهدون لا تستقر عهودهم، كوَرِكٍ على ضِلْع، يترقبون غفلة ليخونوا، وصُنِّف مجاهرون بالعداوة محاربون، علاج أمرهم قوله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ ﴾ [الأنفال: 60].
إلا أن من هذا الصنف المجاهر بالعداوة والمحاربة من قد يختارون مسالمة المسلمين، حكمة منهم وحسن تقدير، ولكون الإسلام دينًا للسلم في جوهره وطبيعته ومَبْناه وأهدافه، ينبغي قبول السلم منهم إن عرضوه؛ لذلك قال تعالى في حقهم: ﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ﴾ [الأنفال: 61] والواو في قوله تعالى: ﴿ جَنَحُوا ﴾، لجماعة المحاربين من الأعداء، وفعل الأمر ﴿ فاجْنَحْ ﴾، موجه للرسول صلى الله عليه وسلم في قيادته لجيش المؤمنين، والآية بذلك تشريع إسلامي ملزم لنشر الأمن والسلام في ظل العدالة والكرامة والحرية، وهو ما أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته للإمام علي كرَّم الله وجهه بقوله له: ((إنه سَيَكُونُ بِعْدِي اخْتِلَافٌ - أَوْ: أَمْرٌ -فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَكُونَ السِّلْمُ، فَافْعَل))، وما وجه إليه القرآن في معاملة غير المسلمين مطلقًا بقوله تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8]، وحروف الجيم والنون والحاء في الفعل "جنح" من قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ جَنَحُوا ﴾، أصل ثابت يدل على الميل، فيقال: جنح عن الشيء إذا مال عنه، وجنح إليه: إذا مال إليه، ومنه سمي الجناح جناحًا لميله عند الطيران، وسمي الميل عن الصواب نحو الإثم جُناح بضم الجيم، كما في قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 158]، والسَّلم لفظ مؤنث كلفظ الحرب، يعني: السلام والمسالمة والأمن، ضد الحرب والمحاربة والخوف، قرأها نافع وأبو جعفر وابن كثير والكسائي بفتح السين: ﴿ للسَّلْم ﴾، وقرأها شعبة عن عاصم بكسرها، وهو ما أمر الله به عباده المؤمنين بقوله عز وجل: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾ [البقرة: 208]؛ أي: آثروا الأمن والسلام والمسالمة ما آثرها عدوكم وأمنتم مكره وغدره وظلمه، وما بيَّنه قوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ﴾؛ أي: إن مالوا إلى المسالمة والصلح معك يا محمد فاستجب لهم ومِلْ كذلك إليه، ووفِّ لهم بما عاهدتهم عليه، والتعبير بحرف "إنْ" تضعف احتمال جنوح المشركين إلى السلم إلا لخديعة؛ لما جُبِلوا عليه من الخيانة؛ ولذلك ربط قبول السلم منهم بالتوكُّل على الله وتفويض الأمر عليه، فقال عز وجل: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ [الأنفال: 61]: اعتمد على الله يبارك لك جنوحك معهم إلى السلم ويحفظك من شرهم وغدرهم.
﴿ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾: سميع لما يُسِرُّه أعداؤك، عليم بما يمكرون، يسمع أقوالك وأقوالهم، ويعلم نواياك ونواياهم ﴿ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ ﴾ [الأنفال: 62]، وإن كان اختيارهم المسالمة خديعة ومكرًا ﴿ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ﴾ [الأنفال: 62]، فإن الله حسيبك وكافيك أمرهم، ﴿ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ ﴾ [الأنفال: 62]، هو الذي نصرك من قبل في بدر؛ إذ أعانك بالملائكة ووفَّقك إلى مقاتل المشركين وألقى الرعب في قلوبهم ﴿ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ إذ كتب في قلوبهم الإيمان وألهمهم محبتك وطاعتك والثبات في صفك فأيدوك وقاتلوا معك ﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ﴾ [الأنفال: 63]، وحبَّبَهم بعضهم إلى بعض، وجعلهم كالجسد الواحد إذا اشتكى له عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، إشارةً إلى ما كان بين الأوس والخزرج من العداوة في الجاهلية فوحَّد الإسلام قلوبهم، وأصبحوا بنعمة الله إخوانًا، وتوجيهًا غير مباشر لعامة المسلمين في كل عصر ومصر إلى ما يوحِّد صفوفهم، ويقوِّي شوكتهم من المحبة والمودَّة والتسامح وجمع الكلمة ووحدة الصف، كما في قوله تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ﴾ [آل عمران: 103]، وتأكيدًا على أهمية وحدة القلوب داخل الأمة الواحدة، والوطن الواحد والأسرة الواحدة، وأثر ذلك في متانة صف الجهاد تأسيسًا وبناءً وطلبًا ودفعًا، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾ [الصف: 4]؛ ولذلك امتنَّ تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم تذكيرًا بفضله؛ إذ ألَّف قلوب المؤمنين على محبته وطاعته ونصرته، فقال له: ﴿ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ﴾ [الأنفال: 63]، كما امتنَّ من قبل على عيسى بن مريم عليه السلام؛ إذ ألَّف قلوب الحواريين على محبته، وقال له: ﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ﴾ [المائدة: 111]؛ وذلك لأن القلوب بيد الله يصرفها محبة أو بغضًا، ولاء أو براءً، ميلًا أو نفورًا، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث شاء))؛ أي: يصرف حبه وبغضه، ولاءه وبراءه، نصرته وخذلانه حيث يشاء ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾ [الأنفال: 63]، ألف بين قلوبهم على محبتك ونصرتك والجهاد تحت رايتك، لما صدقوا الله الإيمان وصدقوك الطاعة ﴿ إِنَّهُ عَزِيزٌ ﴾، له العزة جميعًا والقدرة البالغة والغلبة المطلقة، لا يرضى لعباده إن صدقوه الإيمان إلا العِزَّة نصرًا وغلبةً؛ لأن عِزَّتَهم من عِزَّتِه وغلبتهم من غلبته، قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8]، وقال: ﴿ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 35]، وهو تعالى مع عِزَّته كذلك ﴿ حَكِيمٌ ﴾ في تصريفه للقلوب وتصرُّفِه فيها، مطلق المشيئة والإرادة.
نسأله تعالى العفو والعافية في تدبيره لنا وللمؤمنين، بحكمته البالغة يقلب القلوب من النفرة إلى الأُلْفة، ومن المحبة إلى البغضاء، لعلم يعلمه وتقدير يقدره، وحكمة بالغة لا يعرفها غيره، وليس للمرء إلا أن يدعو بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتداء به وتسليمًا فيما رواه شهر بن حوشب قال: قلت لأم سلمة رضي اللّه عنها: يا أم المؤمنين، ما أكثر دعاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه: ((يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّتْ قلبي على دينك)).
[1] هم كما في رواية لابن عباس نفرٌ من عبد الدار بن قصي قتلوا في بدر.
[2] كان على رأسهم أبو سفيان.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|